تحدثنا في المقالة السابقة، عزيزي القارىء، عن أن دعوة الرب يسوع لنا لنكون كاملين ودعوة الرسول بطرس لنا لنكون قديسين نظير القدوس الذي دعانا ودعوات الرسولين بولس ويوحنا لنا لأن نسلك كأولاد نور وأن نسعى لنكون مشابهين صورة يسوع ولأن نسلك كما يحق للدعوة التي دعينا بها.... كل هذه الدعوات الكتابية وغيرها الكثير، إنما لا يمكننا اقتطاعتها أو حذفها من كلمة الله الحية ولا من سعينا اليومي الدؤوب لتحقيقها والعيش بموجبها في طريق سعينا نحو أن نحيا الحياة المسيحية الفضلى. بل انها في الحقيقة تمثل جوهر الحياة المسيحية في قوتها ونقاوتها ونضارتها حتى وإن بدا الأمر للكثيرين منا مُجرّد أحلام أو تمنيات، فالحقيقة تظل هي الحقيقة، ولا بد لنا أن نعترف أن المشكلة إنما هي فينا نحن وليست بأي حال هي مشكلة الله "الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين" و..."جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه" وهذا هو ما تعلنه لنا الكلمة المقدسة بجلاء ووضوح شديدين. نعم، إن الله الذي خلصنا ودعانا دعوة مقدسة إنما هو يريدنا أن نتبعه في قداسته ونصير بحسب كتابة الرسول بطرس: "شركاء الطبيعة الإلهية هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة". ومن الطبيعي أن الذي يبدأ مع الله الطريق هنا ويبدأ في نوال تلك النعمة المُغيرة والمطهرة، إنما هو وحده الذي سيكون جديرا لأن يصطحبه الله معه في الأبدية السعيدة.
لكن رُب سائل يسأل: من أين لنا في برية الحياة القاحلة التي نحياها بحياة مقدسة وأمينة مع الله؟ وكيف لنا كبشر ناقصين أن نبلغ حياة القداسة والاستقامة ونحن نعيش في عالم الشر والخطيئة والرذيلة؟ ودعني أذكرك بداية عزيزي القاريء أن أرض البشر لم تكن يوما أقل شر، وأن آباءنا القديسين الذين سبقونا لم يكونوا بأي حال أوفر حظا منّا فيما يتعلق بخلو عالمهم الذي عاشوا فيه سواء من شر الانسان أو من إغراءات الخطية ومحاربة الجسد والشهوات والشيطان لهم كي يسقطوا في الخطية ويعانون من ويلاتها، وعلينا ألا ننسى أن مُحاربتنا إنما هي مع قوي وأجناد شر روحية أقوى منا، وهذه القوى إنما هي تستهدف الانسان وتريد أن تُدمره وتقضي عليه وتفقده أبديته وحاضره ومستقبله. وهذه هي الحرب الروحية المعلنة على الله واتباعه منذ سقوط آدم الاول مرورا بآدم الثاني، يسوع ابن الانسان الذي أتى وصالحنا مع الله الأب بدم ابنه وفتح لنا الطريق لنعرف الله ونختبر حياة القداسة، وحتى المجيء الثاني لابن الله في مجده في اليوم الأخير ليختطف المفديين ويكملهم ويمجدهم ليكونوا معه الى أبد الآبدين. إن إدراكنا الصحيح لمثل هذه الأمور لهو كفيل أن يُعقّلنا وأن يُحكّمنا لمواجهة ما نحن فيه الآن وما هو قادم علينا في طريق مسيرنا مع الرب. والآن يأتي السؤال الأخير الذي هو قمّة الحديث وبيت القصيد: إن كانت دعوة الله لي أن أحيا حياة القداسة وإن كان بمقدوري ذلك فما هي الخطوات التي عليّ اتّباعها لأحيا حياة القداسة؟ وللإجابة على هذا السؤال الهام أقول باختصار:
ـ اعرف اولا عن معنى القداسة
إن لكلمة القداسة في الكتاب المقدس معان كثيرة متنوعة حريّ بنا أن نلتفت إليها إن كنت نريد بحق أن نفهم ونعيش حياة القداسة. فالقداسة تعني في اللغة الكتابيّة تعني عكس النجاسة وهو ربما المعنى الأقرب لأذهاننا ولفهمنا، لكنها كتابيّا تعني أيضا المادة غير المكونة من اختلاط عنصرين معا (كالمعدن النفيس والشوائب مثلا) وهي تعني أيضا التخصيص والتكريس (ومن العبارات الأكثر شيوعا في العهد القديم: قُدس للرب وهي تعني وقف الآنية أو النفس أو الجسد أو ما شابه ليكون مخصصا للرب أو لاستخدام الرب فقط له). لذا عليك صديقي القارىء أن تفحص قلبك وحياتك لتتأكد أنك دوما وقفا للرب وحده ولا سواه. كما أن عليك أيضا أن تتجنب كل طرق الشر والرذيلة وأن تعرف الرب عن قرب وتقترب منه أكثر ليعطيك لا أن تعرف عن القداسة بل أن تحياها عمليا.
ـ ثق أنك مدعو لتحيا حياة القداسة
فإن أنت أدركت أن الله يدهوك بحق لها فلتدرك أيضا أن من دعاك لذلك فهو وحده يريد بل وقادر أن يعينك لتحياها.
ـ اشتهي واعمل على أن تمجد الرب في كل ما تعمله
اعمل مادمت حيا وفي كل لحظة من لحظات حياتك أن تمجد الله في كل صغيرة وكبيرة في حياتك. اسأله ما الذي يريده منك وما الذي لا يمجده في حياتك واطلب منه القوة والمعونة لتتجنبه وتتغلب عليه وهو سيباركك وسيساعدك لتحيا وفق مشيئته لحياتك.
ـ اطع الله في كل صغيرة وكبيرة في حياتك مهما كلفك الأمر
نعم، فالطاعة هي مفتاح الكمال وهي الشرط اللازم لبلوغ الاهداف الروحية المرجوة ومن لا يعرف الطاعة لن يكون بمقدوره ارضاء الله بأي حال من الأحوال.
ـ درّب إيمانك ووسّع دائرة ثقتك بالرب
تحتاج حياتنا مع الرب إلى الإيمان الذي هو الوقود الذي يدفع حياتنا للأمام لذا ثق أن الذي وعد هو أمين ومع تقدمك في العمر ثق يوما فيوم ان لا أحد جدير بنوال ثقتك والاتكال عليه تماما الا الرب ولا تنس أنه "بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه" وإن نقص رصيد إيمانك أطلب منه فيعطيك من جديد.
ـ لا تفشل، راقب تصرفاتك وان سقطت تب وقم
لاحظ تقدمك ونجاحاتك لكن اعلم أيضا أننا نحن معرضون دوما للسقوط لكن الحكيم فينا ليس هو من لا يسقط لكنه هو الذي يقوم بمجرد أن يسقط وينفض عنه تراب السقوط والهزيمة والفشل ويبدأ من جديد. "لا تشمتي بي يا عدوتي إن سقطت أقوم ...."
ـ انمُ دوما في النعمة وفي معرفة الرب
وهذه هي الوصية الدائمة لكل من عرف الرب فكما أن الطفل ينمو والصغير يكبر ويزداد في العلم والمعرفة والنضج فإننا في طريق القداسة يكون علينا النمو في معرفة الرب والاقتراب منه وكلما ازددنا في ذلك كلما صار بمقدورنا ان نحيا حياة القداسة أكثر فأكثر.