إنتهج الآباء المسيحيون واللاهوتيون منذ أواخر القرن الثاني الميلادي، بأن يعبروا عن الأسفار النبوية الموحى بها قبل العهد الجديد بـ "العهد القديم" أو "كتاب العهد القديم"؛ وأسفار الإنجيل، الأعمال، الرسائل والرؤيا، انتهجوا تسميتها بالعهد الجديد.
فهل كناية "العهد القديم"، هي أدق كناية لتلك الأسفار من ناحية لاهوتية؟؟
استننبطت هذه التسمية من وحي العهد الجديد، من نصين أساسيين، هما:
"14 (عن اليهود) بَلْ أُغْلِظَتْ أَذْهَانُهُمْ، لأَنَّهُ حَتَّى الْيَوْمِ ذلِكَ الْبُرْقُعُ نَفْسُهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ <<<الْعَهْدِ الْعَتِيقِ>>> بَاق غَيْرُ مُنْكَشِفٍ، الَّذِي يُبْطَلُ فِي الْمَسِيحِ" 2 كورنثوس 3.
أيضًا في وحي سفر العبرانيين يؤكد على تسمية العهد الجديد، حيث يستشهد بنص إرميا 31: 31-34، في سفر عبرانيين، ويقول:
"8 لأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ لاَئِمًا: «هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، حِينَ أُكَمِّلُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْدًا جَدِيدًا....13 فَإِذْ قَالَ «جَدِيدًا» عَتَّقَ الأَوَّلَ. وَأَمَّا مَا عَتَقَ وَشَاخَ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الاضْمِحْلاَلِ" عبرانيين 8.
وتسمية الأسفار السابقة بـ "العهد القديم" تأت لإظهار ارتباطها وعلاقتها بوحي العهد الجديد. لكن هل اطلاق كناية "العهد القديم" على جميع أسفار الوحي قبل العهد الجديد، دقيقة بحسب الآيات؟
أعتقد أن إطلاق كناية "العهد القديم" لكل أسفار الوحي قبل مجيء المسيح تحتاج لإعادة تقييم؛ نظرًا لوجود حيثيات كثيرة يجب أن يعيد النظر فيها جميع اللاهوتيين المسيحيين اليوم، وذلك لخمس أسباب:
أولا، النصَّان في الآيات أعلاه، يتكلمان فقط عن عهد الله مع موسى، والناموس:
فالنص الأول، 2 كورنوثوس 3: 15، يؤكد أنه يتكلم عن عهد موسى في جبل سيناء، في الآية قائلا: "حِينَ يُقْرَأُ مُوسَى."
والنص الثاني من سفر العبرانيين 8، أيضًا يتكلم سياق الأصحاح عن عهد موسى:
"5 الَّذِينَ يَخْدِمُونَ شِبْهَ السَّمَاوِيَّاتِ وَظِلَّهَا، كَمَا أُوحِيَ إِلَى مُوسَى وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَصْنَعَ الْمَسْكَنَ. لأَنَّهُ قَالَ: «انْظُرْ أَنْ تَصْنَعَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ الْمِثَالِ الَّذِي أُظْهِرَ لَكَ فِي الْجَبَلِ»"
والنصان يتكلمان على بطلان فعالية التقرب لله من خلال ناموس موسى، ناموس الذبائح؛ بعد كفارة الخطية التي قدمها الله من خلال فداء المسيح، فوجد فداءً أبديًا. نعم عهد الله مع موسى، عهد الناموس والذبائح، هو العهد القديم؛ وتسميته كذلك سليمة مئة بالمئة بحسب الآيات السابقة. لكن هل جميع أسفار الوحي قبل العهد الجديد، هي عهد الله مع موسى فقط؟؟ وهذا يقودنا للنقطة القادمة.
ثانيًا، الأسفار السابقة لا تحتوي فقط على عهد واحد:
أيضًا تصور الكناية بشكل غير دقيق، أن جميع الأسفار النبوية التي قبل المسيح تحتوي على عهد واحد - عهد موسى والناموس. هل هذا صحيحًا؟؟ فبالرغم من أن العهد القديم حكم جميع اليهود من موسى للمسيح، إلا أن تلك الأسفار تضم عهود عديدة، بعضها ليومنا هذا. وهي على الأقل 5 عهود لا خلاف عليها بين المسيحيين:
عهد الله مع آدم (تكوين 1: 16-17)؛ عهد الله مع نوح (تكوين 9: 11)؛ عهد أو عهدي الله مع إبراهيم (تكوين 12: 2-3 و15: 1-14 و17: 1-8)؛ عهد الله مع موسى (خروج 19: 5-6)؛ وعهد الله مع داود (2 صموئيل 7: 12-16).
حتى المسيح لم يشر للأسفار كعهد واحد، بل ميزها بناموس موسى، الأنبياء والمزامير، حيث قال للتلاميذ: "44 ... لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِيرِ." لوقا 24.
من جهة تسمية المسيح "ناموس موسى، الأنبياء والمزامير"؛ الأسئلة المطروح هنا هي:
هل هذه العبارة تمثل كل الأسفار؟ أم فقط التى تنبأت عن المسيح؟ نظرًا لعدم وجود نبوات مباشرة عنه في الأسفار التاريخية التي لم يذكرها.
فإذا نقلت أسفار الوحي التي قبل مجيء المسيح على الأقل 5 عهود، كيف تسمى جميع الأسفار إذا بالعهد القديم؟؟ لماذا لا تسمى "كتاب العهود القديمة" مثلا؟؟ وهل عهد الله مع إبراهيم الذي قال له فيه "4 أَمَّا أَنَا فَهُوَذَا عَهْدِي مَعَكَ، وَتَكُونُ أَبًا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ" تكوين 17 (أيضًا 26: 4)؛ قد أصبح قديمًا، أم تحقق بالمسيح؟؟ نرى أنه تحقق بالمسيح. ويؤكد هذا بطرس ذاته، عندما قال لليهود: "25 أَنْتُمْ أَبْنَاءُ الأَنْبِيَاءِ، وَالْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ بِهِ اللهُ آبَاءَنَا قَائِلاً لإِبْراهِيمَ: وَبِنَسْلِكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ" أعمال 3 (أيضًا غلاطية 3: 8).
فكيف يصبح العهد الابراهيمي العالمي مثلا قديمًا، وهو وجد قبل عهد ناموس موسى، وقد تحقق واستُكمل في المسيح وعهده الجديد؟؟
ثالثاً، كناية "العهد القديم" ليست مقبولة في إطار البحث مع اليهود:
اليهود يعتبرون كناية "العهد القديم" التي يستخدمها المسيحيون، مسيئة وغير مقبولة؛ حيث تقلل من شأن وحيهم المقدس. ولا يقصد المسيحيون طبعًا الإسائة لـ "وحي اليهود"، لأنه يشكل قرابة 80% من وحينا المقدس. أيضًا انتهج اليهود المسيحيون، أي المؤمنين بالمسيح يسوع، بأن يسموا الأسفار القديمة بـ "تناخ"، وهي التسمية العبرية (وهي اختصارًا للتوارة، الأنبياء والكتابات)، لكي يتخطوا الحواجز والعثرات في الشهادة لشعبهم اليهودي. وأيضًا انتهج معظم الباحثين الأكاديميين لاستخدام كناية "الكتاب العبري" (The Hebrew Bible)، بدلاً من كناية "العهد القديم" في إطار البحث العلمي. وهي كناية مقبولة وعلمية أكثر في إطار البحث العلمي للكتاب. وهذا ما حفزني لطرح هذا الموضوع الهام الذي فكر به كثيرون قبلي. لكن كناية "الكتاب العبري" لا تنصف الوحي الإلهي، حيث تشير له ككتاب عبري، وليس كوحي إلهي، وهذا ليس مقبولا من ناحية روحية بحسب رأيي! بالرغم من أن مرشدي في أطروحة الماجستير، أجبرني على استخدام هذه الكناية.
رابعًا، كلمة "القديم" تجعل مسيحيين يهملون في قراءته:
إن وحي العهد الجديد عندما سمي عهد سيناء، عهد شريعة موسى، بالعهد العتيق؛ كان متوحدًا على النظام القديم الذي فيه نتقدم لله، أي شريعة الذبائح. فعندما صور سفر العبرانيين الذي قال: "13 فَإِذْ قَالَ «جَدِيدًا» عَتَّقَ الأَوَّلَ. وَأَمَّا مَا عَتَقَ وَشَاخَ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الاضْمِحْلاَلِ" عبرانيين 8؛ كان يتكلم في الأصحاح عن المفارقة بين الكهنوت الهاروني الذي كان يخدم شبه السموات وظلها (عدد 5)، وكهنوت المسيح الذي جعل لنا الطريق مفتوحًا بدمه لقدس الأقداس السماوي، لعرش الله مباشرة (عبرانيين 10: 19).
لكن للأسف، الكثير من المسيحيين، يفهمون من عبارة "مَا عَتَقَ وَشَاخَ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الاضْمِحْلاَلِ"، أن أسفار الوحي قبل المسيح ليست لنا، هي لليهود؛ فهي عتيقة وغير فعالة للإنسان المسيحي اليوم!! لكن الوحي لم يقل هذا للإشارة للأسفار النبوية القديمة ذاتها كنصوص، بل كعهد ناموس موسى. أما الأسفار النبوية القديمة، فهي أسفار الوحي التي نقرأها ولا نستطيع أن نفهم الكتاب بدونها. طبعًا نقرأها بمنظار فهمنا للعهد الجديد؛ ونرى العهد الجديد مُكمل لها؛ وأنها كنصوص، لن تبطل إلى أن يأت المسيح:
"17 فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ" متى 5.
خامسًا، ولدت التسمية في ظل علاقة غير صحية بين اليهود والمسيحيين:
أول من أطلق تسمية "العهد القديم" على أسفار الوحي قبل المسيح، هو أسقف كنيسة سارديس، عاصمة مقاطعة ليديا القديمة غرب أنطوليا، المذكورة كأحد الكنائس في رؤيا 2-3، اسمه الأسقف ميليتو (Melito Of Sardis) في منتصف القرن الثاني ميلادي.
[Eusebius, Ecclesiastical History, 4.26.14]
نرى أيضًا من كتابات جاستين مارتر، تعابير لعلاقة غير طيبة مع اليهود، وغضبًا عليهم لأنهم صلبوا المسيح! فيقول في الحوار مع تريفو اليهودي [Dialogue with Trypho the Jew]، الذي يظهر الكثير من التعابير لعلاقة غير طيبة مع اليهود وممكن أن تكون أثرت على لاهوت هؤلاء سلبًا. فعنوان الفصل 16 منه مثلا هو: "الختان وُضع كعلامة، لكي تجعل اليهود يتركوا أعمالهم الشريرة التي عملوها للمسيح والمسيحيين." يتكلم فيه عن قساوة قلوبهم مع موسى في البرية، وعن قتلهم "القدوس (المسيح) وأنبياءه الذين أرسلهم". وفي ختام الفصل يستشهد بأشعياء 57: 1-4، مبرزًا بأن الله تنبأ عن اليهود الذين قتلوا الصديق واستراحوا على مضاجعهم وكأن شيئًا لم يكن، بوصفه اياهم: "أَمَّا أَنْتُمْ فَتَقَدَّمُوا إِلَى هُنَا يَا بَنِي السَّاحِرَةِ، نَسْلَ الْفَاسِقِ وَالزَّانِيَةِ" (ع 3). فلا أرى روح الطرح محمول بالحب والنعمة بحسب رأيي. لذلك ادعاءه بأن الختان وضع كعلامة لإظهار شرهم؛ نقطة ليس موثوق بها لاهوتيًا.
أيضًا نرى أشياء اصعب جدًا في رسائل يوحنا الذهبي الفم الثمانية بعنوان "ضد اليهود"، خاصة الأولى [John Chrysostom – ‘Against the Jews’, First Homily]؛ بإمكانك أن تطلع عليها. لهذا السبب اعتقد أن تعبير "العهد القديم" الذي ولد في ظل هذه الأجواء، جدير بنا أن نراجع تقييمه اليوم.
بناء على الخمس نقاط السابقة، اعتقد أننا نحتاج أن نراجع التسمية "كتاب العهد القديم"، لأنه يشمل عدة عهود. ولست أظن أن تسميته بـ "كتاب العهود القديمة" تسمية سليمة أيضًا، نظرًا إلى أن العهد الإبراهيمي هو ليس قديمًا، بل لا زال قائمًا ليومنا هذا، حيث تحقق بالمسيح. لذلك أظن أن أدق تسمية ممكن أن نطلقها لأسفار الوحي قبل العهد الجديد، هي: "كتاب العهود السابقة" أو "العهود السابقة"؛ أو التسمية التي استخدمها ربنا يسوع المسيح: "ناموس موسى، الأنبياء والمزامير"، إذا اعتبرنا أن جميع الأسفار التاريخية وغيرها، هي أيضًا أسفار نبوية، وتندرج تحت الأنبياء.
أقدم لكم أحبائي هذا العصف الفكري لكي يحفزنا على التفكير في هذا الأمر الجوهري والهام.