يرغب الانسان بطبيعته ان يعمل ويُمارس الامور التي هي بنظره الاهم والافضل له، ويبذل الجهود الكبيرة في تحقيقها، ليشعر انه قدم الانجازات الهامة في حياته، ان كان في مجال الدراسة او العمل، او امور اخرى في مجالات الحياة. لكن ما هو الامر الاكثر اهمية في حياتنا، وما هي الدعوة الاولى لحياة كل واحد منا؟
نقرأ في كتاب التكوين عن دعوة الله لإبراهيم، بان يترك ارضه وعشيرته وأهل بيته، ويذهب الى المكان الذي دعاه الله له. نرى في هذه الدعوة المباركة طاعة إبراهيم لله، ابراهيم الذي لم يعرف الله قبل هذه الدعوة، لا هو ولا عائلته، يُطيع الله بشكل مُطلق ويترك أرضه وعشيرته، ويضع الله ودعوته في المكان الأول في حياته.
في تكوين اصحاح 22، نقرأ تكرار كلمة "هانذا" ثلاث مرات، وتدل هذه الكلمة لسماع صوت الدعوة، والطاعة التامة لها. نقرأ كيف طلب الله من ابراهيم ان يقدم ابنه وحيده إسحاق لكي يمتحنه، فعندما دعا الله ابراهيم كان رده "هانذا"... عندما يدعو الله كل واحد منا، علينا ان نترك ارضنا وعشيرتنا واهل بيتنا، ليس بالمعنى الجسدي المادي، بل بالمعنى الروحي بان نُطيع الله ودعوته لنا، بان نترك كل امر ليس حسب مشيئته لنا، ان كانت تعاليم، عادات وتقاليد لا تمجد الله وليست حسب تعاليم الكتاب المقدس.
اطاع ابراهيم الله بشكل مُطلق، لدرجة انه كان على استعداد ان يُقدم ابنه وحيده الذي احبه ذبيحة لله. يطلب الله من كل واحد منا ان نقدم كل امر غالٍ علينا على مذبحه، لكي يطهره بروحه القدوس، ويكون ذبيحة من قلب صادق وطاهر لمجد الله. لأنه بعدما قدمنا ذواتنا واجسادنا ذبائح حية مقبولة ومرضية عند الله (رومية 12)، علينا ان نقدم كل يوم حياتنا وامورنا الخاصة على مذبح الله، ان كان اولادنا ومستقبلهم، ان كانت اعمالنا وخدماتنا في حقل الرب، لكي يكون كل شيء بإرشاد الرب ولمجد اسمه القدوس.
في تكوين العدد 7 نقرأ عن نداء اسحاق لأبيه ابراهيم، وجوابه له، "هانذا"، عندما سأله اسحاق عن خروف المحرقة. انه لأمر فائق الاهمية ان يكون هذا الحوار المتبادل في العائلة الواحدة، بين الزوجين، وبين الاهل مع اولادهم كما كان الحوار المتبادل بين ابراهيم واسحاق، بل وكما كان الحوار والطاعة التامة الكاملة بين الرب يسوع المسيح والآب القدوس، كيف خضع وطاعة يسوع دعوة الآب له حتى الموت، مقدمًا نفسه ذبيحة لله عنا جميعًا، لكي يخلصنا من الدينونة ويهبنا الخلاص والحياة الابدية.
نفتقد في هذه الايام الحوار والنقاش البناء في حياتنا وعائلاتنا وكنائسنا ومجتمعاتنا... تشغل مواقع التواصل الاجتماعي جُل اهتمامنا، وربما لا نجد الوقت لنقضيه مع افراد عائلتنا او إخوتنا في الكنيسة، لا نجد الوقت لدراسة الكلمة او الصلاة والخدمة في حقل الرب. لكن الامر لم يكن هكذا في ايام ابراهيم واسحاق، بل كانت الشركة المقدسة مع الله قبل كل شيء وكل اعتبار آخر، والشركة بين ابراهيم واسحاق كانت عميقة اساسها المحبة والخضوع، الامور التي نصلي لأجلها بان تكون اساس حياتنا وعائلاتنا وكنائسنا في هذه الايام الصعبة والمعقدة!!!
في عدد 11 نقرأ دعوة ملاك الرب من السماء لإبراهيم، بان لا يمد يده على ابنه اسحاق، لأنه علم مدى طاعة وخضوع ابراهيم لله. عندما يرى الله امانتنا، طاعتنا وخضوعنا لدعوة السماء لنا، (ليس ان الله لا يعرف كل شيء، بل هو عارف كل الامور ودوافع القلوب)، فهو سوف يبارك حياتنا الى اقصى الحدود وفوق ما نتصور نحن.
هل كان يعلم ابراهيم في البداية انه من نسله سوف يأتي المسيح خلاص الشعوب ورجاء الامم؟! وهل نعلم نحن مدى البركات والخدمات التي أعدها الله للذين يحبونه؟ لأن الامين على القليل، سوف يستأمنه الله على الكثير، يمنحنا الله على حساب نعمته ملكوت السماوات، ومئة ضعف على كل شيء نقدمه نحن له.
نقرأ في هذا الاصحاح المبارك، كيف امتحن الله ابراهيم بابنه وحيده حبيبه اسحاق، وكيف كان رد ابراهيم الى الله، الى ابنه اسحاق والى ملاك الرب،"هانذا"... انها ايام صعبة ومعقدة جدا، التي بها نحن بأمس الحاجة ان نقول لله "هانذا"، بطاعة وخضوع تام لدعوته لكل واحد منا، لأنه ان كان يسوع المسيح قدم ذاته ذبيحة تامة لله من اجلنا اجمعين، كم بالحري علينا ان نقدم نحن ذواتنا بالكامل ذبيحة لله وملكوته؟!
وكما عاش يسوع في ايام تجسده على الارض بطاعة وخضوع للآب القدوس، علينا ان نكون بهذه الشركة المقدسة وهذا الخضوع في عائلاتنا، في علاقاتنا الزوجية ومع اولادنا. وكما اطاع ابراهيم صوت السماء وملاك الرب، علينا ان نقول "هانذا" لدعوة السماء لنا وارسالية يسوع لكنيسته، بان نذهب ونتلمذ الجميع، ونعمد على اسم الآب والابن والروح القدس، لكي نرى ونختبر مجد الرب يسوع المسيح في حياتنا وعائلاتنا وكنائسنا، لمجد اسمه القدوس.
تنبأ الملك داود بمجيء المسيح يسوع لخلاص الامم والشعوب، اذ كتب بروح الرب في المزمور 40: "حينئذ قلت هانذا جئت، بدرج الكتاب مكتوب عني، ان افعل مشيئتك يا إلهي سررت، وشريعتك في وسط احشائي. بشرت ببر في جماعة عظيمة" يقتبس كاتب رسالة العبرانيين هذا الاعلان المُبارك والمجيد، مؤكدًا طاعة المسيح الكاملة للآب القدوس، اذ يقول في الاصحاح العاشر: " هانذا اجيء لأفعل مشيئتك يا الله، فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة ".
قال في القديم ابراهيم "هانذا" لدعوة الله له، كذلك قالها لابنه اسحاق ولملاك الرب. كذلك قبل حوالي الفي سنة قال رب المجد يسوع المسيح هانذا للآب القدوس. فما هو رد كل واحد منا لدعوة الله له؟ هل نقول هانذا ايها الآب القدوس مع ابراهيم ويسوع المسيح؟