سِر المسيح والأسرار

في رحلة الإيمان، نواجه تساؤلات حول جوهر المسيحية، بين ما هو معلن بوضوح وما يعتبر سرًا. هل هناك حقائق خفية تحتاج إلى كشف، أم أن "سر المسيح" هو الإعلان الكامل لكل مؤمن؟ الفرق بين سر المسيح، كما أعلنه الكتاب المقدس، وبين مفهوم الأسرار، كما يُفهم في التقاليد المسيحية، يثير تساؤلات عميقة.
10 فبراير - 07:55 بتوقيت القدس
سِر المسيح والأسرار

نقرأ في كتاب أعمال الرسل عن اللقاء المبارك بين شاول الطرسوسي ويسوع المسيح الحي المُقام من الأموات.
كان شاول الطرسوسي رجلًا متدينًا جدًا، يهوديًا متطرفًا في ديانته، فريسيًا وحافظًا للناموس، بل كان أيضًا مضطهدًا لكنيسة المسيح وللمؤمنين. بمعرفته بالناموس والكتب المقدسة آنذاك، كان غيورًا على ديانته وعقيدته وطائفته لدرجة أنه كان يظن أنه يُقدم خدمة لله بقتل المؤمنين المسيحيين!

لكن هذا الرجل، بعد لقائه الحي والمبارك بيسوع المسيح في طريقه إلى دمشق، سقط إلى الأرض تائبًا، خاشعًا، وطائعًا لمشيئة الرب في حياته. عندها، تغيرت حياته بالكامل ونال الولادة الجديدة بالروح القدس، وأصبح ابنًا لله وخادمًا ليسوع المسيح، وهو الذي عرفناه لاحقًا بالرسول بولس.

أدرك بولس جيدًا أن الحرف يقتل، لكن الروح يبني، والمحبة تستر. أدرك أن الحرف والمعرفة بالكتب بدون إرشاد وعمل الروح القدس، "تقتل" وتدين الآخر، وتصبح المعرفة بدون الروح والمحبة وسيلة "لطعن" الآخرين وإدانتهم!

لكن شاول الطرسوسي تاب ورجع إلى الله من كل قلبه، وأصبح رسولًا للأمم وخادمًا للكنيسة بعد أن كان مضطهدًا لها. لذلك، أعلن بولس في رسالته إلى أهل أفسس، الإصحاح الثالث:

"أنا بولس، أسير المسيح يسوع لأجلكم أيها الأمم، إن كنتم قد سمعتم بتدبير نعمة الله المعطاة لي لأجلكم، أنه بإعلان عرفني بالسر، كما سبقت فكتبت بالإيجاز، الذي بحسبه حينما تقرأونه، تقدرون أن تفهموا درايتي بسر المسيح، الذي في أجيال أُخر لم يعرف به بنو البشر، كما قد أعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح".

أعلن الرب يسوع المسيح عن ذاته لشاول الطرسوسي، ليصبح بولس الرسول، وأوضح له أن الله محبة ويريد أن يخلص جميع الأمم والشعوب. أعلن له عن طبيعته البشرية والإلهية، وأظهر له أن يسوع هو ابن الإنسان وأيضًا ابن الله. كشف له عن عمل الصليب من خلال موت يسوع وقيامته من الأموات، حتى إن بولس الرسول حسب كل تدينه ومعرفته وماضيه كنفاية، من أجل أن يعرف ويربح المسيح!

ما هي الفائدة من معرفتنا وتديننا بدون معرفة يسوع المسيح القلبية؟ وهل معرفتنا وحفظنا "للأسرار" التي علمونا إياها في الماضي، كفيلة بأن ننال الخلاص والحياة الأبدية؟ وبأن نكون بالفعل مسيحيين ومؤمنين حقيقيين؟!

تكلم الرسول بولس عن سر واحد لا غير، وهو سر المسيح، لم يتحدث عن أسرار كثيرة. لأنه عندما نعرف المسيح يسوع الرب معرفة قلبية حقيقية، تُعلن لنا جميع "الأسرار" بالروح القدس. لأنه في المسيح يسوع الرب، نجد الكفاية للخلاص والشفاعة والبركة. ولهذا أوصى الرسول بولس كنيسة كولوسي قائلًا:

"واظبوا على الصلاة ساهرين فيها بالشكر، مصلين في ذلك لأجلنا نحن أيضًا، ليفتح الرب لنا بابًا للكلام، لنتكلم بسر المسيح، الذي من أجله أنا موثق أيضًا".

كذلك، أعلن بولس لابنه الروحي تيموثاوس عن سر التقوى، قائلًا بروح الله القدوس:

"وبالإجماع عظيم هو سر التقوى: الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كُرز به بين الأمم، آمن به في العالم، رُفع في المجد".

أوضح بولس لابنه تيموثاوس ولنا جميعًا أن سر التقوى المبارك يتمثل في يسوع المسيح، الله الظاهر في الجسد، الذي تمم الخلاص ووهبنا الحياة الأبدية.

أوصى الرب يسوع تلاميذه بوصايا كثيرة، لكن أعظمها وأولها أن نحب الله من كل القلب والنفس والفكر والقدرة، وأن نحب قريبنا كنفسنا.

كذلك أوصى يسوع ورسله بعده، ببعض الوصايا للكنيسة وشعب الله. لكن هل يمكننا أن نسميها اليوم "بالأسرار"؟ ولماذا يُقال إنها أسرار بعد أن أعلن لنا الرب يسوع ورسله كل الإعلان في كتابه المقدس؟

المعمودية
قال يسوع: "من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يُدن."
أعلن يسوع ورسله المباركون بكل وضوح أن المعمودية تأتي بعد التوبة والإيمان الحقيقي القلبي، لا قبل ذلك!

وهل الطفل الرضيع أو الولد بحاجة إلى التوبة؟ (أو بالأحرى، هل يُدرك بروحه أنه خاطئ وبحاجة إلى الاعتراف بخطاياه؟) أو حتى أن يُعمَّد من الآخرين؟ هل نقرأ في الكتاب المقدس عن حادثة واحدة لمعمودية الأطفال والأولاد؟

إننا نقرأ عن معمودية يسوع المسيح في الأردن عندما كان عمره 30 سنة، كما نقرأ عن معمودية يوحنا المعمدان للتوبة لمغفرة الخطايا، ومعمودية بولس، وكرنيليوس، وسجَّان فيلبي، وغيرهم.

مسحة الزيت
كان الزيت يُستخدم في العهد القديم لمسح الملوك والخدام، كما نقرأ عن مسح الملك داود.
كذلك نقرأ في العهد الجديد، في رسالة يعقوب، عن مسحة الزيت لشيوخ الكنيسة لشفاء المرضى.

لكن وبشكل أساسي، يرمز الزيت إلى مسحة وعماد الروح القدس، والتكلم بالألسنة لتمجيد الله، كما تكلم التلاميذ بالألسنة عندما حلَّ الروح القدس عليهم كألسنة من نار.

وهل يحل الروح القدس "فقط" عندما نعتمد بالماء أو حتى بعد المعمودية؟ ألا نقرأ كيف اعتمد كرنيليوس وأهل بيته بالروح القدس قبل المعمودية بالماء؟
وهل اكتفينا بأن "نُحِد" الروح القدس بالقليل من الزيت الذي يُستخدم في ما يُسمى بالمعمودية؟!

القربان المقدس (الأفخارستيا)
اجتمع الرب يسوع المسيح مع تلاميذه في العشاء الأخير، بعد أن أوصاهم بأن يحبوا بعضهم بعضًا، ويحفظوا كل ما قاله لهم، ثم اشترك معهم في كسر الخبز وعشاء الرب.

كذلك أوصى بولس الرسول عن هذا الأمر المقدس والفائق الأهمية في الإيمان المسيحي، لكن بحذر شديد وإدراك روحي، حيث قال إن عشاء الرب يرمز إلى جسد ودم يسوع المسيح، ومن يشترك به بدون استحقاق يجلب على نفسه أمراضًا، بل ومن الممكن أن يرقد، كما حذر بولس.

وأخطر رقاد هو الرقاد والموت الروحي، أي الانفصال إلى الأبد عن الله القدوس في الجحيم إلى أبد الآبدين، بلا رجوع أو إمكانية للندم!

أخوتي، هل يُدرك هذا الكلام الروحي العميق من هم في الصف الرابع؟ أو حتى الخامس والعاشر، من دون إدراك روحي عميق، وتوبة وإيمان قلبي حقيقي بالله؟
احكموا أنتم!

التوبة
وهل التوبة أيضًا أصبحت سرًا من الأسرار؟!
وما هو السر في التوبة؟

بل على العكس تمامًا، لأن التوبة عادة تكون بتغيير جذري في الحياة من كل القلب، وهذا يكون واضحًا وجليًا للجميع، وخاصة عندما يعتمد الإنسان البالغ والواعي نفسيًا وروحيًا، ويعترف أمام الجميع وقت المعمودية بأنه خاطئ وبحاجة إلى التوبة، فيدفن الإنسان العتيق وقت المعمودية، ويقوم بالإنسان الجديد، كما اعترف وتاب سمعان بطرس وشاول الطرسوسي وغيرهم.

مسحة المرضى
أعطى الرب يسوع المسيح موهبة الشفاء للرسل والشيوخ والخدام وغيرهم من المؤمنين، كما ذكر يعقوب في رسالته عن مسحة الزيت من شيوخ الكنيسة لشفاء المرضى والتوبة لمن فعل خطيئة.

قام الرب يسوع ورسله بشفاء الكثيرين من المرضى بشكل علني، وما زال الرب يسوع يشفي المرضى من خلال التلاميذ، عندما أعطاهم السلطان بأن يضعوا أيديهم على المرضى فيبرأون.

الزواج
أعلن الله عن الزواج المبارك منذ البداية في كتاب التكوين، حيث قال:

"لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكونان جسدًا واحدًا."

اختار الرسول بولس ألا يتزوج، مع أنه كان له كامل الحق في أن يتزوج كسائر الرسل، مثل بطرس وغيره.

فهل لم يحفظ بولس الرسول المبارك وصية "سر الزواج"؟
وهو الذي حذَّر في رسالته إلى تيموثاوس أنه في آخر الأيام سوف يمنعون الزواج المبارك!

الكهنوت
نقرأ في سفر التكوين عن ملكي صادق كاهن الله العلي، الذي بارك إبراهيم بعدما عاد من كسر كدرلعومر.
كذلك نقرأ عن وصية الله لعبده موسى، بتقديس وتكريس هارون وأبنائه ناداب وأبيهو وأليعازر وإيثامار ككهنة لله القدوس.

واستمر نظام الكهنوت للشعب القديم حتى جاء يسوع المسيح، كاهن الله العلي، رئيس كهنتنا الأعظم، بل هو بموته وقيامته اشترانا لله أبيه، وجعلنا ملوكًا وكهنة لله أبيه.

ونحن جميعًا، خدام ومؤمنون، لنا ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، ليس فقط لرئيس الكهنة، كما كان في العهد القديم، حيث كان يدخل إلى قدس الأقداس مرة في السنة برش دم الذبائح.

لكننا اليوم ندخل إلى محضر الله الآب القدوس بدم يسوع المسيح ابنه، الذي هو الطريق الوحيد لمحضر الآب القدوس، وليس كما يُمارس حتى يومنا هذا نظام الفصل بين الرعية والكاهن، حيث يكون الكاهن وحده في الأقداس، بينما يبقى الشعب في الخارج، كما كان النظام في العهد القديم.

فهل نترك عهد النعمة وعهد دم يسوع المسيح، ونرجع إلى عهد الذبائح التي لا تغفر خطايا ولا تُخلص ولا تُجدي نفعًا؟!!!

الختام

أخوتي وأحبائي في المسيح،

إنه بالفعل الوقت الذي يجب علينا جميعًا أن نرجع من كل قلوبنا إلى الكاهن العظيم، يسوع المسيح، لكي ندرك بأرواحنا وقلوبنا سر المسيح العظيم.

وكما أعلن يسوع لشاول الطرسوسي هذا السر العظيم، سر المسيح، سر التقوى بأن الله ظهر في الجسد، فإنه بعد أن ندرك بكامل كياننا هذا السر العظيم ونطبقه في حياتنا، سوف يُعلن لنا يسوع المسيح بروحه القدوس "الأسرار" الأخرى، لكي:

نتوب من كل قلوبنا
نؤمن ونعترف ونعتمد بالماء على اسم يسوع المسيح
نختبر معمودية الروح القدس المباركة
نختبر الشفاء الروحي والنفسي والجسدي أيضًا
يوحدنا المسيح في الجسد الواحد ونشترك بكسر الخبز الواحد
يبارك الرب حياتنا وزواجنا
لكي نكون بالفعل جميعنا ملوكًا وكهنة، كما وعد الرب يسوع لكل من يحب اسمه القدوس ويحب كنيسته.

آمين.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا