كيف انتقلت راعوث من الوثنية إلى إله إسرائيل؟ أغلب الظن أنها لم تقرأ كتبًا عن يهوه قبل نعمى، كانت نعمى أستاذها وكتابها الخالد الذي أنار لها الطريق.. وكم أحس بتفاهة إيماني، وأنا أرى هذه الفتاة الموأبية تناضل بإيمانها الظلام والجوع والفقر والتعاسة والشقاء! كما أقف ازاءها لتأمل مكافأة الله العجيبة للنفس التي تمسك به بشجاعة وإخلاص وقوة.. كان عصر القضاة عصر شريرًا، عصرًا يتضح بالأثم والشر والرذيلة والأوجاع، فيه استراحت الطرق وعابرو السبل ساروا في مسالك معوجة، كل واحد عمل ما حسن في عينيه. في ذلك العصر بدت راعوث في اشراقها البارع، والناس يتحسسون الظلام، نجمة متألقة تضيء الظلمة الساخنة العميقة، وعلمتنا أن الزهر النضير قد ينبت في الوحل، وأن الإيمان الباسق قد يترعرع في أرض الجحود والألحاد، وأن شهود الله الأمناء سيعترفون به ويحفظون الشهادة له في أتعس الظروف وأمرها، ولا يقرون ما ذهب إليه المثل القديم: إذا كنت في روما فاعمل عمل الرومان...
والآن أريد أن نتأمل راعوث من نواح ثلاث: الفتاة وأمها الروحية: الفتاة الجسورة الإيمان: الفتاة التي نالت مكافأة عظيمة.
الفتاة وأمها الروحية
راعوث فتاة موآبية يظهر أنها كانت على حظ وفير من الجمال الذي يتيح لها فرصا متعددة للزواج، فنعمى كانت تعتقد أنها ستجد في موآب زوجًا آخر بعد وفاة زوجها محلون، وبوعز كان يؤمن أن حظها من الجمال سيتيح لها أن تجد بين شباب بيت لحم، الفقراء أو الأغنياء زوجاً، وهي فتاة على حظ وافر من الأخلاق، شهد أهل بيت لحم جميعًا لحلاوة سيرتها وتقاوتها، كما أنها شجاعة نادر المثال في شجاعتها، ألم تترك وطنها لتسير إلى أرض غريبة؟ وهناك تخلع عنها ثوب الراحة، فتناضل وتكافح لتجد لقمتها ولقمة حماتها، وهي أيضًا وديعة تنحني بكل تواضع أمام رقة بوعز وحنانه، كما ينبغي ألا ننسى أنها فتاة مخلصة ودود محبة، سنذكرها أبدا بتلك الصورة الخالدة التي أبدعتها أنامل فنان من أكبر فناني الغرب، والصورة تنطق بحب عميق هائل حزين نراه في عناقها لنعمى، لم تسمع راعوث عن أنتيجونا اليونانية، الفتاة التي تابعت أخاها حتى القبر، وظلت إلى جوار جثته حتى ماتت، ولم تقرأ عن بنلوب التي ظلت عشرين عاماً تحدق في الفضاء البعيد، تنتظر مجيء زوجها وسفنه الضائعة، ولكنها قرأت في أعماق نفسها قصة الحب الذي لا تغمره السيول، الحب الذي يتحدى الصعاب، ويقهر الأهل والبعد والموت. «حيثما ذهبت أذهب، وحيثما بت أبيت، شعبك شعبي وإلهك إلهي، حيثما مت أموت، وهناك أدفن».. من هذه الفتاة العجيبة التي خلفت وراءها أرض مولدها وأباها وأمها، وسارت وراء إله إسرائيل، إلى شعب غريب لم تعرفه من قبل، وفعلت كل ذلك في وداعة واشراق ونور وجلال؟ أهي من صنع موآب! إن موآب يصنع الوثنية، وكموش آلهته تصنع القسوة والرذيلة، إذن من صنع راعوث؟ من أكسبها هذه الحلاوة؟ من أعطاها هذا الأشراق؟ أنها نعمى بحنانها ومحبتها وتضحيتها وإشفاقها وإيثارها، نعمى هي الكتاب الخالد الذي قرأت فيه راعوث الفصول القدسية الرائعة! هل تريد أن أقرأ عليك بعض سطوره الرائعة المبدعة العجيبة.. إذن سأقف بك بضع دقائق من الأم الأرملة الثكلى في ساعة مرارتها الكبرى، وهي تيمم وجهها شطر الوطن.. في تلك الساعة لم تكن نعمى إنسانًا يتمشى على الأرض، بل ملاكًا يسير بين الناس، لماذا أنت حزينة يا نعمى؟ أللمصائب الدافقة التي أنصبت عليك؟ التعاسة الهائلة التي وصلت إليها وبلغتيها؟ وإذا بالملاك يجيب: حقاً أن هذا فظيع ومخيف ومريع، ولكنني متألمة على ما هو أكثر من هذا وأشد وأنكى، أني حزينة لأن النار التي لدعتني لمست كنتي، كنت أود أن أجرع الكأس وحدي لا يشاطرني فيها مخلوق «لا يابنتي فاني مغمومة جدًا من أجلكما».. يا نعمي أننا نعطي وجوهنا في حضرتك، ونستحي أن نرفع أبصارنا إلى وجهك الرائع الرائق.. لقد أبصرنا أكثر منك محبته الهائلة على الصليب، ولكننا ما نزال نحبو إلى جانب خطواتك الواسعة القوية... من يقول إن هذا كلام حماة لكنتها! وقد تستأثر بمن تعده ملكًا خالصًا لها، الحماة التي احتضنت ولدها وربته وعاشت له، كيف تفرط فيه لشخص جديد يغزوه، وهذه الكنة تريد زوجها وقلبه وحبه وحياته، وهيهات أن تقر لأحد بنصيب فيه.. وهكذا نشأت تلك العداوة العميقة المريعة التي تركت أبشع الآثار في النفوس والعائلات ولكن نعمى ارتفعت فوق هذه الغريزة وعلت وسمت، فغنمت واكتسبت كل شيء.. اكتسبت راعوث بكل ما فيها، واكتسبتها لا لنفسها فحسب بل لله وللمجد وللخلود.
ما أكثر ما نفعل لأجل الله بحياتنا، وما أعمق الآثار التي نتركها في الآخرين بتصرفنا ومعاملتنا،.. ذهب استانلي يبحث عن ليفنجستون في أدغال القارة الأفريقية، وهناك وجده وبقي معه سبعة شهور، لم يحدثه فيها ليفنجستون عن الأمور الروحية، ولكن حياته العظيمة، حياة الصبر والاحتمال الفائق الحد، حياة المحبة التي لا تموت للشعوب التعسة، تركت فيه أعمق الآثار، رأى ستانلي شخصًا يحترق من أجل المسيح فقال: «لقد ولدت من أبوين مسيحيين وعشت في وطن مسيحي، وكنت أستنشق كل يوم نسمات التعاليم المسيحية، ولكني لم أعرف المسيح في إنجلترا، بل عرفته هناك في تلك القارة المظلمة إلى جانب الرجل الذي عاش ومات للمسيح»... صاح الولد الصغير الذي أحب هويتفيلد: «يا إله هويتفيلد إنني أحبك!» إن المسيحي هو الإنجيل الذي تستطيع أن تفتحه كل يوم بابتسامتك وحبك وعطفك وحنانك، يحزننا أننا كثيرًا ما ننفر الآخرين بتصرفنا، إنهم يروننا شيئًا آخر خلاف عقيدتنا. ألم يقل غاندي : لولا المسيحيون لصرت مسيحيًا.
الفتاة الجسورة الإيمان
إنه فصل رائع من فصول الإيمان، فصل مجيد ذلك الذي كافح الظلام واليأس والفقر والتعاسة وانتصر، لو كان طريق راعوث مفروشًا بالورود لما دون الكتاب شيئًا عن إيمانها لكنه كان:
الإيمان الذي انتصر رغم موت زوجها
هي فتاة وثنية أخذ الله زوجها، وأخذه في ميعة الصبا وريعان الشباب، وتركها أرملة لم تهنأ بالحياة، فهل يستطيع الإيمان الصحيح أن يثبت؟ كاد إيمان جون برايت الخطيب الإنجليزي العظيم أن يضيع، وهو جالس إلى جانب زوجته المحتضرة، إذ عاد بذكراه إلى الأيام القصيرة الهانئة التي قضياها، وكيف أن الله سيحرمه من أجل سعادة تمتع بها،.. تينسون الشاعر الكبير، حين مات صديقه العزيز هتف به صوت محزن يدعوه إلى ترك الإيمان، لأنه يكاد يراها قسوة كبيرة من المولى أن يفقد صديقه... وكثيرون ضاع إيمانهم لأن يد القدير اشتدت عليهم وقصفت أعواد آمالهم من أبناء أو آباء أو أزواج، لكن راعوث فقدت زوجها، وفقدته شابًا، وعلاقتهما على ما يظهر من لغة الكتاب كانت صافية قوية حلوة. ومع ذلك لم ينحن إيمانها ولم يترنح أو يتبدد، ولعلها بذلك تنادي المحزونين جميعًا من أبناء الله وبناته ألا يفرطوا في أحزانهم بالكيفية التي تقلل من شركتهم مع الله.
الإيمان الذي انتصر رغم الغربة
إنها تترك أباها وأمها ووطنها، وتترك الصحاب الذين ألفتهم، تترك أرض موآب الغنية، وهل تظنون هذا سهلاً ميسورًا؟ أن ترك الوطن من أدق ما تضطرب له النفوس، وهل تنسون ذلك المرض الذي يدعي مرض الحنين إلى الوطن والذي يصاب به من يتركون بلادهم. هناك من يظلم عرفة كثيرًا، هناك من يحمل عليها دون ترو، هناك من ينظر إليها نظرة الارتداد القاسية العنيفة، لئن بدا في هذا بعض الحق، فلا ينبغي أن ننسى أنها كانت فتاة ودودا لطيفة المعشر، تألمت لحماتها، وبكتا ساعة الوداع، لكنها لم تستطع تحمل الغربة، فرجعت إلى أهلها... جلس بنو إسرائيل على أنهار بابل، وعلقوا أعوادهم على الصفصاف، وبكوا عند ذكر الوطن العزيز، وحين طلب منهم أن يرنموا أجابوا: «كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة، أن نسيتك يا أورشليم تنسي يميني، ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك، إن لم أفضل أورشليم على أعظم فرحي»... حين طرد دانتي من فلورنسا وحرم عليه أن يراها حتى الموت، عد ذلك شوكته التي تضارع شوكة بولس، وكان الشاعر الشريد وهو يجوب في أرض الغربة يتمثل في الخيال شوارعها وأحياءها وبيته القديم... كان ألم الحنين إلى الوطن أقسى ما ذاق من عذابات.. والتاريخ يذخر بالكثيرين من الأبطال الذين خاضعوا معارك متعددة، دون أن تلين قناتهم أو ينثني عودهم أو تتطرق الهزيمة إلى قلوبهم، ولكنهم انهزموا في معركة الحنين إلى الوطن.. لكن راعوث انتصر إيمانها وهي تدلف في عزم وقوة مع حماتها نحو أرض إسرائيل.
الإيمان الذي انتصر على الفقر
ماذا ستلاقي في أرض إسرائيل، وهل ستجد لقمتها ميسورة؟ قد يهون علينا أن نترك الوطن والأهل والصحاب، متى أمكننا الاعتقاد أن نجد في أرض الغربة العيش الهنيء والسعة المريحة... لكن راعوث تعلم أنها ستواجه هناك الفقر والمغبة والجوع، فحماتها لا تملك حطام الدنيا شيئاً مذكورًا، وعليها هي أن تناضل من أجل الحياة نضالاً يشق على الرجل ويصعب.. في الواقع ليس هناك ما يزعزع الإيمان ويبعث الاضطراب في النفس ويعثر الشركة مع الله كما يفعل الجوع، وما أصدق أجور بن متقية مسا وأعظمه دراية بالنفس البشرية حين صاح: «لا تعطني فقرًا ولا غنى أطعمني خبز فريضتي لئلا أشبع وأكفر وأقول من هو الرب أو أفتقر وأسرق واتخذ اسم إلهي باطلاً» إن قصة البؤساء لفيكتور هوجو تدور حول أثر الفقر في إذلال النفس وإسقاطها والجنوح بها تجاه الفساد والجريمة والشر.. لكن راعوث رغم شبح الجوع المخيف خطت بشجاعة إلى أرض إسرائيل.
الإيمان الذي انتصر على حياة الترمل
إن أقوى دوافع المرأة جميعًا الحياة الزوجية، فهل فكرت راعوث أنها ستجد بعد وفاة زوجها رجلاً آخر في أرض إسرائيل؟ أغلب الظن أنها لم تفكر في ذلك، ونعمى في حديثها معها ومع عرفة، ساعة الوداع، أوصدت الباب بقوة أمام كلتيهما من هذا القبيل، لكن الفتاة كافحت هذا الدافع القوي، وآثرت حياة الترمل مع حماتها على الحياة الزوجية بين الأهل والأقارب والعشيرة.
أظن أن هذه الفتاة وهي تسير في أرض الظلال والألم والظلام تكافح مالا يستطيعه إلا العتاه والجبابرة والأبطال صاحت من أعماق قلبها: «أيها الإله الذي جئت أحتمي تحت جناحيه: إن المستقبل مظلم قاس حالك أشد قتامًا من فحمة الليل، لا نجمة فيه أو نور أو رجاء... وأنت ملكي وإلهي وسيدي فلا تتركني! احفظني فأنا خائفة تعسة مشردة، لا أعرف في الدنيا سوى امرأة محطمة.. وإله إسرائيل العظيم الممجد.
المرأة التي نالت مكافأة عظيمة
تبدو أرض الإيمان أمام القدم التي تطأها حديثًا كأنما لا خضرة فيها أو ظل أو ماء، لكن ما أن يسير المرء فيها حتى يلمس الراحة والهدوء والغني والمجد... كانت الطريق في خطواتها الأولى أمام راعوث قفرا، ولكن ما أن بلغت بعضها حتى أحست كل شيء يتغير ويتبدل، وما أن انتهى بها المطاف إلى آخر الشوط حتى وقفت مشدوهة مذهولة.. إن راعوث اليوم في السماء تعرف عظم مكافأتها ومجدها.. وأظن هذه المكافأة ثلاثية:
مكافأة الخلاص
سارت عرفة شوطًا في طريق الخلاص ولكنها لم تتمه، إذ عادت إلى شعبها وإلهتها، تابعت النور مدى يسيرًا ثم عادت تغرق في الظلام والوثنية، ولعلها أقرب الكل إلى ذلك الشاب الغني الذي وقف على أبواب الملكوت ثم ارتد عنه حزينًا.. غير أن راعوث أتمت خلاصها، وركضت في السباق حتى بلغت جعالتها العليا.. وهل هو قليل أن ينتقل المرء من كوش إلى الإلة العلي، من الشيطان إلى المخلص.. من الحياة الباطلة الحقيرة إلى حياة النور والمجد والخلود.
مكافأة الزوج
تزوجت راعوث من بوعز، وبوعز فيما نعلم شخصية عظيمة جليلة، فهو رجل من أسياد قومه ينعته الكتاب بأجل النعوت وأبدعها.. فهو جبار بأس، ذو ثراء عريض، تقي، كريم، وديع النفس، واسع الحيلة... هذا الرجل ارتضى أن يقترن بالموآبية ليقيم نسلاً لقريبه الميت، ولاشك أن حياتها معه كانت نعيمًا مريحًا باذخا عريضًا.. ويكفي أن زواجهما أخذ منه الوعاظ مادة خصبة لاقتران المسيح بالكنيسة.
مكافأة النسل
ولدت راعوث عوبيد، وكان عوبيد جدًا للملك داود، ولسلسلة الملوك التي جاءت عنه، ولكن مكافأة راعوث لم تقف عند هذا الشأن فحسب بل تعدته إلى مدى سرمدي بعيد، إذ جاء من نسلها المسيح مخلص العالم.
هذه هي الفتاة التي أدارت ظهرها لموآب، وسارت وراء إله إسرائيل، فكتب اسمها في سجل الخالدين، وهي الأممية الوحيدة التي أخذ سفرها مكانًا بين صفحات الكتاب... إنها تعلمنا أن أقل ما نقدم يصبح ثروة طائلة متى تسلمته يد الله، قال بطرس: «ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك فماذا يكون لنا، فقال لهم يسوع الحق أقول لكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضًا على إثنى عشر كرسيًا تدينون اسباط إسرائيل الأثنى عشر، وكل من ترك بيوتًا أو إخوة أو أخوات أو أماً أو امرأة أو أولاداً أو حقولاً من أجل إسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبدية».