تسعى الأقليات للتميّز بين الأغلبية التي تعيش بينها، فتبدع في العلم أو المهنية أو حتى في الإجرام. أفضل مثال على ذلك هم اليهود الذين ميّزوا أنفسهم كأقلية خلال قرون في بلاد الغرب والشرق. فأبدعوا في العلوم والأدب والاتصال والتجارة فاحتلّوا الأماكن الحساسة في البلاد التي عاشوا فيها رغم قلة عددهم. مثال آخر هو الشعب ألأرمني الذي تميّز فيما تميّز كأقلية أثنية ودينية مختلفة في بلاد الشرق بالمهنية في مزاولة الحرف اليدوية من تصليح الساعات، التصوير الفوتوغرافي ، تجليد الكتب وغيرها.
أمّا المسيحيون العرب في الشرق، وهم أقلية بين المسلمين (وأقلية مضاعفة في إسرائيل بين اليهود والمسلمين)، فقد اتخذوا منحى العلم للتميّز. إذ انعدمت السلطة السياسية من أيديهم لوجودهم في الأقلية، كما افتقروا للقوة الحمائلية لأن أعدادهم قليلة، فانتهجوا طريق العلم والدراسة.
وبالفعل، يحمل المسيحيون العرب أعلى نسب المتعلمين بين شرائح المجتمع في إسرائيل، حيث لا يخلو بيت مسيحي عربي في بلادنا من خريج جامعة. بفخر نقول ان المسيحيين العرب في إسرائيل (ومثلهم في باقي بلاد الشرق) يرتقون للدرجات العلمية العليا ويسعون للدراسة في أقاصي الأرض. وتقوم العائلات المستورة شأنها كالميسورة بلملمة الطاقات والتّوفيرات لضمان العلم لأبنائها وبناتها. إن الشهادة الجامعية بالنسبة للكثير من المسيحيين العرب ليست ضمان اقتصادي فحسب، بل هي أيضا جواز سفر في حال ساءت ظروف الحياة في شرقنا المقلقل. تصبح الشهادة الجامعية في هذه الحالة ضمان للنازح للعمل والنجاح في بلاد المهجر.
يرافق هذا التعليم الجامعي عادة ثقافة واسعة وإطلاع على مواضيع ومجالات عدّة. فكثير من المثقفين مطلّعون على السياسة الداخلية والإقليمية وينظّرون بالماركسية والامبريالية والقومية. كما أن مثقفينا، المسيحيون العرب، مطلّعون على مسائل الاقتصاد والاستهلاك ومطلّعون على أسماء المغنين والفكاهيين والممثلين - العرب منهم والأجانب على حد سواء. كما يتميّز المسيحيون العرب في بلادنا بحبهم للتّجوال والسياحة فيجوبون بلاد العالم شرقاً وغرباً ويكتسبون الخبرات واتساع المعرفة عن ثقافات العالم. لكن الغريب هو أن المعرفة والإطلاع تجد حدّها حين يصل الأمر لشؤون معرفة الكتاب المقدس والدين المسيحي.
فجأة تجد أن المثقف المسيحي المطَّلع على شؤون الحياة يكون جاهلاً في شؤون الإيمان المسيحي. فالمضحك والمبكي أن تسمع القول أن يسوع المسيح سمح بالخمر حين قال "قليل من الخمر يفرّح قلب الإنسان" وتارة تسمع أن كل الديانات تنادي بذات الشيء أو ان الديانات ما هي إلا شرائع أخلاقية. الانكى من ذلك هو حين تسمع من يحملون اسم المسيح ومن يدعّون الثقافة يقولون ان المسيحية تنادي بالخلاص بالإعمال الحسنة. إنها "درر" تطلق ممن لم يقرؤوا الكتاب المقدس ولم يكرسوا وقتاً لدراسة امور الايمان المسيحي. كما ينتشر الجهل ليس في شؤون العقيدة فحسب بل ايضاً في التاريخ الكنسي فلا يعرف الكثيرون ان كنيسة اللاتين هي نفسها كنيسة الكاثوليك ومركزها في الفاتيكان أو لا يميّزون بين مارتن لوثر ومارتن لوثر كينغ. قلائل يعرفون اسباب الانقسام بين الكنيسة الشرقية والغربية وغيرها وغيرها.
يغالي بعض المتعلمين من المسيحيين فيفتخرون بجهلهم بأمور دينهم ويجاهرون بعدم ارتياد الكنيسة أو الاهتمام بالدين. يفعل الكثير ذلك تزلفاً للأغلبية المسلمة ولكي يصوروا ذواتهم كعلمانيين غير متعصبين مع أن الإيمان المسيحي والمعرفة في شؤون الإيمان المسيحي لا تعني التعصب أصلاً. معرفة إيماننا المسيحي هو قسم من معرفة هويتنا المسيحية العربية. لم تنشأ مسيحيتنا من فراغ بل من عمل الرب يسوع على الصليب، القيامة والكنيسة الاولى وسنوات من انتشار المسيحية. ومن هنا وجب معرفة ايماننا المسيحي ولو لهذا الغرض فقط.
وحتى لو قبلنا جدلاً ان هذا غير مهم، ولكن المسيحية والكتاب المقدس كان لها اكبر الأثر على العالم ككل على مر العصور. فالإيمان المسيحي هو الأساس للمجتمعات في أوروبا والأميركيتين وطال تأثيره العالم بأسره. لذا من الضروري للمهتم بالتجربة الإنسانية ومن يعتبر نفسه مواطنًا للعالم كله أن يطلّع على أساسات الإيمان المسيحي.
الأمر يتعدى كل ذلك، فألاهم هو ان الكتاب المقدس يحتوي ليس فقط اسمى التعليم حتى بحسب غير المسيحيين، بل هو يحتوي ما يعلّمه المسيح عن الطريق الصحيح في الحياة الحاضرة وللوصول للحياة المستقبلية. إحدى سمات المثقف انه يميّز بين الغث والسمين؛ ومن هنا وجب على من يدّعي أنه مثقف أن يقرأ بتمعن ما يقوله الكتاب المقدس عن معنى الحياة وطريق الخلاص، كونها أهم أسئلة في الوجود.
هل كل أمور العالم من ثقافة وحضارة وسياسة واقتصاد أهم مما يقوله يسوع المسيح؟
لا بد من نزع صفة "المثقف" ممن يتجاهل الكتاب المقدس ولا يعرف مكنوناته حتى لو برع في معرفة مستفيضة في عشرات المجالات الأخرى.