مِن الصعب نسيان لحظات يعتبرها الإنسان تاريخية في حياته، مرّت عليه مرور الكرام ويتمنى لو أنها تعود؛ أنهيت المرحلة الأخيرة من دراستي المتوسطة- الصفّ التاسع- في بغداد واسم المدرسة متوسطة الزوراء للبنين الواقعة في جانب الرصافة. لفتني فيها أن أستاذ اللغة العربية في صفِّنا كان مسيحيًّا وقد تنبّه إلى موهبتي الشعرية فشجَّعَني. ذلك عندما أطلعْـتُهُ على قصيدة من بحر البسيط كتبتها في أعقاب مناسبة ما، ثمّ ألقيتها بعد مرور عام في قناة تلفزيون البصرة، هي الأولى (والأخيرة) التي تمّ تسجيلها لي في محطة تلفازية. دخلت الصفّ الثانوي العام- العاشر- في البصرة. وفي اليوم الأول من بدء الدراسة جاءنا أستاذ اللغة العربيّة؛ عرَّفنا في بداية الحصّة على شخصيّته وعلى مقرّرات اللغة التي منها النصوص والقواعد والإنشاء. ثمّ كتب بيت شعر على اللوحة قائلًـا: سنتعرّف أوّلًـا إلى قائل البيت، نشرح معناه وتاليًا الإعراب. ثمّ أردف مبتسمًا: (والعروض إذا أمكن) حينئذٍ تنفَّسْتُ الصُّعَداء إذ ظننتُني الوحيد من التلاميذ الذي يعرف الوزن الشعري لذلك البيت، قبلما تيقّنت بأنّ ظنّي في محلِّه. فسُرَّ الأستاذ حتى سأل عن اسمي. ذلك أنّ بحور الشعر من المناهج المقررة للقسم الأدبي في الدراسة الثانوية والذي يُستقبَل فيه التلاميذ عادة بعد اجتيازهم الصّف العاشر. لكنّ اختياري ذهب صوب القسم العلمي؛ لأنَّ الأدب عمومًا كان من هواياتي، ما فكّرتُ قطُّ بالتخصص فيه. أمّا اليوم فأتفق مع الرأي القائل بتفوّق الموهبة أحيانًا على التخصص
ثالثًا: بَحْرُ البَسِيْط
كان البيت الذي كتبه الأستاذ للشاعر النابغة الشَّيباني* ومن بحر البسيط
لا تمْدَحَنَّ اٌمْرَءًا حتَّى تُجَرِّبَهُ * ولا تذمَّنَّهُ مِن غير تجريبِ
إذًا عندنا في هذه الحلقة تفعيلة جديدة هي مُسْتَفْعِلُنْ وهي مفتاح تعلُّم كتابة شعر من البسيط، الذي ينضمّ إلى الطويل في قائمة البحور الأكثر استعمالًـا في تاريخ الشعر العربي كلِّه، لعَلّ البسيط من أبسطها. أمثلة؛ قصيدة الأعـشى قيس (وَدِّعْ هُرَيْرَة...) وقصيدة النَّابغة الذُّبياني (يا دارَ مَيَّة...) اللتان من المُعَلَّقات. وقصائد المتنبي الشهيرة: واحَرَّ قلباهُ ممّن قلبُهُ شَبِمُ...، عِيْدٌ بأيَّة حالٍ عُدْتَ يا عيدُ...، يا أختَ خير أخٍ... التي مِثلها عَروضيًّا قصيدة أبي تمّام (السَّيف أصْدَقُ أنباءً مِن الكتُبِ...) أمّا قصيدة عبيد بن الأبرص المُعَلَّقة التي مطلعها: (أقفرَ مِن أهلِهِ ملحوبُ...) والتي صنَّفها العَروضيّون على أنها من أنواع البسيط (المسمّى بالمُخَلَّع) فإني أختلف معهم على ذلك التصنيف، كما اختلف معهم قليل غيري، إلّـا أنّ حجّتي مختلفة؛ إذ اعتبرْتُ مُعَلَّقة عبيد وقصائد على نسقها من بحر مستقلّ، أترك عرضه الآن حتى يحين الأوان، لأنّ لعروضه ارتباطًا مع عروض بحر المُنسَرِح (الحلقة العاشرة) فالبحور التي تتناولها هذه الدراسة ثمانية عشر- مع احترامي لمن يختلف معي من العَروضيِّين في المستقبل
ذكر العَلّـامة الأب لويس شيخو اليسوعي في كتابه الموسوم «علم الأدب» ج 1 ص 379 تعريفًا لبحر البسيط سأفسِّر كلّ فقرة منه بعد وضعها بين قوسين: (أجزاء البسيط هي مُسْتَفْعِلُنْ فاعِلُنْ- أربع مرّات، له ثلاث أعاريض وستة أضرب) ما سأقوم بتفصيله مع الأمثلة (يجوز فيه خبْن مُسْتَفْعِلُنْ إلى مَفاعِلُنْ) فأصْلُ مَفاعِلُنْ في بحر البسيط هو مُسْتَفْعِلُنْ بعد حذف السين منها لتصير مُتَفْعِلُنْ التي تُنقل إلى مَفاْعِلُنْ؛ ما يتفق ومواقع الحركة والسكون. قال حاتِم الطّائي
يَرى البخيلُ سبيلَ المال واحدةً * إِنَّ الجَوَادَ يرى في مالِهِ سُبُلـا
يَرَلْبَخيْ- لُسَبيْ- لَـلْمالِواْ- حِدَتنْ * إِنْنَلْجَوا- دَيَرَا- فيمالِهِيْ- سُبُلـا
يَرَلْبَخيْ: مُتَفْعِلُنْ أي مَفاْعِلُنْ (ويجوز طيُّ مُسْتَفْعِلُنْ إلى مُفْتَعِلُنْ) والطَّيُّ هنا: حذف حرف الفاء من مُسْتَفْعِلُنْ لتصير مُسْتَعِلُنْ التي تنقل إلى مُفْتَعِلُنْ. مثالًـا على الطّيّ، من مُعلَّقة الأعشى- وهي من بحر البسيط
تَـسمَعُ للحَلْيِ وَسْوَاسًا إِذا اٌنصَرَفَـتْ * كما اٌسـتعَان برِيحٍ عِـشـرِقٌ زَجِـلُ
أيضًا: تُـلـزِمُ أرْماحَ ذِي الـجَدَّيْنِ سَـوْرَتَنا * عِـنْـدَ اللقاءِ فـتُـرْديهِمْ وَتَعْتَزِلُ
فتفعيلة كلٍّ من (تَـسْمَعُلِلْ) و(تُـلـزِمُأَرْ) هي مُفْتَعِلُنْ
ذلك ما لاحظ الباحث لويس شيخو في الشعر القديم مُنوِّهًا بالتالي (لكنّ الطّيّ مقبول في الشطر الأوّل فقط) أي أنَّه مقبول في صدر البيت وغير مقبول في عجزه، بَيْدَ أنّ غير المقبول قد ورد في قصيدة الأعشى المُعَلَّقة وفي قصائد أخرى
حَـتَّى يَـظَلَّ عَـمِـيـدُ الـقوْمِ مُـتَّكِئاً * يَـدْفَعُ بالـرَّاحِ عَـنْهُ نِـســوَةٌ عُجُـلُ
وَعُلِّقَتْني أُخَيْرَى مَا تُلائِمُني * فاٌجتَمَعَ الحُـبُّ حُـبًّا كُلُّهُ تَبِلُ
إذ وَرَدَ مثالًـا في قصيدة البُردة لكعب بن زهير (بانتْ سعاد) وهي من البسيط
يا وَيحَها خُلَّةً لَو أَنَّها صَدَقتْ * ما وَعَدَتْ أَو لَوَ اٌنَّ النُّصْحَ مَقبولُ
عَيْرانةٌ قُذِفَتْ في اللَحمِ عَن عُرُضٍ * مِرْفَقُها عَن بَناتِ الزورِ مَفتولُ
فتفعيلة كل من (يَدْفعُبِرْ، فجْتَمَعَلْ، ما وَعَدَتْ، مِرْفَقُها) هي مُفْتَعِلُنْ. لكن الواقع مع تقدّم الزمن هو أنّ الشعراء عدلوا عن استعمال الطَّيَّ سواء في صدر بيت البسيط وفي عجزه، حفاظًا على رونق البيت وموسيقاه (ويجوز خبْن فاعِلُنْ إلى فَعِلُنْ) أي حذف الألف من فَاْعِلُنْ فتصير فَعِلُنْ وهذا الخبن مُستحَبّ في صدر البيت وعجزه معًا، كما في بيت حاتم الطّائي المذكور وفي بيت الأعشى: وَدِّعْ هُرَيْرَة... وانتهى التعريف
أنواع البَسِيْط
سأركز على نوعين اثنين ازدهت بهما جواهرُ البسيط ولآلئُه، ثمّ ألقي ضوءً خفيفًا على غيرهما، ما تقتضي الدراسة الأكاديمية إحاطة القرّاء علمًا به
أوّلًـا؛ البسيط التام الذي عروضُهُ فعِلُنْ- بتحريك العين- وضرْبُها مِثلها
مُسْتَفْعِلُنْ- فاعِلُنْ- مُسْتَفْعِلُنْ- فَعِلُنْ * مُسْتَفْعِلُنْ- فاعِلُنْ- مُسْتَفْعِلُنْ- فَعِلُنْ
وَدِّعْ هُرَيْرَة إنَّ الرَّكْبَ مُرْتحِلُ * وهَلْ تُطِيْقُ وَداعًا أيُّها الرَّجُلُ
غرَّاءُ فرعاءُ مَصْقولٌ عَوارضُهَا * تمشي الهُوَيْنى كما يَمْشِي الوَجي الوَحِلُ
وَدْدِعْهُرَيْ- رَتَئِنْ- نرْرَكْبَمُرْ- تحِلُو * وَهَلْتُطِيْ- قُوَدَا- عَنْأيْيُهَرْ- رَجُلُو
غرْرَاْؤفَرْ- عَاؤمَصْ- قُوْلُنْعَـوَا- رِضُهَا * تمشِلهُوَيْ- ناكما- يَمْشِلوَجِلْ- وَحِلُوْ
تنويه: لاحظ-ي طريقة الكتابة عروضيًّـا ولا سيّما البيت الثاني؛ إذ اختفت الياء لفظًا مِن كلّ مِن (تمشِي، يمشِي، الوَجي) حتى حلّ الخفض (أو الكسر) محلّ كلّ منها. فهذه هي الطريقة الصحيحة لقراءة البيت وتقطيعه
من الأمثلة على هذا النوع من البسيط: قصيدة حاتم الطائي التي منها البيت المذكور أعلى؛ مطلعها: مَهْلًـا نَوَارُ أقِلِّي اللومَ والعذَلَـا * ولا تقولي لشيءٍ فاتَ ما فعَلَـا
وقصيدة النابغة الذبياني المعلَّقة؛ مطلعها: يا دارَ مَيَّة بالعلياءِ فالسَّنَدِ... إلخ
وبيتا عنترة بن شدّاد اللذان غنتهما السّيّدة فيروز
لو كان قلبيْ معيْ ما اٌخترتُ غيرَكُمُ * ولا رَضِيتُ سِوَاكُمْ في الهَوى بدَلَـا
لكنهُ راغبٌ في منْ يعذّبُهُ * فليسَ يقبَلُ لا لومًا ولا عَذلَـا
وبردة البوصيري: أمِنْ تَـذَكِّرِ جيرانٍ بـذي سَـلَمِ * مَزَجْتَ دَمْعًا جرى مِنْ مُقلَةٍ بدَمِ
وقد عارضها أحمد شوقي بقصيدة “نهج البردة” وهذه غنتها كل من السّيّدتين أمّ كلثوم ونجاح سلام وغيرهما؛ مطلعها: ريمٌ على القاع بَيْن البان والعَلَمِ... إلخ
وأخيرًا؛ قصيدة ابراهيم اليازجي التي مطلعُها
تنبَّهُوا واٌستفيقوا أيُّها العَرَبُ * فقد طمَى الخَطْبُ حتى غاصتِ الرُّكَبُ
ثانيًا؛ البسيط التام الذي عروضُهُ فعِلُنْ وضَرْبُها فعْلُنْ بتسكين العين
مُسْتَفْعِلُنْ- فاعِلُنْ- مُسْتَفْعِلُنْ- فَعِلُنْ * مُسْتَفْعِلُنْ- فاعِلُنْ- مُسْتَفْعِلُنْ- فَعْلُنْ
قد كان بيْ ما كفى مِن حُزنِ غَرْسانِ * والآن قد زادَ في هَمِّي وأحزاني
ما حالُ بَرّاقَ مِن بعدي ومَعْشَرِنا * ووالدَيَّ وأعمامي وإخواني
قدْكانَبيْ- ماكفا- مِنحُزنغَرْ- سانِيْ * ولْئانقدْ- زادَفِيْ- هَمْمِيوَءَحْ- زاني
ماحالُبَرْ- راقمِنْ- بَعْدِيْوَمَعْ- شَرِنا * وَوَالِدَيْ- يَوَءَعْ- مامِيْوَئِخْ- واني
والبيتان من قصيدة للشاعرة النصرانيّة ليلى العفيفة (ت 483 م) هي مَرْثِيَّة في ابن عمِّها غَرْسان بعدما علِمَت بخبر قتله في حرب. وغرسان هو أخو شاعر النصرانيّة المشهور والفارس البَرّاق (ت 470 م) الذي أنقذ محبوبته العفيفة من قبضة الأسر في بلاد الفرس. وليلى العفيفة والبَرّاق من شعراء اليمن. ومن قصيدتها أيضًا
تربَّعَ الشَّوقُ في قلبي وذبتُ كما * ذابَ الرَّصاصُ إذا أُصْليْ بنيرانِ
فلو ترانيْ وأشواقيْ تُقلِّـبُني * عَجِبْتَ بَرَّاقُ مِن صَبْريْ وكِتماني
ومن الأمثلة المعروفة على هذا النوع؛ قصيدة المتنبي التي مطلعُها
عِيْدٌ بأيَّةِ حالٍ عُدْتَ يا عِيْدُ * بما مضى أمْ لأمْرٍ فيكَ تجديدُ؟
أمّا الأحِبَّةُ فالبَيْداءُ دُوْنهُمُ * فليتَ دُونكَ بيْدًا دُونها بيدُ
عِيْدُنبئَيْ- يَتِحَا- لِنْعُدْتَيا- عِيْدُوْ * بمامَضا- أمْلِئَمْ- رِنْفِيكَتجْ- دِيْدُوْ
أمْمَلْءَحِبْ- بَتُفلْ- بَيْداؤدُوْ- نَهُمُوْ * فلَيْتَدُوْ- نكَبيْ- دَندُونها- بيْدُوْ
تنويه؛ لاحِظ-ي أنّ حركة ميم الجماعة في (دونهُمُ) هي الضمَّة (لا السكون) لتمشية الوزن بدون عيب نحويّ، لكن هناك من يقرأها بتسكين الميم أي (دونهمْ) ما يؤدّي إلى اختلال في الوزن وإن كان المعنى واحدًا. لذلك قلت في ما مضى أنّ معرفة الوزن ضرورية لضبط علامات الإعراب. هذا في وقت نقرأ في قصيدة أخرى للمتنبّي (هي من نوع البسيط الأوّل) ميم جمع ساكنة، كما في قوله “لهُمْ” فلا تجوز قراءتها (لهُمُ) بضمّ الميم في ما يأتي حفاظًا على الوزن
تَخالَفَ النّاسُ حتى لا اتّفاقَ لَهُمْ * إلّـا على شَجَبٍ والخُلْفُ في الشَّجَبِ
والبيت من مرثيّة له في السيدة خولة أخت سيف الدولة الحمداني؛ مطلعُها
يا أختَ خير أخٍ يا بنتَ خيرِ أبِ * كنايةٌ بهِما عنْ أشرفِ النَّسَبِ
لكنّ الجدير ذكره؛ هو وجوب تحاشي انتهاء شطر البيت بكاف المخاطب-ة المبنيّ على الفتح أو الكسر (لكَ، بكِ، معك) بخطأ وقع به هواة الشعر اليوم. لأنّ القاعدة التي نصّت على قلب الضمّة (التي على الهاء أو الميم) واوًا وقلب الكسرة ياءً لثقل الضمّة والكسرة على هذين الحرفين وللضرورة الشعرية، لا تتماشى عروضيًّا مع حرف الكاف كضرورة، لخفّة الفتحة، إلّـا إذا كان كل من (لكَ، بكِ،...) جزءً من قافية، عندئذٍ تطلق الفتحة بألف الإطلاق، بينما يبقى الكسر؛ كقول شاعر من البسيط
أنظرْ بعينيَّ إمّا بتَّ تعْذلُني * تُبْصِرْ مَحَاسِنَها بالرُّوحِ عيناكا
وقول عنترة بن شدّاد من البسيط أيضًا
يا عَبْلُ إن كان ظلُّ القسْطلِ الحلكِ * أخفى عليكِ قتالي يومَ معتركي
فسائِلِيْ فرَسِيْ هلْ كنتُ أطْلِقُهُ * إلّـا على موكبٍ كالليلِ مُحْتبكِ؟
ومن أمثلة النوع الثاني أيضًا؛ قولُ الحُطَيئة
دَعِ المكارمَ لـا ترحلْ لبُغْيَتها * واٌقعُدْ فإنّكَ أنتَ الطاعمُ الكاسي
وخمريّة أبي نؤاس التي مطلعُها
دَعْ عنكَ لوميْ فإنَّ اللومَ إغراءُ * وداوِني بالتي كانتْ هِيَ الدّاءُ
صفراءُ لا تنزلُ الأحزانُ ساحتها * لو مسَّها حجَرٌ مَسَّتهُ سَرّاءُ
ولعلّ من أشهر الأمثلة على هذا النوع؛ المناظرة التي جرت بين عبيد بن الأبرص واٌمرئ القيس، كانت لي معها وقفة ذات سؤال وجواب في البيت ذاته (منشورة الكترونيًّا) فيسرّني ذِكر بيتي المناظرة الأوّلين مع الوقفة المقابلة لهما
قال الأوَّل: ما حَيّة ٌ مَيْتة ٌ قامتْ بمـِيْتتِها * دَرْداءُ ما أنبَتتْ ناباً وأضراسا؟
أجاب الثاني: تلك الشعيرةُ تُسقى في سنابلها * فأخرجَتْ بَعْدَ طول المكث أكداسا
الوقفة: ما نبتة ٌ أثمَرَتْ خيرًا زراعـتُها؟ * تلكَ المَحَبّةُ تأتي الصَّخْرَ إحساسا
وتجاه نوعَي البسيط المذكورين واجبٌ يُنصَحُ به شعراءُ اليوم؛ هو تجنُّب خبن مُسْتَفْعِلُنْ الثانية إلى مَفاعِلُنْ في كلٍّ من صدر البيت وعجزه. لنأخذ مثالًـا بيت اٌمرئ القيس الذي خبَنَ فيه التفعيلة مستفعلن الواقعة في الجزء الرابع، أي التي في عجز البيت
أَبَعْدَ زَيْدَانَ أَمْسَى قرْقرًا جَلَدًا * وكان مِن جَنْدَلٍ أَصَمَّ مَنْضُودَا
أَبَعْدَزَيْ- دَانَأَمْ- سَاقَرْقَرَنْ- جَلَدَنْ * وكانمِنْ- جَنْدَلِنْ- أَصَمْمَمَنْ- ضُودَا
وبيتين فعَلَ الأعشى في صدر أوَّلهما وفي عَجْز الآخر ما فعل اٌمرؤ القيس
عُـلِّـقْـتُها عَرَضًا وَعُـلِّـقَـتْ رَجُلًـا * غَيرِي وعُلِّقَ أُخرَى غيرَها الرَّجُلُ
بَرْقًا يُضِيءُ عَلى الأجزاعِ مَسْقطهُ * وبالخَبِيَّةِ مِنْهُ عَارِضٌ هَطِلُ
إذًا كلٌّ من (أَصَمْمَمَنْ، وَعُلْلِقَتْ، هُعَارِضُنْ) على وزن مَفاعِلُنْ الناتجة من الخبن غير المستحبّ لـ مُسْتَفْعِلُنْ الواقعة في الجزئين الثاني والرابع من بيت البسيط
ثالثًا: مجزوء البسيط
عروضه: مُسْـتَـفعِـلُنْ. ولها ثلاثة أضرب: مُسْـتَـفعِـلُنْ- مثلها، مُسْـتَـفعِـلانْ، مُسْـتَـفعِلْ التي تُنقل إلى مَفعُوْلُنْ
1. مثالًـا على العروض مُسْـتَـفعِـلُنْ وضرْبُها مُسْـتَـفعِـلُنْ أيضًا
ماذا وقوفي على ربْعٍ خلَـا * مُستوحشٍ دارسٍ مستعجمِ
مثالًـا آخر: أهكذا باطِلًـا عاقـبْتَـنِي * لا يَرْحَمُ اللهُ مَن لا يَرْحَمُ
2. مثالًـا على العروض مُسْـتَـفعِـلُنْ التي ضربها مُسْـتَـفعِـلانْ
يا طالبًا في الهوى ما لا يُنالْ * وسائلًـا لم يعَفْ ذلَّ السُّؤالْ
وَلَّتْ ليالي الصِّبا محمودةً * لو اٌنّها رجَعَتْ تلكَ الليالْ
3. مثالًـا على العروض مُسْـتَـفعِـلُنْ التي ضربها مَفعُوْلُنْ
يا مَن دَمِي دونهُ مسفوكُ * وكلُّ حُرٍّ لهُ مملوكُ
كأنّهُ فضّةٌ مسبوكةٌ * أو ذهبٌ خالصٌ مسبوكُ
ما أَطْيَبَ العَيْشَ إلا أَنَّهُ * عَنْ عاجِلٍ كُلُّهُ مَتْرُوكُ
رابعًا: مشطور البسيط
فيه نصف تفاعيل البسيط التامّ؛ أي مستفعلن فاعلن مرتين بدلًـا من أربع. مع جواز الخبن والطّيّ- كما في التامّ. وأغلب الظنّ أنّ مبتدعه شاعر من الأندلس. فقد ورد في المُوَشَّحَات الأندلسية التالي- عن مقطع يوتيوب المذكور في نهاية حلقة بحر المديد
غـدا مُـناديـنا * مُحَكَّـمًا فـينا
(يقضي علينا الأسى * لولا تأسِّينا)
يا جيرة بانتْ * عن مُغرَمٍ صَبِّ
لعهْدِهِ خانتْ * مِن غير ما ذنبِ
ما هكذا كانت * عوائدُ الحبِّ
لا تحسَبُوا البُعْدا * يُغيِّرُ العَهْدا
إذ طالما غيّرَ النّأيُ المُحِبِّينا
والبيت الأخير مُدوَّر؛ غالبًا ما يوضع الحرف م إلى جانبه؛ أي يشترك شطرا البيت في كلمة واحدة؛ هي جزء من نهاية الشطر الأوّل مع جزء من بداية الثاني. مثالًـا: النّأي
إذطالما- غيْيَرَنْ * نأيُلْمُحِبْ- بيْنا = مُسْـتَـفعِـلُنْ- فاعِلُنْ * مُسْـتَـفعِـلُنْ- فَعْلُنْ
لكن يبدو أنّ صاحب الموشَّحَة ضَمَّن عجز بيت من البسيط للشاعر الأندلسي ابن زيدون، مطلعُ قصيدته: أضْحَى التّنائي بَديلًـا مِنْ تدانِينا * ونَابَ عَن طِيْبِ لُقيانا تجافِيْنا
فالبيت المُضمَّن منه: نَكادُ حِين تُناجيكُمْ ضَمائرُنا * يَقضي علينا الأسَى لولا تأسِّيْنا
لهذا تمَّ وضْعُ البيت المُضمَّن بين قوسين، هو من أخلاق الاقتباس. فالتضمين: قيام كاتب باقتباس نصٍّ ما من كاتب آخر، يضع النصَّ بين قوسين ويعترف بأنَّه مقتبس، مُشيرًا إلى الجهة التي تمّ الإقتباس منها وإلى اسم صاحب النصَّ إذا كان معلومًا
مثالًـا آخر؛ قال أحمد شوقي في وصف الخمر
طالَ عليها القِدَمْ * فهْيَ وُجُودٌ عَدَمْ
قد وُئِدَتْ في الصِّبا * واٌنبَعَثتْ في الهَرَمْ
بالغَ فرعونُ في * كرْمتِها مِن كرَمْ
أهْرَقَ عُنقودَها * تقدِمَةً للصَّنمْ
* * * * *
* النابغة الشَّيباني (ت 743 م) هو عبدالله بن المخارق، نابغة بني شيبان- غير النابغة الذبياني وغير النابغة الجَعْدي وسواهما من نوابغ العرب- دعاه قومُهُ بالنابغة لجودة شعره ومتانته. من شعراء النصرانية في العصر الأموي، ورد ذكره في كتب؛ منها الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني 151:6 على أنّ الشَّيباني (شاعر بدوي. كان يقيم كما نظنّ في حدود الشام مع قومه بني شيبان ويتردد على مدنها. فهو يذكُرُ في شِعْرهِ دمشق وبعلبك. أمّا دينه فكان فيما أرى نصرانيًّا لأني وجدتُهُ في شعره يحلف بالإنجيل وبالرهبان وبالأيمان التي يحلف بها النصارى) انتهى. وشكرًا جزيلًـا للأب لويس شيخو اليسوعي على كتبه الموسومة في علم الأدب وفي آداب شعراء النصرانية