أتمنى أن ما يزال على قيد الحياة مَن يتذكر مقابلة أدبية على التلفزيون العراقي مع الشاعر السوري خليل الخوري (1931 - 1997 م) التي تحدَّث خلالها عن ترجمتِهِ قصيدة "المركب السكران" الشهيرة للشاعر الفرنسي آرثر رامبو (1854 - 1891) فقال خليل الخوري ما معناه: [احتوت القصيدة على كلمات بالدارجة الفرنسية ما لم أفهم معناه، فاضطررت للسفر الى الريف الذي نشأ فيه رامبو لمعرفة معاني تلك الكلمات بدقّة] علمًا أن رامبو نشأ في الجزء الريفي الأوسط من شارلفيل في الأردين، شمال شرقيّ فرنسا (1) فكم كان خليل الخوري دقيقًا في عمله وأمينًا وجديرًا بالمسؤولية أدبيًّا وأخلاقيًّا؟! هذا على رغم اختلاف أذواق النقاد على ترجمته المذكورة، إذ لم تكن ترجمة حَرفيّة؛ 1 نظرًا لصعوبة ترجمة الشعر عمومًا و2 لاحتواء القصيدة على معان رمزية عميقة. فلا شك في أنّ الترجمة لو كانت حَرفية لأساءت إلى معاني القصيدة. وهذا ما يذكّر المسيحي-ة بالآية الخالدة التي فيها: {لا الحَرف بَلِ الرُّوح. لأَنَّ الحَرفَ يَقتُلُ ولكِنَّ الرُّوحَ يُحْيِي}+ كورنثوس الثانية 3: 6 والقصيدة اليوم منشورة على الانترنت بنصّها الأصلي مع الترجمة إلى العربية، ولها أيضًا صفحة خاصة على ويكيپيديا (2) بلغات عدّة ما عدا العربيّة. فكم من المترجمين اليوم بهذا المستوى من المسؤولية والحِرَفية والتذوّق والنزاهة؟
1 قِصّتي مع غاليليو
قرأت على صفحة أحد المواقع المسيحية سنة 2008 نقدًا ضد الكنيسة الكاثوليكية على أنّ محكمتها حكمت بإعدام العالم الإيطالي غاليليو غاليلي (1564-1642) ما لم أسمع به من قبل. فوجدت الخبر منقولًا عن القسم العربي في ويكيپيديا- الموسوعة الحرّة- فلم أصدِّق. لذا فكّرت في الضغط على رابط القسم الإنـگـليزي لسيرة غاليليو لأتحرّى الحقيقة. فاكتشفت الغلط في معلومة القسم العربي والهدف من ورائه. فلم أثق بالقسم العربي منذ ذلك الحين، وإن احتجت أحيانًا إلى بعض معلوماته. فقمت بالرّدّ على الناقد. وقد وصل ردّي إلى محرّر القسم العربي، بسرعة بدت لي قياسية، ليحرّر الخبر من جديد مغيِّرًا المعلومة المغلوطة إلى صحيحة خلال أقلّ من أسبوع. عِلمًا أنّ رئاسة الكنيسة قد اعتذرت في ما بعد عن سوء تعاملها مع غاليليو معترفة بتأثير خصومه على طاقم المحكمة. وصدر تصريح من الپاپا بنديكت الرابع عشر سنة 1741 بطباعة كتب غاليليو كلّها. وفي نوفمبر 2008 تراجع الڤاتيكان من جديد عن الحكم الذي صدر ضد غاليليو سنة 1632 في وقت لم يوقّع أوربان الثامن (الپاپا حينذاك) على قرار المحكمة وكان معه عدد من الكهنة ممّن لم يؤيدوا القرار.
2 مواقع الكترونية مسيحية
تؤسفني قلّة حِرَفيّة بعض المواقع الالكترونية المسيحية وإن نقلت أخبارًا صحيحة. أمامي الآن الموقع (س) فمثالًا؛ قام محرّر (س) بترجمة خبر عن الرئيس الروسي ڤلاديمير پوتين إلى العربيّة من صحيفة "واشنطن پوست" بتاريخ الأحد 16 شباط 2014 والساعة 10:28 يُفيد بأنّ الرئيس پوتين (وَبَّخ البلدانَ الغربية التي هَجَرت القِيَم المسيحية...) فكم تَعِبَ المترجم في الترجمة وفي نقل الخبر إلى القرّاء بأمانة ودقّة؟! فتخيّل أنْ قام محرر موقع مسيحي آخر (ص) بنسخ الخبر حَرفيًّا ونشره على صفحة أخبار موقعه، بدون أيّة إشارة إلى الموقع الأصلي الذي نسخ الخبر عنه (س) وبدون إشارة إلى مصدر الخبر (واشنطن پوست) وبدون إشارة إلى اسم المترجم إن وُجِد. هذه الفعلة الغبيّة تدعى "سرقة أدبية أو فكرية" وهي إمّا مقصودة، إمّا كان محرِّر (ص) عارفًا ما فعل مع سبق الإصرار، أو غير مقصودة إمّا كان محرر (ص) بليدًا أو دخيلًا على عالم الصحافة، لا أقول جديدًا على عالَمِها، لأنّ الجديد قد يكون جديرًا بتحمّل المسؤولية الملقاة على عاتقه مثلما السابق وأكثر. هذا وإن سَرَّ الخبرُ بعضَ القرّاء وإن غاظ بعضَ الخصوم.
لم ينتهِ الموضوع عند هذا الحد، إذ يقوم محرِّر موقع ثالث (ع) بنسخ الخبر على صفحته، نقلًا عن الموقع الثاني (ص) فيكتب (ص) تحت عنوان الخبر للأمانة. ولم يكلِّف نفسه البحث عن أصل الخبر وتاليًا الوصول إلى الموقع (س) فماذا أسمّي المحرر الثالث، بليدًا أيضًا أم ماذا؟ ومعلوم أنّ (السِّرّ إذا تعدّى اثنين شاع) لذا شاع الخبر عبر مواقع أخرى وضاع اسم المترجم واختفى اسم الموقع (س) الذي يعمل المترجم لمصلحته. عِلمًا أنّ تاريخ نشر الخبر يلعب دورًا فعّالًا في تقصّي الحقيقة، بالإضافة إلى الثقة بمصداقية هذا الموقع وذاك. وقد اخترت الرموز س، ص، ع اقتباسًا من الأبعاد الهندسية المدرسية في العراق.
وإليك المثال التالي بالمناسبة؛ نشر موقع "أمْ أسْ أنْ" الالكتروني النرويجي، واسع الانتشار في سكندناڤيا، خبرًا عن بوتين بتاريخ 12.08.2015 تحت عنوان: "11 معلومة ينبغي لك معرفتها عن ڤلاديمير پوتين" ومنها، باختصار وبحسب ترجمتي شخصيًّا لأني منذ عام 2004 أتقنت اللغات المكتوبة بالدنماركية والسويدية والنرويجية وغيرها 1. أنّ پوتين في عمر الـ 18 حصل على الحزام الأسود في رياضة الجودو 2. يتكلّم اللغة الألمانية بطلاقة 3. يحبّ الكلاب 4. فعّال في السباحة والغوص والتجذيف والخروج إلى الصيد كصيد السمك 5. جدّه عَمِل طبّاخًا في منزل لينين الريفي ولاحقًا أعدّ الطعام لجوزيف ستالين 6. شعبيته الرئاسيّة بلغت 85.9% وفق استطلاع آراء الناخبين في مايو 2014 و7. كان ڤلاديمير پوتين مُلحِدًا خلال شبابه فأصبح متديّنًا بعد حادثتين قويّتين تعرّض لهما خلال التسعينيّات، أمّا اليوم فهو عضو مكرَّس في الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية. لكنّ المعلومة التالية، وهي الأولى في سلسلة معلومات الصفحة النرويجية، هي التي دعتني إلى ضرب هذا المثال. فقد نصّت على تعيين مجلّة فوربس الأميركية پوتين بصفة (أقوى رجل في العالم للعام 2014) للعام الثاني على التوالي. فتصفَّحتُ المجلّة، من باب الفضول وربّما الشك، للعثور على هذه المعلومة، وإن وثقت بصحّة معلومات النرويج، لأنّي على اطّلاع بالحرب الباردة من قبل ما بين الأميركان والسوڤيات، فوجدتها صحيحة.
إنّ حقوق النشر يجب أن تكون محفوظة ما لم يسمح الناشر الأصلي (س) بتصرّف الآخرين في ما كتب وما نشر. فنقرأ التالي بتصرّف: (السرقة الفكرية أو الأدبية هي ادّعاء شخص صراحة أو ضمنيًّا بكتابة ما كتب آخر، أو النقل مما كتب آخرون كُليًا أو جزئيًا، بدون عزو أو اعتراف مناسب؛ أي باختصار العزو المزوّر أو إعطاء الانطباع بأنّك كتبت ما كتب غيرك. وهو نوع من السرقة)- عن ويكيپيديا: سرقة فكرية. وفي معجم المعاني الجامع؛ (العزو: مصدر عَزَا. عَزَا إِلَيْهِ الأعمال السَّيِّئة: نسَبَهَا إليه. عَزا الخَبَرَ إلى صاحبِه: أَسندَهُ إليه...) والمزيد عن "حقوق التأليف والنشر" في ويكيپيديا.
3 ترجمة مزوَّرة
من المؤسف كثيرًا محاولة تزوير كتاب ما أو مقال من خلال الترجمة. والمؤسف أكثر العلم بأنّ المترجم المزوِّر من ذوي التعليم العالي حتّى المستوى الجامعي وإلى درجة الحصول على شهادة الدكتوراه الفخرية. فأيًّا كان سبب التزوير فإنّ المزوِّر، في نظري، يجب أن يصنَّف ضمن الهابطين أخلاقيًّا، بل يجب تقديمه إلى دائرة قضاء مختصّ. وأخصّ بالذِّكر د. أنيس منصور (3) إذ تَرجَم كتاب مايكل هارت (4) مزوِّرًا، ابتداء بتزوير العنوان من "المائة- ترتيب الأشخاص الأكثر تأثيرًا في التاريخ" الواضح على غلاف الكتاب باللغة الإنـگـليزية (5) إلى "الخالدون مائة وأعظمهم محمد" ما جعل المسلمين يحتفلون به عبر قنواتهم الإعلامية بشكل لافت وإن كان المؤلِّف (هارت) يهوديًّا. فهل المزوِّر، أيًّا كان اسمه وعِرقه ومعتقده وشهادته العلمية ومركزه الاجتماعي وهدفه، شخص محترم؟ والمزيد في الرابط أدنى (6) تحت عنوان: سؤال جريء 313 كتاب "الخالدون..." دراسة وتحليل.
عِلمًا أنّ أحمد ديدات (7) نشر كتاب هارت نفسه مزوِّرًا أيضًا العنوان إلى التالي: "لماذا محمد هو الأعظم؟" فلا أقول المزيد في هذين المزوِّرَين لأنهما ماتا. إنّما قلت: شكرًا للأخ رشيد على فضح التزوير الصّادر عن مسلمين كذّابين ومزوِّرين أمام الإخوة المسلمين، لمصلحة المسلمين قبل غيرهم. وما هذا المِثال سوى (غيض من فيض) كما يُقال.
أخيرًا أنّ القراءة من أغذية العقل الضرورية. وقد ساعد تحديث تقنية الاتصالات على اكتشاف حقائق المدوَّنات من أخبار ومقالات وترجمات وغيرها. والقارئ العصري صار باحثًا عن الفائدة في كل مكان وعن الحقيقة في خضمّ ملابساتها. فمكتوب: {لَيْسَ خَفِيٌّ لا يُظْهَرُ، ولا مَكْتُومٌ لا يُعْلَمُ ويُعْلَنُ}+ لوقا 8: 17 وما عاد قارئ اليوم مصدِّقًا جميع الأخبار المنشورة قبل التحرّي عن الحقيقة؛ 1. عبر البحث في أزيد من مصدر، حتّى إذا كان المصدر المفضَّل لديه موثوقًا به، لأن المحرّر قد يُستبدَل بآخر "أرخص" وقد يكون البديل أقلّ شرفًا! 2. عبر التساؤل عن مناسبة النشر، لأنّ بعض الأخبار قد يُعاد نشرها لغاية ما، نقلًا عن المصدر الأصلي، مع إضافة بعض "البهارات" وسائر المقبِّلات. 3. عبر محاولة معرفة الغاية من النشر، كالدعاية، لأنّ الصحف الورقية وغيرها في سباق مستمر في ما بينها، إذ يستقطب السبق الصحافي مزيدًا من القرّاء. والجدير ذكره أنّ الصحافة الالكترونية مشدودة اليوم إلى عدد المشاهدات وعلامات الإعجاب والتعليقات والمشاركات، إلى الدرجة التي أفقدت بعضها المصداقية حينًا والثقة بها حينًا آخر، وإن قدَّمت للقارئ-ة غذاء يوميًّا لا استغناء عنه. والبحث المفترض إنجازه في النهاية ساري المفعول ولا حيود عنه ولا رجعة.
1 Arthur Rimbaud
https://en.wikipedia.org/wiki/Arthur_Rimbaud
2 The Drunken Boat
https://en.wikipedia.org/wiki/Le_Bateau_ivre
3 أنيس منصور (1924- 2011) أديب مصري وصحافي وفيلسوف.
4 مايكل هارت: فيزيائي أميركي من مواليد 1932.
5 The 100: A Ranking of the Most Influential Persons in History.
6 سؤال جريء 313 كتاب "الخالدون مائة وأعظمهم محمد" دراسة وتحليل:
https://www.youtube.com/watch?v=60z0-bH-baU
7 أحمد ديدات (1918- 2005) داعية إسلامي هندي المولد، مات في جنوب إفريقيا.