سبق لي أن ذكرت أنّ متعة البحث في الكتاب المقدَّس لا تضاهيها متعة، بحسب ما بحثت في العلوم والأخبار. فأستهلّ هذا القسم من المقالة بقراءة ما ورد في العهد الجديد من إشارات إلى العهد القديم في الأصحاح الخامس من الإنجيل بتدوين متّى وهو الأصحاح الشهير بالتطويبات التسع (1) التي أعلنها الرب يسوع في موعظته الشهيرة على الجبل المعروف بجبل التطويبات (2) وهذه الموعظة 1. لم يسبق إليها واعظ قبل يسوع المسيح 2. لم تصل إلى مستواها أيّة موعظة عبر التاريخ لا قبل ميلاد المسيح ولا بعد صعوده. ففيها الصيغة الكاملة للمحبة وسائر الفضائل الإنسانية بأرقى مستوى.
طوبى للحزانى وللودعاء وللأنقياء القلب
إليك ثلاثًا من التطويبات؛ ففي الآية: {طوبى للحزانى لأنّهم يَتَعَزَّون}+ متّى 5: 2 إشارة إلى أشعياء 61: 2 {لأُعَزِّيَ كُلَّ النَّائِحِين} وفي الآية التي بعدها: {طوبى للودعاء لأنهم يرثون الارض} إشارة إلى المزمور 36: 11 {لا تأتِني رِجْلُ الكِبرياء...} فالوداعة نقيضة الكبرياء. وفي الآية: {طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله} إشارة إلى المزمور 24: 4 {الطَّاهِرُ اليَدَيْنِ، والنَّقِيُّ القَلب... يَحْمِلُ بَرَكَةً مِنْ عِندِ الرَّبّ، وبِرًّا مِنْ إِلهِ خَلاصِه} والملاحَظ أنّ لكل تطويبة من التطويبات سببًا، لم يقل المسيح لأحد "طوبى" بدون سبب، إنما يوجد مقابل روحي أمام الحزن: العزاء. وأمام الوداعة: ميراث الأرض. وأمام نقاء القلب: معاينة الله. وكل مقابل مكافأة من الله. أمّا الأبعاد الروحيّة لهذه التطويبات فيجدها القارئ-ة في تفسير الكتاب المقدّس وفي آراء آباء الكنيسة القدامى، لأن هذه المقالة معنيّة بالإشارة وبالتعليق عليها أحيانًا وليس التفسير.
كنيسة جبل التطويبات
قد سمعتم أنه قيل:... وأمّا أنا فأقول لكم:
قول المسيح {قد سمعتم} يدل على أنّ السّامعين مطّلعون على أسفار الناموس وسائر أسفار الأنبياء ومدركون تاليًا إشارات المسيح إليها. و"قد" في اللغة حرف تأكيد أو تحقيق إذا سبق الفعل الماضي. بينما يُفيد التقليل أو التَّوقُّع أو الشّكّ أو احتمال الوقوع إذا سبق الفعل المضارع. فإذا وصلنا إلى قوله: {قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تقتل، ومَن قتل يكون مستوجب الحكم. وأمّا أنا فأقول لكم إنّ كل من يغضب على أخيهِ باطلًا يكون مستوجب الحُكم. ومن قال لأخيهِ: رَقا، يكون مستوجب المجمع. ومن قال: يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنم}+ متّى 5: 21-22 نجد إشارة إلى سفر الخروج 20: 13 ونجد تأكيدًا عليها في سفر التثنية 5: 17 ومعنى "رقا" فارغ الرأس، بلا عقل. وهي كلمة آرامية.
وهنا علّق الخوري يوسف داود، أحد مترجمي الكتاب المقدَّس إلى العربية، قائلًا في هامش ترجمة الأصحاح: (إنّ المسيح جاء ليُنجز جميع الرموز والنبوّات ويُتمّ ما كان ناقصًا في الناموس) وقول الخوري (ويُتمّ ما كان ناقصًا) مستند قطعًا على قول المسيح: {لا تَظُنّوا أَنِّي جِئْتُ لِأَنقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأنبياءَ. مَا جئتُ لأنقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ}+ متّى 5: 17
وسأضرب مثالًا آخر، من هذا الأصحاح، على الوصول إلى درجة الكمال في الناموس بالمسيح يسوع كقوله: {27 قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تَزْنِ. 28 وأمّا أنا فأقول لكم: إنّ كلّ مَن ينظر الى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه} فليس فعل الزنا وحده خطيئة، إنما التفكير في فعل الزنا خطيئة أيضًا.
فالسيد المسيح عالج الخطيئة باقتلاعها من جذورها؛ إذ نهى عن الغضب لأن القتل ثمرة الغضب. ونهى عن النظر باشتهاء إلى المرأة، غير الزوجة، لأن الزنا، سواء بالفعل وبالقلب، ثمرة الاشتهاء.
العِظة على الجبل
وقفة ما بين قَسَم الإنسان وقَسَم الله
ما زلت أقرأ في متّى\ الأصحاح الخامس، حتّى وصلت إلى قول المسيح: {33 أيضًا سمعتم أنه قيل للقدماء:لا تحنث بل أوفِ للرب أقسامك. 34 وأمّا أنا فأقول لكم: لا تحلفوا البتّة... 37 بل ليكُنْ كلامُكم: نعم نعم لا لا. وما زاد على ذلك فهو من الشّرّير} فأوّلًا أشار السيد المسيح في موضوع القَسَم إلى سِفر الخروج 20: 7 {لا تنطُقْ باٌسم الرب إلهك باطلًا لانّ الرب لا يبرئ من نطق باٌسمه باطلا} المؤكَّد عليه في سِفر اللاويّين 19: 12 وفي التثنية 5: 11 ثمّ أكّد العهد الجديد على قول المسيح في سِفر يعقوب 5: 12
وثانيًا؛ في الحديث عن القسم شجون، ومنها 1. قَسَم الإنسان؛ إذ رأيت الشارع، في العراق وفي سائر البلدان المُعَرَّبة والمؤسلَمة، حافلًا بالقسم بالله لأتفه الأسباب. وهذا من المحرَّمات في الكتاب المقدَّس؛ لأنّ الله، في رأيي، أعظم من أن يُقسَم به بدون ضرورة قصوى، يحدّدها خدّام الله. ربّما التمس غيري العذر لمن أقسم في مناسبات حسّاسة، كالشؤون القضائية في المحاكم وفي بعض المحافل الدولية وفي أداء اليمين الدستورية وفي الحفاظ على شرف المهنة بعد التخرج الأكاديمي.
لكنّي رأيتُ القَسَمَ بالله عبثًا في الشعر العربي وفي النثر، كقول قائل "والله، بالله، تالله" كما سمِعت القسم في الأغاني العربية.
فكيف يخشى الله من يجعل القسم بالله لقمة سائغة في فمه، يلوكها في أيّ حوار مع الصديق ومع الخصم ويتغنّى بها؟ وكيف يجرؤ المرء على إساءة استخدام أعظم لفظة في الأبجدية العربية؟ عِلمًا أنّ كتبة اليهود، أي علماء كتابهم المقدَّس (وهو أيضًا العهد القديم من الكتاب المقدَّس مسيحيًّا) والفقهاء، كانوا يتطلّعون إلى اسم الله بوقار شديد، فلم يخاطروا بذكر اسمه "يهوه" لئلّا يخطئ الشخص في نطقه. وكانوا، خلال حِقب نسخ الأسفار المقدسة، يمارسون طقسًا خاصًا عند كتابة اسم الله؛ مِثالًا: غسل القلم قبل الكتابة به مباشرة. كما سمعت أحد الوُعّاظ المسيحيّين يقول: صَنَعَ كتبةُ اليهود خَتْمًا خاصًّا بالكلمة التي تقابل "الله" في العِبرية، من خشية الله وتعظيمًا لقدره.
2. قَسَم الله؛ إذ أقسم الله بذاته في الكتاب المقدّس ولم يقسم بغير ذاته إطلاقًا. فأمامي في سِفر التكوين 22: 15-16 {ونادَى مَلاَكُ الرَّبِّ إِبْرَاهِيمَ ثانِيَةً مِنَ السَّمَاءِ وقالَ: بِذاتِي أَقسَمْتُ يَقُولُ الرَّبُّ...} الذي استشهد به المزمور 105: 9 والجدير ذِكره هو أنّ الله أقسم بذاته ولم يُقسِم بأيٍّ من مخلوقاته، لأنّ المخلوق قطعًا دون الخالق منزلة. فالله أقسم بذاته إذ لا إله حيّ إلّاه ولا شيء أسمى منه. أمّا الإنسان فيُقسم بالمقدَّس عنده، ما يفوق الإنسان منزلة وكرامة، وهو في الوقت نفسه أعظم المخلوقات، فلا ينبغي له أن يُقسِم بما دون الله أنّى جاز له القسم.
أمثلة أخرى على كمال المحبّة بالمسيح
يتّضح الكمال في كل فقرة نصّت على قول المسيح: {سمعتم أنه قِيل... وأمّا أنا فأقول لكم...} وما زال الأصحاح الخامس حافلًا بهذه الآيات الخالدة؛ ففي متّى 5: 38 {سمعتم انه قيل: عَين بعَين وسِنّ بسِنّ. 39 وأمّا أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشّرَّ بل مَن لطمك على خدِّك الأيمن فحوِّلْ له الآخَر أيضا} وهنا علّق الخوري يوسف داود قائلًا: (إنّ المفروض علينا قطعًا أن نحتمل بصبر مسيحي ما يصيبنا من شتائم وإهانات، وألّا نحفظ الحقد في قلوبنا لننتقم، بل نكون مستعدِّين أن نحتمل مصابًا أكثر. وأمّا ما يتبع بعد ذلك من تحويل الخدّ الآخر لمن يلطمنا فليس هو على سبيل الفرض بل على سبيل المشورة، لأنّ المسيح نفسه وبولس الرسول ما حَوَّلا الخدَّ لضاربيهما) فالقصد في قول المسيح "فحوِّلْ له الآخَر" هو: حوّل الخلاف إلى ضفة المشورة والاستفهام والتفاهم. والدليل هو جواب المسيح على خادم الكهنة الذي لطمه خلال المحاكمة الدينية: {إِنْ كنتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيًّا فاشْهَدْ على الرَّدِيّ، وإِنْ حَسَنًا فلِمَاذا تَضْرِبُني؟}+ يوحنّا 18: 23
وقبل أن أختم بآية محبّة الأعداء؛ يسرّني أن أتوقف عند آية العطاء التي سبقتها بقول المسيح: {مَنْ سَأَلَكَ فأَعْطِهِ، ومَنْ أَرادَ أنْ يَقتَرِضَ مِنكَ فلاَ تَرُدَّهُ}+ متّى 5: 42 لأنّ فيها إشارة إلى سِفر التثنية 15: 8 {بَلِ افْتَحْ يَدَكَ لَهُ وَأَقْرِضْهُ مِقدارَ مَا يَحتاجُ إِلَيْهِ} وأمّا آية محبّة الأعداء الخالدة فقد نطق بها فمه المبارك بعد إشارته إلى سِفر اللاويّين 19: 18 إذ قال المسيح: {سَمِعتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وأَمَّا أَنا فأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ...}+ متّى 5: 43-44 فأيّة محبّة حقيقية، على الأرض وعبر التاريخ وعبر ثقافات العالم أجمع، وصلت إلى مستوى هذه المحبّة؟ وأيّة ديانة غير المسيحيّة هي ديانة المحبّة؟ قلت، اقتداء بالمثل الأعلى: طوبى لمن أحبّ خصومه وسامح أعداءه. وقد يلتمس القارئ-ة العذر لي إذا ما قلت "بئس دُعاة المحبة الكذّابون وخَسِئَ المُراؤون وخَزِيَ المُفتَرون على المسيحيّة" نظرًا لِما تجرّعت من كؤوس مرارة أهل الثقافات الغريبة عن الكتاب المقدَّس.
1 التطويبات: هي تسع آيات قالها يسوع، تبدأ كل منها بكلمة "طوبى" الآرامية الأصل، ومعناها: ما أسعده، هنيئًا له. مدوّنة في فاتحة عظة الجبل في الإنجيل بتدوين متى\5 وفي الإنجيل بتدوين لوقا\6 والمزيد في ويكيبيديا: تطويبات.
2 يقع جبل التطويبات على بعد 12 كم من بحيرة طبريا ويعلو عنها حوالي 150 مترًا لكنه تحت مستوى سطح البحر المتوسط بـ 62 م. عن\ مواقع مسيحية.
¤ ¤ ¤