منذ أكثر من ثلاثة عقود ونصف اتخذت قرارًا مصيريًا قلب حياتي عندما صممت أن أتبع الرب يسوع بلا رجوع. أسعى في كل يوم أن أتعلّم شيئًا أو أختبر أمرًا جديدًا وأشعر دائمًا أنني مديون بأن أحبّ الصغير قبل الكبير وأتعلم من كل واحد ما يفيد حياتي. أقول هذا موضحًا أن لي توجهي في فهم كلمة الله، لكن اختلافي في تفسير الكتاب لا ولن يؤدّي لخلاف مع اخوتي الآخرين، لأن ايماننا الأقدس (أي اساس الايمان المشترك) يضعنا في صف واحد، كنيسة واحدة ، عائلة الله.
في هذا المقال سأتعرّض بصورة عامة لما يسمى "اللاهوت الفلسطيني" والذي له بعض المستندات الكتابية، وهو بالأساس اللاهوت "اللا ألفي" في عباءة فلسطينية سياسية اجتماعية فكرية، في مواجهة ما يسمّى "المسيحية الصهيونية".
لا شك أن فلسطينيي المناطق المحتلة عانوا ويعانون في المخيمات وكذلك من البطالة والاحتلال والمعاملة القاسية من قبل اسرائيل، حيث ندين اضطهاد النظام الإسرائيلي للفلسطينيين. لكن ذلك لا يتعارض مع قصد الله بعودة اليهود كشعب غير مؤمن الى ارض الموعد ليدخلهم كأمّة في ضيق عظيم بسبب مسؤوليتهم الجماعية عن صلب المسيح.
من ناحية أخرى فإن محاولة ايجاد حل لاهوتي للواقع السياسي الصعب بالخلط بين اسرائيل (الشعب القديم) والكنيسة واضفاء الوعود والبركات والمعاملات الإلاهية التي أعطيت لإسرائيل على الكنيسة، ينشئ صعوبات كثيرة في فهم الكتاب المقدس. كيف نوفق مثلاً بين اختيار الله للشعب القديم بعد تأسيس العالم (انجيل متى 25: 34) وبين اختياره للكنيسة قبل تأسيس العالم (رسالة أفسس 1: 4)؟ وماذا مع مشورات الله وبركاته الزمنية الجغرافية المحدّدة تجاه اسرائيل كشعب مقابل مشوراته وبركاته الأبدية للكنيسة التي تضم من كل قبيلة وشعب ولسان؟
الحل حسب رأيي هو الفكر اللاهوتي الاسخاتولوجي المسمّى " ما قبل الألف سنة" والذي تمسّك به كثير من آباء الكنيسة الأوائل مثل بابياس، يوستين الشهيد، ايريناوس وترتليانوس. حسب هذا الفهم الكتابي فان عصر الكنيسة الذي ابتدأ بعد الصليب في يوم الخمسين سينتهي باختطاف المسيح للمؤمنين وتبدأ بعده فترة الضيقة العظيمة التي تستمر سبع سنوات ويليها مُلك المسيح لمدة الف سنة وبعد ذلك الدينونتان والحالة الأبدية. في القرن التاسع عشر استخدم الله جون داربي (1800- 1882) لتوضيح وتشكيل هذا الفكر من خلال التدابير أي طرق معاملات الله في أدوار البشرية المختلفة. لاحظ أن المؤتمر الصهيوني الأول عقد في بازل عام 1897، بمعنى أن هذا الفكر هو لاهوتي محض ولا علاقة له بالسياسة. صحيح أنه يستخدم لأهداف سياسية ومادية في اطار ما يسمّى "المسيحية الصهيونية"، لكن ذلك لا يقلًل من قيمته كخارطة كتابية ساعدتني وملايين مثلي لفهم أعمق لكلمة الله. بكلمات أخرى صدق القديس اوغسطينوس بقوله: "ميّز التدابير يستقيم التفسير".
لكن للأحبّاء الذين ينتقدون ويهاجمون كل من يدعمون اسرائيل ككيان سياسي دعمًا أعمى، اقول انتبهوا فأنتم بالمقابل تتمسّكون باللاهوت الفلسطيني وتهاجمون وتقزّمون كل طرح لاهوتي آخر (حتى لو كان لاهوتيًا فحسب) وتسعون بالتمام لدعم فلسطين بكل جوارحكم. ألستم تغوصون في السياسة مثلهم وأتجرأ أن أضيف أنه لو كانت لكم إمكانياتهم الماديّة فلربما تطرفتم أكثر منهم.
ان استبدال المسيحية الصهيونية باللاهوت الفلسطيني ربما يكون منطقيًا يتطلبه الواقع لكنه مع ذلك تحزبٌ عرقيٌ. صحيح أن كثير من المؤمنين اليهود يدعمون إسرائيل دون حدود وبلا تمييز وبعدم انتباه لخطورة خلط الإيمان بالسياسة، لكن تبديل اسرائيل بفلسطين وبالكنيسة في لاهوت الأرض ليس أفضل!!
جمع الدكتور فيليب سامبتر قائمة مراجع (بيبليوغرافيا) باللغات الحديثة المختلفة حول المسيحية الناطقة بالعربية في اسرائيل وفلسطين بعد عام 1948. تابعتها فوجدت أن مواضيعها الرئيسية هي: الدين والسياسة، المسيحي وفلسطين، اللاهوت الفلسطيني، الصراع والحوار العربي الاسرائيلي، الانتفاضة، الحركة المسكونية...
أنا لا أقول أنها مواضيع غير هامة، لكن اسمحوا لي أن أتساءل:
- هل الكتاب المقدّس مقروء ومفهوم بعمق في كنائسنا، حتى يتفرّغ الدارسون لكل هذه المواضيع الأخرى؟ كم أفرح عندما أرى كتبًا محليّة روحيّة عميقة بنّاءة للمؤمنين.
- لماذا هذا الكم من المقالات والكتب ورسائل الدكتوراة في هذه المواضيع بالذات؟
- الا نضع بهذا أنفسنا كإنجيليين ملتزمين في خندق واحد مع اللاهوتيين الليبراليين؟
- ما الداعي لدعوة رجال السياسة الى المؤتمرات المسيحية؟
- ألم يعد هناك ما نربط به المسيح والصليب، عدا الحاجز والكوفية؟ ولماذا الان؟؟
- هل يليق بنا رَوحنة تعابير الكتاب المقدس لمجرّد إرضاء من حولنا؟
أعتذر ان كان كلامي قاسيًا غير مقدّر للواقع الحسّاس الذي يعيشه المسيحي الفلسطيني ومن جهة أخرى لا أتوقع أجوبة دفاعية أو هجومية، لكنها مجرّد اسئلة للبحث العميق الصادق!
أخيرًا، في طرحي هذا لا أقلّل من أهمية الدراسات الاجتماعية أو الأخروية، لكن بسبب تقلّص، ضعف وحداثة الكنيسة الفلسطينية الحالي ليتنا نركّز أكثر على الدراسة العميقة العملية للكتاب المقدّس لبناء المؤمنين وعلى الرعاية والكرازة بشخص وخلاص الرب يسوع له المجد.