موضوع هذه الوقفة: الكتاب الرسمي. فيُعتبَر الكتاب المقدَّس الكتاب الرسمي المعترف به عند اليهود وعند المسيحيّين منذ تدوين سِفره الأوّل حتّى خَتْمِهِ إلى الأبد. وسيكون تركيزي على الإنجيل؛ فلم يُصادق آباء الكنيسة على جميع الأسفار المنسوبة إلى التلاميذ والرسل. وإليك عددًا من الأمثلة؛ يوجد في التراث المسيحي "إنجيل بطرس" ما لم يصادق عليه الآباء، بينما صادقوا على اثنتين من رسائل بطرس. كما وُجِدَت رسائل منسوبة إلى بولس الرّسول، لم يصادق الآباء عليها جميعًا، إنّما صادقوا على أربع عشرة رسالة منها. كذا لم يصادقوا على "إنجيل مريم المجدلية" عِلمًا أنّها أوّلُ مَن ظهر لهُمْ-نَّ المسيح بعد قيامته من الموت. ولا على "إنجيل توما" وإن كان بطرس وتوما من الإثني عشر. ومن يبحث يجد أيضًا كلًّا من: إنجيل الطفولة، إنجيل ولادة مريم، إنجيل يعقوب، إنجيل برنابا (غير المزيَّف الموجود حاليًا) وغيره (1) عِلمًا أنّ أسفار الإنجيل المعترف بها سبعة وعشرون سِفرًا.
أمّا مصحف عثمان فيحتوي على القرآن الرسمي الذي اعترف به المسلمون. بينما اعتُبِرت مصاحف القرآن الأخرى غير رسمية، كالمصاحف المنسوبة إلى السيدة عائشة وأُبَيّ بن كعب وعبدالله بن مسعود، ممّا حَرَّق عثمان وممّا يصعب العثور عليه اليوم مدوَّنًا في مخطوطة ما. فإذا ما أردتُ أن أحاور مسلمًا أحاجّه بالقرآن الرسمي، بغضّ النظر عن قراءات مختلفة لابن مسعود وأبَيّ بن كعب وغيره، وآتيه بتفسير القرآن المعتمَد إسلاميًّا، لكي تكون حججي أمينة وصادقة ومتقنة.
فإذا اقتنع قارئ بما تقدَّم فإنَّ عليه أيضًا أن يقتنع باعتراضي على مزاعم مؤلِّف القرآن إذ تبنّى روايات منحولة عن السيد المسيح وعن السيدة مريم العذراء، في سُوَر عدّة، بدون حجج مقنِعة وبدون شهود عيان. فطَعَنَ المؤلِّفُ المذكور بالكتاب المقدَّس، أقدس مقدَّسات اليهود والمسيحيّين، بدون وجه حقّ! إنّما نَسَبَ مزاعمه إلى وحي إلهي لا دليل عليه في كتب المسلمين سوى شهادة امرأة واحدة- السيدة خديجة- ما لا يكفي حتّى إسلاميًّا. لذا يحقّ لي نقد القرآن دفاعًا عن مقدَّساتي، بصفتي مسيحيًّا، لا تهجمًا على أحد. لكنّي ما حذوت حذو مؤلِّف القرآن في الطعن بالمقدَّسات ولا حذو الذين اقتدوا به من أتباعه، إنمّا ذهبت إلى أزيد من تفسير معتمد لدى المسلمين، من أمّهات الكتب الإسلامية، احترامًا لمشاعر القرّاء من المسلمين. فهل احترَمَ مؤلِّفُ القرآن مشاعرَ غير المسلمين في قرآنه؟ كلّا! وإلّا لَما وفد إليه رهط من أهل نجران النصارى وغيرهم معترضين على عدد من مزاعمه (2) وتاليًا؛ هل احترم الناقدُ المسلمُ مشاعرَ القرّاء، ولا سيّما اليهود والمسيحيّين، فانتقد كتابَهُم المقدَّس من خلال تفسير مسيحي معتمد لديهم، أم في ضوء فهمه الساذج غالبًا والجائر في الوقت نفسه؟ هذا ما لم يؤثِّر عليه حِقدُ مؤلّف القرآن على أهل الكتاب، لتكذيبهم دعوته المزعومة أو رسالته التي مضى عليها اليوم زمن بعيد، حتّى صدَّ الناقد الإسلامي عن معرفة الحقّ وعن إظهار أبسط مزايا نزاهة النقد شكلًا ومضمونًا.
وسأكتفي بحجّتين من الإنجيل، من بين حجج دلّت بوضوح على اختلاف الروايات "الإنجيلية" ممّا في القرآن عن أصولها المدوَّنة في الإنجيل. أمّا مزاعم القرآن الأخرى، ممّا أساء بها مؤلِّفه إلى الكتاب المقدَّس، فسأفرد لها مقالات لاحقًا، لأنّ بعض المسلمين ما يزال يردّد مزاعمه ويحاجّ بها، ولأنّنا نعيش في زمن التحرّي عن الحقيقة وكشفها، لإظهار الحقّ ونشره وتفنيد الباطل ودحضه.
الأولى: رواية ولادة المسيح
يستطيع القارئ-ة اليوم أن يقرأ الكتاب المقدَّس، بعهديه الجديد والقديم، عن نبوءات ولادة السيد المسيح وعن تحققها الذي في الإنجيل برواية كلّ مِن متّى\1 ولوقا\1 لأنها أصبحت متوفّرة على الانترنت، لعلّ القارئ يطمئنّ إلى طلب الكتاب المقدَّس المطبوع وَرَقيًّا، بدون فرض قيد عليه أو شرط ما، ويسهل عليه إيجاد مكان آمن للاحتفاظ به.
فيجد القارئ-ة الباحث-ة تاليًا أن مؤلِّف القرآن قد أصغى إلى روايات "إنجيلية" غير رسمية، تناقلها نصارى من كتب مسيحية هي في نظر الكنيسة كتب منحولة وأساطير. فنقل مؤلِّف القرآن عنها وجعلها ممّا أوحِيَ به إليه. مثالًا الوارد في سورة مريم وابتداء بزعمه: (واذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرقِيًّا)- مريم:16 وممّا في تفسير الطبري: [عن السديّ، قال: خرجت مريم إلى جانب المحراب... (كلام قبيح)... فانتبذتْ من أهلها مكانًا شرقيّا: في شرقيّ المحراب. يقول: فتنحّت واعتزلت من أهلها في موضع قِبَلَ مَشرق الشمس دون مَغربها] انتهى.
فمِن أين جاء مؤلِّف القرآن بهذه الأسطورة ليجعل منها وحيًا إلهيًّا- حاشا الله؟ وهو، بالمناسبة، لم يذكر سبب اعتزال مريم من أهلها حتّى (اتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا) - مريم:17 ولم يُحَدِّد "المكان الشرقي" لكن بات شأن القرآن في الغموض معروفًا، لهذا اختلف المفسّرون على تفسيره. وقطعًا لا يعرف المسلمون مصادرَ القرآن سوى الباحثين عن الحق.
وبالمناسبة؛ مَن ذا يلوم النضر بن الحارث إذ قال: [أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثًا منه. فهلمّوا فأنا أحدّثكم أحسن من حديثه، ما محمد أحسن حديثًا مني- من تفسير الطبري سورة الفرقان] حتّى "نزلت" فيه: (وقالوا أساطير الأولين اكتتبَها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلا. قُلْ أنزلَهُ الذي يعلم السِّرَّ في السماوات والأرض...)- الفرقان 5-6 فالنضر أحد الذين قالوا إنّ أساطير الأولين اكتتبها محمد فهي تُملى عليه (أي تُقرَأ عليه) بكرة وأصيلا. فدفع النضر حياته ثمنًا لموقفه من مؤلِّف القرآن، إذ قتله المدعو محمَّدًا بعدما سقط أسيرًا في أعقاب غزوة بدر الكبرى، وقتل معه من الأسرى عقبة بن أبي معيط. فقد كان مؤلِّف القرآن قاسيًا على مُكذِّبي دعوتِهِ والمُكذِّبات وعلى المشكّكين فيها والمشكّكات، لم يسامحْ أحدًا إلّا مَن دخل في دينه، مثالًا: أبو سفيان وزوجته (هند بنت عتبة) والشاعر كعب بن زهير.
لكنّ اللافت في ما تقدَّم أنّ أحاديث السديّ (3) التي في تفسير الطبري مختلف على صحّتها بين فقهاء الإسلام! فعلى أيّ أساس يبني المسلم إيمانه اليوم؟ لماذا لا يبحث عن مصادر القرآن الخارجية وعن سيرة مؤلِّف القرآن؟ ماذا ينقص المسلم من وسائل المعرفة والاتصال؟ فقد بات من الصَّلَف أن يدعو المسلمُ غيرَهُ إلى الإسلام، بعد ثبوت احتواء القرآن على أساطير الأولين وعلى أخطاء متنوّعة.
والمهمّ الآن أنّ زعم القرآن المذكور لا وجود له في الإنجيل الرسمي. كذا مزاعمه في السورة المذكورة: [قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وكنت نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فناداها من تحتها ألّا تحزني قد جَعَلَ رَبُّكِ تَحتَكِ سَرِيًّا (24) وهُزِّي إِلَيْكِ بجذع النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيّا (25)... إلخ] انتهى. وزعمه عن الطفل يسوع أنه (يُكَلِّمُ النّاسَ في المَهْدِ وكَهْلًا ومِنَ الصَّالِحِين)- آل عمران:46 وزعمه (إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَاب ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فيَكُون)- آل عمران:59 فهذه المزاعم وأمثالها مرفوضة مسيحيًّا، أيًّا كان تفسيرها وأيًّا كان المفسِّر. فمَن يبحث، سواء في الكتب وعلى الانترنت، يعثر على قصص القرآن المتعلقة بالكتاب المقدَّس من مصادر يهودية ومسيحية، لكنّها غير رسمية.
وبالمناسبة؛ نجد المقطع التالي، مِنْ شعر أميّة بن أبي الصَّلت، مستوحًى أيضًا من أسطورة مسيحية، وتاليًا اعتُبِرَ مِن النصوص الشعرية المُسيئة إلى الرواية المسيحيّة الرسميّة:
فَقالَ أَلا لا تَجزَعي وتُكذِّبي * مَلائِكَةً مِن رَبِ عادٍ وجُرهُمِ
فَقالت لَهُ أَنّى يَكونُ ولَم أَكُنْ * بَغيًّا ولا حُبلى ولا ذاتَ قَيّمِ
فَلمّا أَتَمّتهُ وجاءَت لِوضعِهِ * فآوى لَهُمْ مِن لَومِهمْ والتَنَدُّمِ
وقالَ لَها مَن حَولَها جِئتِ مُنكَرًا * فَحَقٌّ بأَن تُلحَي عَلَيهِ وتُرجَمي
فَأَدرَكَها مِن ربّها ثمَّ رَحمَة * بِصِدقِ حَديثٍ مِن نَبيٍّ مُكَلَّمِ
أَنيبي وأَعطي ما سُئِلتِ فاِنَّني * رَسولٌ مِن الرَحمنِ يَأتِيكِ باٌبنمِ
وأُرسِلتُ لَم أُرسَل غَويًّا ولَم أَكُنْ * شَقيًّا ولَم أُبعَثْ بِفُحشٍ ومَأثَمِ
عِلمًا أني اقتطفت ما تقدّم، من القرآن ومن شعر أميّة، لعرض صورة جليّة عن بعض شائعات ذلك الزمان وأساطيره، ولم أقصد الإشارة إلى أنّ مؤلِّف القرآن أخذ شيئًا ما من أميّة ولا العكس.
وإليك في النهاية مثالًا واقعيًّا؛ إذا اختلفت دولتان فإنّ من المفترض بأقطاب السياسة اعتماد التصريحات الصادرة عن وسيلة إعلام رسمية، ناطقة باٌسم مكتب الرئاسة، أو من وزارة الخارجية أو من إحدى دوائرها القنصليّة في الخارج، وليس اعتماد شائعات الجمهور على أنها تصريحات رسمية! وإنْ كانت الشائعات رنّانة أحيانًا وطنّانة.
ــ ــ ــ
قريبًا جدًّا:
الحجّة الثانية: رواية سورة المائدة عن معجزة تكثير الخبز والسمك