الحجّة الثانية: رواية سورة المائدة عن معجزة تكثير الخبز والسمك
إن معجزة تكثير الأرغفة الخمسة والسمكتين مدوَنة بوضوح في متّى\14 ومرقس\6 ولوقا\9 ويوحنّا\6 وإليك رواية لوقا: {10 ولمّا رجع الرسل أخبروه بجميع ما فعلوا فأخذهم وانصرف منفردًا إلى موضع خلاء لمدينة تسمى بَيْتَ صَيْدَا. 11 فالجموع إذ عَلِمُوا تَبِعُوهُ، فَقَبِلَهُمْ وَكَلَّمَهُمْ عَنْ مَلَكُوتِ اللهِ، والمحتاجون الى الشفاء شفاهم. 12 فابتدأ النهار يميل. فتقدم الاثنا عشر وقالوا له: اصرِفِ الجمع ليذهبوا الى القرى والضياع حوالينا فيبيتوا ويجدوا طعامًا لأننا ههنا في موضع خلاء. 13 فقال لهم: أعطوهم أنتم ليأكلوا. فقالوا: ليس عندنا أكثر مِن خمسة أرغفة وسمكتين إلّا أن نذهب ونبتاع طعامًا لهذا الشعب كله. 14 لأنهم كانوا نحو خمسة آلاف رجل. فقال لِتَلاَمِيذِهِ: أَتْكِئُوهُمْ فِرَقًا خمسين خمسين. 15 ففعلوا هكذا وأَتْكَأُوا الجميع. 16 فأخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين ورفع نظره نحو السماء وباركهُنَّ ثم كسر وأعطى التلاميذ ليقدِّموا للجمع. 17 فأكلوا وشبعوا جميعًا. ثُمَّ رُفِعَ مَا فَضَلَ عَنْهُمْ مِنَ الكِسَرِ اثْنَتَا عَشْرَةَ قُفَّة}+ آمين.
وإليك تاليًا رواية القرآن عن هذه المعجزة، ممّا ورد في سورة المائدة، لكنّ تعليقي في البداية؛ لا أدري من أين أتى مؤلِّف القرآن بروايته، المختلفة عن رواية الإنجيل اختلافًا شديدًا، بعد مضيّ خمسة قرون ونيّف على ظهور الإنجيل وانتشاره، لكنّ الذي دريت هو أنّ لقصص القرآن مصادر سبقت زمانه، مثالًا: قصّة أصحاب الكهف التي بات مصدرها معروفًا. فالدراية مهمّة لإظهار الحقّ بمحبّة خالصة ولكشف الباطل، بما أوتِيَ المرء بفضل الله من عِلم وسعة اطّلاع. وصحيح أنّ المرء أحيانًا لا يدري بمصادر بعض الروايات وأنّه قد يعوزه الوقت للبحث عنها، لكنّ من يعرف المسيح يمتلئ روحيًّا، لأنّ المسيح يروي عطش الباحث عن الحقّ ويُشبعه من أثماره التي قدَّمها الإنجيل على طبق من ذهب. فلا يهمّ الباحثَ شيءٌ بعد معرفة المسيح {الطريق والحقّ والحياة}+ يوحنّا 14: 6
سورة المائدة:111 وإذْ أَوحَيْتُ إلى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بي وبرَسُولي قالُوا آمَنَّا واشْهَدْ بأَنَّنا مُسْلِمُونَ.
وتعليقي: لا يوجد وحي من الله إلى الحَواريِّين (أي تلاميذ المسيح) لكي يؤمنوا بالله، لأنهم كانوا جميعًا من اليهود، فهم مؤمنون بالله أصلًا وكانوا ينتظرون المَسِيّا (المسيح) الذي تنبّأت به التوراة وسائر كتب اليهود الرسمية. أمّا إيمانهم بالمسيح فلم يكن بوحي من الله! إنما المسيح هو الذي دعاهم ليكونوا تلاميذه. وثانيًا أنهم آمنوا به لسماعهم أقواله الرصينة بامتياز ولمشاهدتهم أفعاله الكريمة بدون استثناء ومعجزاته الباهرة. وأمّا معنى (واشْهَدْ بأنّنا مُسْلِمُون) في تفسير الطبري: (واشهَدْ علينا بأننا خاضِعُون لك بالذّلة، سامعون مطيعُون لأمرك) انتهى.
112 إِذ قالَ الحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَينا مائدةً منَ السَّمَاء قال اتَّقُوا اللهَ إِن كُنتُم مؤمِنِين.
وتعليقي: لا أحد من الحَوَارِيِّينَ خاطب السيد المسيح بهذه الطريقة المشكِّكة في قدرته (َهلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) لأنهم كانوا واثقين من قدرته الإلهية، ولم تكن هذه المعجزة الأولى من نوعها أمامهم، بل صنع أمامهم معجزات قبلها. وتاليًا؛ لا أحد طلب إلى السيد المسيح إنزال مائدة من السماء، بل لا يوجد ذِكر لأيّة مائدة في رواية هذه المعجزة إطلاقًا. إنما أراد الحَوَارِيُّونَ أن يذهبوا لكي يبتاعوا طعامًا للجموع الغفيرة التي أقبلت إليه. أمّا السيد المسيح فهو الذي قرّر أن يُطعِم الجياع. فأطاعه الحَوَارِيُّونَ ونفّذوا أوامره بدون أن يقول لهم (اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مؤمِنِين) لأنهم لم يقولوا شيئًا مريبًا حال دون اتّقائهم الله ولم يفعلوا، وإلّا لَوَرَدَ في الإنجيل ما قالوا وما فعلوا. عِلمًا أنّ الكتاب المقدَّس بأكمله أمين وصادق؛ لم يُجامِل أحدًا، أيًّا كان، ولم يتستَّر عَنْ أَخطائِه.
113 قالُوا نُرِيدُ أَن نأْكُلَ مِنهَا وتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ونَعلَمَ أَن قدْ صَدَقْتَنا ونكُونَ عليها مِنَ الشَّاهِدِين.
وتعليقي: إنما الحَوَارِيِّون كانوا مطمئنِّين لرسالة المسيح وقوة سلطانه وعظمته بدون شك. ويكمن الدليل في أنّهم نفَّذوا كلّ ما قال المسيح لهم، بدون أي أعتراض من أحد وبدون أيّ تشكيك في قدرته على صنع المعجزات بقوّة طبيعته الإلهية. فمعلوم لذوي الألباب أنّ للمسيح طبيعتين، الأولى إلهية لأنّ المسيح آتٍ من الله (إبن الله) فرُوحُهُ روح الله وكلامه كلام الله وعمل يديه عمل الله، لأنّه والآب واحد (يوحنّا 10: 30) والثانية إنسانية (ما عدا الخطيئة) يأكل بها ويشرب ويتكلّم ويصلّي ويفكّر ويتأمّل وينام ويتألّم ويموت. لكنّه قام من الموت بقوّة لاهوته! فظهر، بعد قيامته من الموت، لمريم المجدلية ولمَرْيَمَ أُمّ يَعقُوبَ ولتلاميذه ثلاث مرّات ولتلميذَي عِمواس.
114 قالَ عيسى ابْن مريمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنزِلْ علينا مائدة منَ السَّمَاء تَكُونُ لنا عِيداً لأَوَّلِنا وآخِرِنا وآيَةً منكَ وارزُقنا وأنتَ خيرُ الرَّازِقِين.
وتعليقي: لقد رأى شهود عيان المسيحَ وهو يرفع نظره نحو السماء ولم يسمع أحد منهم أيّة كلمة نطق بها، فلو سَمِع أحدهم كلمة واحدة من فمه حينذاك لدوَّنها واحد من الإنجيليّين في الأقلّ، مثلما دوّنوا أقواله السبعة بعد رفعه على الصليب. فقد كان عدد الرجال نحو خمسة آلاف لم يكونوا عُمْيًا ولا طُرْشًا. فما دليل مؤلِّف القرآن بزعمه أنّ المسيح قال كذا وكذا مخاطبًا الله؟ فالدليل ضروري لإبعاد شبهات القول الهُراء وشهادات الزور وسائر محاولات التدليس والافتراء. وهنا قد يعترض المسلم قائلًا (إن القرآن موحًى به) لذا أسأله: ما دليلك على أنّ القرآن موحًى به وليس منقولًا من كتب منحولة وأساطير؟ وما دليلك على أن الله هو مَن أوحى به؟ لكنّي أحترم إيمان المسلم ما لا يفرض إيمانه على غيره عاجلًا أو آجلًا! وما لا يضرّ به أحدًا سواء أكان ضعيفًا متمسكِنًا أم قويًّا متمكِّنا.
115 قالَ اللهُ إنّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا منَ العالَمِين.
وتعليقي: يبدو لي أنّ مؤلِّف القرآن هنا استحضر تكذيب الناس دعوته ورسالته، فأسقط ما في داخله على قصّة المسيح، كأنّ المسيح فعل هذه المعجزة وغيرها لإثبات نبوّته، أو لتصديق دعوته، وليس بدافع محبّته الجموع الذين تَبِعُوهُ فأشفق عليهم إشفاق الأب والأمّ على الأولاد. عِلمًا أنّ السيد المسيح ربّ المجد لم يكن بحاجة إلى صنع المعجزات، لأن كلامه عَنْ مَلَكُوتِ اللهِ كان كافيًا ووافيًا، إنما الناس هي التي كانت بحاجة إلى سماع كلمة الله وإلى الشفاء وسائر المعجزات. لعلّ القرّاء يجدون أحد الأدلّة على ما تقدّم في شهادة السامريّين يوم قالوا للمرأة السّامريّة: {إِنَّنا لَسْنا بَعْدُ بِسَبَبِ كَلاَمِكِ نُؤْمِنُ، لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعنا ونعلَمُ أَنَّ هذا هُوَ بالحَقِيقةِ الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَم}+ يوحنّا 4: 42
ـــ ـــ ـــ
أخيرًا فإنّ الفرق شاسع ما بين سيرة مؤلِّف القرآن، ولا سيّما اهتمامه بغزواته وبتصديق الناس دعوته وباغتيال مُعارِضِيه ومُكذِّبيه، وبين رسالة السيد المسيح المفعَمَة بالمحبّة والسَّلام؛ إذ كان جلّ اهتمامه معرفة الناس الحقّ وخلاصهم من عبوديّة الخطيئة وحياتهم الأبدية. عِلمًا أنّ السيد المسيح لم يُجبِر أحدًا على اتّباعه ولم يُكرِه ولم يُرغِّبْ! إنّما العكس؛ إذ {قال للجميع: إن أراد أحد أن يأتي ورائي فليُنكرْ نفسَه ويحمِل صليبَه كلّ يوم ويتبعني}+ لوقا 9: 23 وقال: {2 سيُخرجونكم من المجامع، بل تأتي ساعة فيها يظنّ كلُّ مَن يقتلكم أنّهُ يُقدِّم خِدمة لله... 33 قد كلَّمتُكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام. في العالم سيكون لكمْ ضِيق، ولكنْ ثِقوا: أنا قد غلبت العالم}+ يوحنّا\ 16
فلا مجال لأيّة مقارنة ما بين السيد المسيح وبين أحد أيًّا كان وأيًّا يكون، ولا ما بين الكتاب المقدَّس، بعَهدَيه الجديد والقديم، وبين كتاب ما أيًّا كان وأيًّا يكون.