وصلت بقراءتي الإنجيل، بتدوين متّى، إلى الأصحاح التاسع. وفيه بحسب الآيات 2 إبراء مُخلَّع 9 دعوة متّى، مدوِّن الإنجيل المسمّى باسمه، وكان من جُباة الضرائب 13 مجاوبة يسوع الفريسيّين على تناوله طعامًا مع عشّارين وخطاة 14 مجاوبة يسوع تلاميذ يوحنّا المعمدان على موضوع متعلّق بالصوم 19 شهادة يَايِرُس رئيس المَجْمَع ليسوع بإحياء الموتى فأحيا يسوع صَبيّته في الآية 25 وكانت ابنتَهُ الوحيدة (بحسب الرواية في لوقا\8 وفي مرقس\5 أيضًا) بالإضافة إلى 22 شفاء امرأة نازفة الدم منذ اثنتي عشرة سنة و30 تفتيح أعميَين و33 إطلاق لسان أخرس وأخيرًا وليس آخِرًا 35 طواف يسوع في المدن كلَّها والقرى كارزًا ببشارة الملكوت وشافيًا من الأمراض.
الإشارة إلى العهد القديم
هي في قول يسوع التالي مُجيبًا على الفريسيّين: {اذْهَبُوا وَتَعَلَّمُوا مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَة} فقد ورد قوله {إِنّي أُرِيدُ رَحْمَةً لا ذَبِيحَةً} في سِفر هوشع 6: 6 وهنا قال القديس يوحنّا الذهبي الفم عن هذه الرحمة التي يطلب الله أن تكون في الإنسان: [الآن ليس وقت الدينونة بل الرحمة؛ ليس لنا أن نطلب الحساب بل أن نُظهر المحبة، ليس لنا أن نرفع الدعاوى بل نتنازل عنها، ليس وقتًا للحكم والانتقام بل إظهار الرحمة وعمل الصلاح. هذه الرحمة هي طبيعة الله نفسه] كما كتب القديس أمبروسيوس: [يجب أن نعرف أن الله إله رحمة، يميل إلى العفو لا القسوة. لذلك قيل: "أريد رحمة لا ذبيحة" فكيف يَقبَل الله تقدماتكم (ذبائحكم، حسناتكم) يا من تنكرون الرحمة، في وقت قيل عن الله (في حزقيال 18: 32) أنه لا يريد موت الخاطئ بل رجوعه عن أخطائه؟
قراءة في الأصحاحَين العاشر والحادي عشر
لم أعثر في الأصحاح العاشر على أيّة إشارة إلى العهد القديم، عِلمًا أنّ فيه أسماء رُسُل المسيح الإثني عشر وخبر إرسالهم للتبشير مع وصايا وتعليمات. لذا انتقلت إلى الأصحاح الحادي عشر وفيه 4 جواب من المسيح ليوحنّا المعمدان 7 مديح ليوحنّا بلسان المسيح 25 حمد المسيح الآب رب السماء والأرض 27 دعوة المسيح المُتْعَبِينَ والثَّقِيلِي الأَحْمَالِ لكي يأتوا إليه. وفي هذا الأصحاح خمس إشارات إلى العهد القديم، لكنّي اكتفيت بذكر اثنتين، كي لا تطول المقالة، ما قد يؤدّي إلى الملل من قراءتها.
الإشارتان الأولى والثانية
الأولى في الجواب التالي على رسالة يوحنّا المعمدان التي حملها إلى السيد المسيح اثنان من تلاميذ المعمدان: {اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بمَا تَسْمَعَانِ وَتَنظُرَان: اَلعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. وطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعثُرُ فِيَّ}+ متّى 11: 4-6 وفي جواب المسيح إشارتان؛
الأولى: إلى الوارد في أشعياء 35: 4-5 {قولوا لِمَنْ فزِعَت قُلوبُهُم: ((تَشدَّدوا ولا تخافوا! ها إلهُكُم آتٍ لخلاصِكُم. يُكافِئُكُم على أمانتِكُم، ويَنتَقِمُ لكُم مِنْ أعدائِكُم)) عُيونُ العُمي تَنفَتِحُ، وكذلِكَ آذانُ الصُمِّ...} وجواب المسيح، الدقيق كما جرت العادة، يعني التالي: أن يرجع التلميذان إلى المعمدان ليقولا له إنّهما شاهدا المَسِيّا المنتظر المتنبّأ عنه في كتب الأنبياء. وهنا علّق القدِّيس أغسطينوس قائلًا: [كأنّ المسيح يقول لهما: لقد رأيتُماني فلتَعرِفاني! لقد رأيتُما أعمالي، إذنْ فلتعرِفا صانِعَها... وطوبى لمَنْ لا يعثر فيّ] انتهى. وإرسال المعمدان اثنين من تلاميذه إلى المسيح، شاهدَين لأنّ شهادة شخص واحد قد لا تكفي، لا يعني إطلاقًا أن المعمدان "لم يعرف أنّ المسيح هو المَسِيّا" كما ظنّ بعض النقّاد، لكنّ هدف المعمدان؛ إذ كان في السجن وفي الطريق إلى قطع رأسه، هو أن يتبع تلاميذُه، من بعد قتله، المسيحَ بعدما شاهد اثنان منهم آياته (أي معجزاته) الباهرة لإنه حقًّا المَسِيّا المنتظَر من اليهود.
أمّا الإشارة الثانية في جواب المسيح، فواضحة في قوله {والْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ} مشيرًا إلى بداية أشعياء\ الأصحاح 61 {رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بالْعِتْقِ، ولِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَق} والجدير ذكره هنا هو ممّا في تفسير القُمُّص تادرس يعقوب سِفرَ أشعياء 61: 1 تحت عنوان "برنامج المسيح الخلاصي" إذ ورد فيه بتوقيع القديس إيريناؤس: [أنّ اٌسم المسيح يحمل ضمنيًّا ذاك الذي يَمْسَح والممسوح (المسيح) والمَسْحَة ذاتها؛ فالآب هو الذي يَمسَح، والابن يُمسَح، والروح القدس هو المَسْحَة] انتهى. وقول هذا القدِّيس يعني لي أنّ الثالوث الإلهي تجلّى في إسم المسيح له المجد، إذ رسم هذا الإسم (المسيح) صورة للثالوث ثلاثية الأبعاد لكن لا حدود لها.
أمّا اللافت في آية أشعياء\61 المذكورة فهو عِتق (أي تحرير) المسبيّين وإطلاق سراح الأسرى. ومعلوم أنّ أشعياء عاش في القرن الثامن قبل ميلاد المسيح. فالكتاب المقدَّس، ابتداءً بالعهد القديم، نادى بالتحرير من العبوديّة ومن الأسر. وقد اتّسع مفهوم العبوديّة في العهد الجديد، بعد مجيء المسيح المخلِّص، ليُصبح عبوديّة الخطيئة ومرادفاتها. لأنّ الخطيئة مصدر كلّ شرّ. أمّا الشخص الذي حَرَّر البشريّة من عبوديّة الخطيئة فهو السيد المسيح لأنّه الحقّ. فمَن عَرِفَ الحقّ تحرَّر: {فقالَ يَسُوعُ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ: إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كَلاَمِي فبالحَقِيقةِ تَكُونُونَ تَلامِيذِي، وتَعرِفُونَ الْحَقَّ، والحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ}+ يوحنّا 8: 32
وهذا الكلام يعمّ العالم أجمع ولا يخصّ اليهود الذين آمنوا به، والأدلّة في الإنجيل كثيرة. ثمّ أردف: {فإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فبالحَقِيقةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا}+ يوحنّا 8: 36 لذا استحقّ الكتاب المقدَّس بجدارة أن يصبح قلب حقوق الإنسان النابض وحجر الزاوية الذي استندت عليه.