مقدمة: ترسخ بين النّاس، بما فيهم الكثير من المسيحيين، اعتقاد مفاده أن المسيحيّة عبارة عن دين يتعلق بالأخلاق وبمجموعة من العقائد، وبالتّالي فإن الكتاب المقدّس هو أساس لحل المشاكل الأخلاقيّة والاجتماعيّة وللقيام بدور مهم في الحياة المسيحيّة. والحقيقة أن مثل هذا الاعتقاد هو بكل بساطة خطأ فادح يقود الى الضلال والضياع. فالمسيحيّة هي شخص الرب يسوع المسيح ورسالته وما عمله ويعمله من أجلنا. أي أن المسيحيّة ليست دين نهائيّاً.
كذلك يظن معظم النّاس أن كلمة دين وكلمة مسيحيّة هما كلمتان مرتبطتان ببعضهما البعض، وبالتّالي فالإنسان المتديّن والغيور هو نفسه الإنسان المسيحي، في حين أن الحقيقة تختلف تماماً. بل يمكننا القول بقوّة أن إعلان الله في الكتاب المقدّس هو نفي وإقصاء للدّين. وهكذا فالحديث عن نعمة الله هو بشكل غير مباشر إبطال لروح التديّن بين النّاس.
المصدر اللغوي لكلمة دين أو Religion:
1. في الّلغة العربيّة: الجذر الثلاثي لكلمة دين في الّلغة العربيّة هو الفعل "دانَ. وفي قاموس لسان العرب لابن منظور المصري نجد عدة معانٍ للدّين منها.
الدّين: الجزاء والمكافأة.
ويوم الدّين: يوم الجزاء.
وفي المثل: كما تدين تدان: أي كما تجازي تُجازى، أي تجازى بفعلتك وبحسب ما عملت.
ودانه ديناً: أي جازاه.
الدّين: الحساب.
الدّين: الطّاعة.
وقد دِنته ودِنتُ له: أي أطعته.
الدّين: العادة والشأن.
تقول العرب: مازال ذلك ديني وَدَيْدَني: أي عادي.
دان نفسه: أي أذلّها واستعبدها، وقيل: حاسبها.
الدّين لله: طاعته والتعبّد لله.
الدّين: الحال والسلطان والورع والقهر والمعصية والطاعة.
أي أنّ المعنى الّلغوي لكلمة دين لا يرتبط بالإيمان نهائيّاً، بل يرتبط بالحساب والعقاب والجزاء والعادات، كما ويرتبط بإذلال النفس ومحاسبتها واستعبادها، ويتعلّق الدّين بالحالة الأخلاقيّة للإنسان من حيث قهر النّفس والورع أو المعصية والطاعة. وهذا التّعريف ينطبق على حالة النّاس بغضّ النّظر عن إيمانهم بوجود إله أو عدم إيمانهم، إلا إذا كان الدّين لله، أي طاعة الله والتعبّد له بغرض المجازاة وليس بغرض التعبير عن الإيمان أو عن محبّة الله.
2. في الّلغات الأوروبية: يتّفق معظم علماء الّلغة الأوروبيون أن أصل كلمة Religion الإنجليزيّة هي الكلمة اللاتينيّة religare والّتي جذرها كلمة religo. ويعرف جميع دارسي اللغات الأوروبيّة، أن الحرفين “re” تعني "ثانية" أو "تكرار"، وأن كلمة religare اللّاتينيّة فمعناها الّلغوي "ربط وشد وتقييد وضم واتصال". وهكذا فإن كلمة دين أو religion تعني شد أو ربط أو تقييد. وهذا الشد أو الرّبط يشير إلى ارتباط أو تقيّد الإنسان بمجموعة من القوانين والأنظمة والعادات والتقاليد والطقوس أو المبادئ أو العقائد أو الروتين (الصّيغ أو الأعمال المتكررة).
في العودة إلى الإنجيل المقدّس، نجد أن الرّب يسوع لم يأتِ لكي يقيّدنا أو يربطنا بأي شيء أو أي طقس أو عادة أو روتين. بل على العكس، فقد جاء الرّب يسوع ليحرّرنا من عبوديّة الشّر والخطيّة، ولكي نعيش إنسانيّتنا بكل معنى الكلمة، ولكي يستطيع الله أن يعمل من خلالنا لإعلان مجده القدّوس. قال الرّب يسوع في يوحنّا 32:8: "وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ". ثم أضاف قائلاً: "فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الاِبْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً" (يوحنّا 36:8). وقال بولس الرسول بوحي من الله "فَاثْبُتُوا إِذاً فِي الْحُرِّيَّةِ الَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ بِهَا، وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضاً بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ" (غلاطية 1:5). وهذه الكلمات جاءت في سياق الحديث عن قيود الدين اليهودي، وقد أكّد الرّسول على هذه الحقيقة في غلاطية 13:5: "فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ"، فالله دعانا للحريّة وليس للقيود والطقوس، لذلك علينا أن نتذكّر أن "الرّب فَهُوَ الرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ الرّب هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ" (كورنثوس الثانية 17:3).
وهكذا، لم يقل الرّب يسوع نهائيّاً بأنّه جاء ليكون لنا دين، أو أن علينا أن نتمسّك بهذا الدّين ونتقيّد بقواعده ومتطلباته وأن ندافع عنه بالسّيف والقوّة والقتل وسفك دماء المعارضين لهذا الدّين. قال الرّب يسوع في الإنجيل بحسب البشير يوحنّا 10:10: "فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ". والحياة الّتي جاء الرّب يسوع ليعطينا إياها والّتي يريد لها أن تظهر فينا ومن خلالنا هي حياته، لأنّه هو "الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ" (يوحنّا 6:14). وقد كتب الرّسول يوحنّا عن تلك الحقيقة قائلاً: "مَنْ لَهُ الاِبْنُ فَلَهُ الْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ابْنُ اللهِ فَلَيْسَتْ لَهُ الْحَيَاةُ" (يوحنّا الأولى 12:5). وقد استخدم بولس الرّسول عبارة "الْمَسِيحُ حَيَاتُنَا" (كولوسي 4:3) ليبين لنا أن المسيحيّة ليست دين، بل هي حياة الرّب يسوع المسيح الظاهرة في كلمات وأقوال وأعمال كل من يقبله ربّاً ومخلِّصاً لحياته.
كلمة دين في الكتاب المقدّس: إنّ النّظرة الثّاقبة والصّادقة لاستخدام كلمة "دين" في الكتاب المقدّس تبيّن بوضوح أن الكلمة استخدمت مرة واحدة فقط لتفيد معنىً إيجابياً، وذلك في رسالة يعقوب 27:1. ولكن في بقية استخداماتها، فإنها تحمل معان ودلالات ومفاهيم سلبيّة.
1) في أعمال الرسل 19:25، لدينا في الترجمة العربيّة كلمة "ديانتهم". وهي ترجمة للكلمة اليونانية دايسيدايمونياس δεισιδαιμονιας، وهذه الكلمة لم تستخدم إلا في هذا الموقع، ويمكن ترجمتها أيضاً بكلمة "خرافات".
2) كلمة ثريسكيا θρησκια اليونانية والتي تشير إلى خوف الله وعبادته كدليل على التديّن، وخصوصاً في الممارسات الطقسية.
* في أعمال الرسل 5:26، كلمة "عبادتنا" في الترجمة العربية هي ترجمة صحيحة، مع أن كثير من الترجمات الإنجليزية اختارت كلمة "دين" لترجمة الكلمة اليونانية ثريسكيا θρησκια والتي تترجم بكلمة عبادة أو دين.
* في رسالة يعقوب 26:1-27، لدينا في الترجمة العربيّة كلمتي "دَيّن وديّانة". وجاء استخدامهما من أجل توبيخ المتديّن الثرثار، ولمدح أعمال صالحة محددة هي افتقاد اليتامى والارامل وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس. والكلمة اليونانية هنا هي أيضا كلمة ثريسكيا θρησκια والتي يصح ترجمتها أيضا بكلمة "عبادة" كما ترجمت في أعمال الرسل 5:26.
3) كلمات مختلفة مشتقّة من الكلمة اليونانيّة سيبوماي σεβομαι والتي تعني يوقر أو يعبد أو يخاف. هذه الكلمة مترجمة في بعض الترجمات الإنجليزيّة بكلمة "دين".
* في أعمال الرسل 43:13، كلمة "متعبّدين" (يخافون الله)
* في رسالة تيموثاوس الأولى 10:2، كلمة "متعاهدات" بتقوى الله، بمعنى مطيعات للوصايا.
* في رسالة تيموثاوس الأولى 16:3 ورسالة تيموثاوس الثانية 5:3، لدينا كلمة "التقوى" في الترجمة العربيّة، وكلمة "دين" في بعض التّرجمات الأوروبية. (في رأيي المتواضع، لا يمكننا هنا استخدام كلمة "دين" كما في بعض الترجمات غير العربيّة).
* في رسالة تيموثاوس الأولى 4:5، لدينا فعل "يوقّروا" أهل بيتهم، أي أن الحديث هنا هو عن السّلوك والاخلاق وليس عن الدين.
4) في رسالة كولوسي 23:2، لدينا كلمة "عبادة" نافلة، أي أن الحديث هنا هو ضد التديّن الباطل بحسب وصايا وتعاليم الناس. وهذه إشارة إلى عبادة أو تديّن غير مطلوب من الله، أي دين مفروض من الناس وعلى بعضهم البعض، فهو دين ذاتي وشخصي ولا يتفق مع مشيئة الله.
5) في رسالة غلاطية 13:1-14، يتحدث بولس الرّسول عن "الدّيانة اليهوديّة" وعن "تقليدات آبائي".
6) في الترجمة الإنجليزية المعروفة باسم “NIV” يستخدم المترجمون كلمة "دين" أو "ديني" كصفة للأعياد والخدمات، مع أن الكلمة غير موجودة في الأصل اليوناني أو في الأصل العبري.
* في سفر عاموس 21:5، أعيادكم (الدينيّة).
* أيضاً في سفر عاموس 10:8، أعيادكم (الدينيّة).
* في رسالة كولوسي 16:2، عيد أو هلال أو سبت (ديني).
* في الرسالة الى عبرانيين 11:10، يخدم (خدمة دينيّة).
عندما ذهب بولس الرّسول إلى أثينا عاصمة اليونان، رأى أصناماً لآلهة عديدة جدّاً، ومن بينها مذبحاً مكتوباً عليه "لإلهٍ مجهول" خوفاً من نسيانهم لأحد الآلهة، لذلك خاطبهم قائلاً: "أَيُّهَا الرِّجَالُ الأَثِينِيُّونَ أَرَاكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَأَنَّكُمْ مُتَدَيِّنُونَ كَثِيراً" (أعمال 22:17-23). أي أن بولس وصف عبادتهم الوثنية بالتديُّن. والكلمة اليونانية الّتي استخدمها بولس هنا هي دايْسِدايمونستيروس δεισιδαιμονεστέρους وهي مشتقة من كلمتين يونانيتين: الكلمة الاولى دايدو δειδ والّتي تعني "يخاف أو يحترم"، والكلمة الثانية دايمون δαιμων وهي الكلمة المستخدمة للأرواح الشرّيرة وللشّيطان (demon) أي أن الكلمة الّتي استخدمها بولس تعني حرفياً: خوف واحترام عظيم للأرواح الشرّيرة أو الشياطين، لذلك فهم متديّنون أو يعتقدون بالخرافات والأوهام. وفي أعمال الرسل 19:25، استخدم الوالي الروماني فستوس نفس الكلمة وبازدراء للحديث عن الدّين اليهودي، وذلك عندما قال للملك هيرودس أغريباس أن اليهود اشتكوا على بولس الرّسول لأنّ لهم عليه مسائل من جهة "ديانتهم".
في رسالة بولس الرّسول إلى أهل كولوسي، واجه الرّسول ديانة منطقة آسيا الصغرى بالإضافة إلى التديّن اليهودي. حيث كانت هذه المظاهر الدينيّة تتبعه أينما ذهب أثناء رحلاته التبشيريّة. لذلك كتب مبيناً سمو وعلو إنجيل نعمة ربّنا يسوع المسيح فوق جميع ديانات العالم. ففي حديثه عن النشاطات والأعمال الأخلاقية الّتي حاول المتديّنون فرضها على المؤمنين المسيحيين، سألهم بولس: "إِذاً إِنْ كُنْتُمْ قَدْ مُتُّمْ مَعَ الْمَسِيحِ عَنْ أرْكَانِ الْعَالَمِ، فَلِمَاذَا كَأَنَّكُمْ عَائِشُونَ فِي الْعَالَمِ، تُفْرَضُ عَلَيْكُمْ فَرَائِضُ: لاَ تَمَسَّ، وَلاَ تَذُقْ، وَلاَ تَجُسَّ؟ الَّتِي هِيَ جَمِيعُهَا لِلْفَنَاءِ فِي الاِسْتِعْمَالِ، حَسَبَ وَصَايَا وَتَعَالِيمِ النّاس، الَّتِي لَهَا حِكَايَةُ حِكْمَةٍ، بِعِبَادَةٍ نَافِلَةٍ، وَتَوَاضُعٍ، وَقَهْرِ الْجَسَدِ، لَيْسَ بِقِيمَةٍ مَا مِنْ جِهَةِ إشْبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ" (كولوسي 20:2-23). في الترجمات الإنجليزيّة للكتاب المقدّس، نقرأ بدل عبارة "عبادة نافلة" جملة self- made religion . أي أن الكلمة يمكن أن تكون في الترجمة العربية "ديانة" وليست "عبادة"، وهي ترجمة للكلمة اليونانيّة إِثِلوثْرِسْكيا ἐθελοθρησκίᾳ المركّبة من كلمتين يونانيتين هما إِثِلوἐθέλω وتعني "إرادة أو رغبة أو فرح أو لذّة" وكلمة ثْرِسْكيا θρησκεία الّتي تعني عبادة أو دين. وهكذا فإنّ بولس الرّسول يصف هذه الأعمال الأخلاقية والفرائض بأنّها دين شخصي أو عبادة بإرادة وصنع النّاس، أي أنّها نشاطات يفرضها الإنسان على نفسه وعلى الآخرين، معتقداً أن مثل هذه الجهود ستنفعه أمام الله. أما بولس فإنّه ينكر مثل هذا التفكير مبيناً أنّها مجرّد ديانة أو عبادة شخصيّة لا قيمة لها أمام الله.
يبين لنا الرسول في رسالة يعقوب أنّه: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِيكُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ دَيِّنٌ، وَهُوَ لَيْسَ يُلْجِمُ لِسَانَهُ، بَلْ يَخْدَعُ قَلْبَهُ، فَدِيَانَةُ هَذَا بَاطِلَةٌ. الدّيانة الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ عِنْدَ اللَّهِ الآبِ هِيَ هَذِهِ: افْتِقَادُ الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ" (يعقوب 26:1-27). وبالتّالي فإنّ ما يقوله الرّسول يعقوب هو أن عدم إظهار صورة الله القدوس بشكل لائق وصحيح في حياتنا وسلوكنا يعني أنّنا نعيش في حالة تديّن باطل، أي أنّنا أصحاب ديانة باطلة. وفي الآية 27 يستخدم بولس نفس الكلمة اليونانيّة بطريقة إيجابيّة، حيث يصف هذه الدّيانة بأنّها "طاهرة ونقيّة" لأنّها تعطي المجد لله عن طريق الخدمة العملية والصادقة للأرامل واليتامى. مع أنه يمكننا بكل بساطة أن نستخدم هنا كلمة "العبادة الطاهرة" بدلاً من "الديانة الطاهرة" لان الكلمة اليونانية تفيد المعنيين في نفس الوقت. وفي هذه الحالة، نجد سموّاً للعبادة المسيحيّة الحقّة حيث تعبر بحق عن قداسة الله وشخصيّته الحقيقيّة في سلوكنا وكلامنا.