وصلت بالبحث في إنجيل يسوع المسيح بتدوين متّى إلى الأصحاح الثامن عشر. وفيه بحسب تسلسل الآيات 1 فضيلة التواضع 12 مَثَل الخروف الضّالّ 15 المعاتبة الأخويّة 18 سلطة المفاتيح 21 الغفران 23 مَثَل المَلِك المحاسِب عبيده.
وفي هذا الأصحاح إشارة قول السيد المسيح: {إيَّاكُم أنْ تَحتقروا أحدًا مِنْ هَؤلاءِ الصَّغارِ. أقولُ لكُم: إنَّ ملائِكَتَهُم في السَّماواتِ يُشاهِدونَ كُلَّ حِينٍ وجهَ أبي الّذي في السَّماواتِ}+ متّى 18: 10 إلى آية العهد القديم: {ملاكُ الرّبِّ حَولَ أتقيائِه، يَحنو عليهِم ويُخلِّصُهُمْ}+ المزامير 34: 8
وفي التفسير المسيحي- بتصرّف: [في هذا الفصل خصوصيّة عن الصغار. لقد أشار الرب إلى جميع تلاميذه كالصِّغار (متّى 42:10) لأنهم متصفون بهذه الصفة بالنسبة إلى عظماء العالم. بل ينبغي فعلًا أن يكون فيهم بعض صفات الأولاد الصغار كما رأينا. على أنه هنا خاطب التلاميذ أنفسهم من جهة ما وجب عليهم فعله نحو الصغار، ما عارض أفكارهم العالمية من جهة الملكوت، لأنهم تصوروا الملكوت نظامًا عالميًا يقتضي وجود وزراء وأبطال حرب- نظير مملكة داود وسليمان (صموئيل الثاني 23؛ ملوك الأول 4) فبعُد عن فكرهم أنّ الأهمية العظمى فيه تكون بالحقيقة للصغار. وأن العظمة مِن قِبل الله تكون لمن اتصف بصفاتهم، فالتلاميذ وقعوا في تجربة احتقار الصغار، كما سنرى في متّى 13:19
أمّا قول المسيح لهم {إن ملائكتهم في السماوات...} فلفت به أنظارهم إلى محبّة الآب الصِّغارَ وإلى عظمة مكانتهم عنده. وقد استنتج بعض الناس من قوله {ملائكتهم، أي الملائكة المخصصون لخدمتهم، انظر-ي أيضًا مزمور 91: 11 وعبرانيين 1: 14} أنّ لكل واحد من الأولاد ملاكًا خاصًّا به يحفظه، شأنهم شأن كل واحد من المؤمنين. عِلمًا إني لم أرَ هذا الاستنتاج صائبًا؛ لأن من الممكن أن يرسل الله جيشًا من الملائكة لحفظ ولد واحد، أو مؤمن واحد، إذا اقتضت الحاجة في وقت ما (انظر-ي سِفر الملوك الثاني 6: 17-18) حيث نرى الجبل مملوءًا خيلًا ومركبات نار للمحافظة على أليشع وغلامه. وانظر-ي أيضًا متّى 26: 53 إنّما خدمة الملائكة تُنسب دائمًا إلى عناية الله لأجل حفظنا من الأخطار التي نتعرض لها من خارج، لا دخل لهم في الأمور الروحية.
وأمّا قوله {يشاهدون كل حين وجه أبي الذي في السماوات} أي أنّ الملائكة دائمًا يمثُلون أمامه ليتقبلوا أوامره الخاصة بخدمتهم الصِّغار الضِّعاف في وسط مظالم العالم وتشويشاته. ولا شكّ بأن هذا يصدق أيضًا على خدمتهم لورثة الخلاص جميعًا. فإذا كان الملائكة لا يحتقرون الصغار بل يخدمونهم فكيف نحتقرُ الصغار؟]- بقلم: بنيامين بنكرتن
ـــ ـــ ـــ
ويسرّني بالمناسبة نقل التالي- بتصرّف أيضًا: {هذه المرة أجابهم بالكلمة وبدرسٍ عياني عملي في آنٍ معًا. فدعا أحد الأطفال الصغار. وبالتأكيد فإن هذا الطفل الصغير استجاب وأتى إليه دون أي تردد. وإذ أقامه في الوسط قال يسوع بجلالٍ ومهابة: {اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات}+ متّى 18: 3 بمعنًى آخر؛ إن رعيّة الملكوت الحقيقية: الأشخاص الذين يمتازون بالطواعية والتواضع، الذين يسمعون صوت الرب يسوع ويُلبّون نداءَه، قانعين بالمكان الذي يعيّنهم فيه. إنّما الأعظم في الملكوت سيكون المستعدّ أنْ يأخذ أدنى مكان (أي الأكثر تواضعًا) وبهذا يبرهن على أنه تابعٌ لذاك الذي جاء من مجد الله ليكون خادمًا في هذا العالم من المعاناة والألم. أنْ نقبل طفلًا صغيرًا باٌسم يسوع هو قبول يسوع نفسه، لأنه طابَقَ نفسَه مع الذين وثقوا به- ما عدا الخطيئة- فلم يخلّص أولئك الذين أدركوا فقط، لسبب السنوات الضائعة في الخطيئة والفسوق، الذين احتاجوا إلى المغفرة والتطهير، بل خلَّص أولئك الصغار أيضًا الذين لا مثيل لبراءتهم، وقد انجذبوا إليه لاهتمامه الحاني بهم من فيض محبّته.
ولعلَّنا نفهم، من ذكر الملائكة هنا، أرواحَ الأطفال الذين رحلوا؛ فالآية 14 {هكذا ليست مشيئةً أمام أبيكم الذي في السماوات أنْ يَهلِكَ أحدُ هؤلاء الصغار} تؤكّد على أنّ الأطفال كلَّهم الذين يموتون قبل أن يصلوا إلى سنّ المسؤولية هم مخلَّصون إلى الأبد من خلال عمل المسيح. إن الله الآب لا يريد لأيٍّ مِن هؤلاء أن يهلك؛ ونظرًا إلى أنّ إرادتهم لم تكن ضد إرادة الله فلعلّنا نكون على يقين بأنهم مع المسيح في بيت الله الآب}- بقلم هنري أ. أيرونسايد
أمّا بعد فيؤسفني ما يتعرَّض له الصغار من سوء التربية، في العالم عمومًا وفي الشرق الأوسط المتخلّف عن اللحاق بقطار التقدّم خصوصًا. لعلّ المسيئين يقارنون ما بين التربية الهابطة التي في تقاليدهم وبين طرق رعاية الأطفال في دول الغرب الغنيّة عن الوصف. فالطفولة خطّ أحمر في أيّة دولة غربيّة، لا أحد من ذوي الألباب يتخطّى حدودها، مهما أخطأ الطفل في نظر المربّي-ة أو تخطّى حدوده.
ولا يعني ما تقدّم غضّ النظر عن أخطاء الأطفال، بل معالجتها بالحكمة وأوّلها السيطرة على مجرى الحدث. لكنْ إذا فلت زمام السيطرة من يد المربّي فقد ينزل بعقليّته إلى ما دون المستوى الطفولي، ليخطأ خطأ أكبر ممّا فعل طفله، وحساب المربّي أثقل، سواء في نظر الدولة وفي نظر المجتمع. فمَن ثبت عليه أنّه أساء تربية طفلِه يؤخَذ منه طفلُه عُنوة إلى أحد دور رعاية الأطفال، وقد تصل عقوبة وليّ الأمر إلى دفع غرامة تارة وإلى السجن تارة أخرى، حسب درجة الإساءة. فكلّ مَن تعدّى على طفل خضع للمراقبة والملاحقة والتحقيق وتاليًا الإصلاح الاجتماعي.
إنّما كلّ مَن أساء إلى حقوق الطفل خالف وصيّة السيد المسيح بمحبّة الأطفال: {أمّا يسوع فقال: دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم لأنّ لمِثْلِ هؤلاء ملكوتَ السَّمَاوات}+ متّى 19: 14 ومرقس 10: 14 ولوقا 18: 16 هكذا نجد أنّ سبب كلّ تصرّف بشري مُسيء يكمن في مخالفة وصايا الله المدوَّنة في الكتاب المقدَّس بوضوح.
لكنّ الذي أثلج صدري في موضوع العناية بالطفولة في الدول النامية، غير المتوقِّفة عن النموّ، هو حُسن التربية لدى بعض المنفتحين على تعليم الإنجيل أو على أسلوب حياة العالم المتقدِّم أو على كليهما، ومداراة مشاعر الطفل وتفهّم احتياجاته وتفقّد صحّته واكتشاف مواهبه. كما أثلجه عناية بعض الدول بالأطفال المرضى وذوي الاحتياجات الخاصّة وفقراء الحال.
أخيرًا؛ أدعو وزارات الشؤون الاجتماعية إلى بثّ أكبر عدد ممكن من حملات التوعية وبرامج الإرشاد، عبر وسائل الإعلام المرئيّة منها والمسموعة والمقروءة، لكي يأخذ الطفل نصيبه من الاهتمام كاملًا، بدون نقص ولا تقصير ولا إهمال. على أن يتذكّر الوزير المعنيّ طفولته؛ سواء أكانت جميلة فيقتدي بها ويحسِّن ويطوِّر، أم بائسة محرومة فيدرس عوامل البؤس والحرمان ليعالجها بطريقة جديّة عِلميّة متقدِّمة.