ذكرت في ج16- أوّلًا- الإشارة الأولى من بين خمس إشارات في الأصحاح الحادي والعشرين من إنجيل ربّنا يسوع المسيح بتدوين متّى البشير. فإليك الإشارتين الثانية والثالثة مع التفسير- بتصرّف الكاتب:
الإشارة الثانية
{مكتوب: بيتي بيتَ الصّلاة يُدعى. وأنتم جعلتموه مغارة لصوص!}+ متّى 21: 13 وأيضًا في مرقس 11: 17 ولوقا 19: 46 والإشارة إلى أشعياء 56: 7 وإلى إرميا 7: 11
وإليك باختصار مقالتين من التفسير المسيحي؛
الأولى: [إذ يدخل الرب أورشليمنا الداخليّة إنّما يدخل إلى مقدسه، يقوم بنفسه بتطهيره، فيصنع سوطًا يطرد به باعة الحمام ويقلب موائد الصيارفة وهو يقول: {مكتوب بيتي بيت الـصلاة... الآية} فما هو هذا السوط إلا الروح القدس الذي يرسله الابن من عند الآب ليبكِّت على خطيّة ويهب التوبة الداخليّة ويعطي حِلًّا من الخطيّة خلال الكنيسة؟! بالروح القدس الناري يعيد الرب لمقدسه فينا قدسيَّته التي فقدناها بتحويل حياتنا الداخليّة، عن حياة الصلاة، إلى عمل تجاري حتى في الأمور الروحيّة، عِوض أن يكون القلب خزانة إلهيّة تضم في داخلها السيِّد المسيح نفسه كنزًا سماويًا لا يفنى، غير مرتبك بحسابات الصيارفة وتجارة الحمام، فينزع عنه سلام الله الفائق ليقتني لنفسه ارتباكات زمنيّة خانقة للنفس.
يرى القدّيس جيروم¹ "أنّ الكهنة اليهود كانوا يستغلِّون عيد الفِصح حيث يأتي اليهود من العالم كلّه لتقديم الذبائح، فحوَّلوا الهيكل إلى مركز تجاري، أقاموا فيه موائد الصيارفة ليقدّموا القروض للناس لشراء الذبائح، يقدّمونها لا بالربا إذ تمنعه الشريعة، وإنما مقابل هدايا عينيّة، هي في حقيقتها رِبًا مستتر"...
هذه صورة مؤلمة؛ فيها يتحوّل هيكل الرب عن غايته، ويفقد الكهنة عملهم الروحي، ويحوِّلون رسالتهم إلى جمع المال. وكما يقول العلاّمة أوريجينوس²: "ليُطرَدْ كل إنسان يبيع في الهيكل، خاصة إن كان بائع حمام... أي يبيع ما يكشفه له الروح القدس (الحمامة) بمالٍ ولا يُعلّم مجَّانًا، فإذ يبيع عمل الروح، يُطرَد من مذبح الرب" ...
يفقد الرعاة عملهم الروحي ويحوِّلون كلمة الله ومواهب الروح القدس وعطاياه إلى تجارة. وكما يقول القدّيس جيروم: "يدخل يسوع كل يوم إلى هيكل أبيه ويطرد من كنيسته في كل العالم أساقفة وكهنة وشمامسة وشعبًا موجِّهًا إليهم الاتهام ذاته، إنهم يبيعون ويشترون. وما أقوله عن الكنائس يطبِّقه كل واحد على نفسه، إذ يقول الرسول بولس: {أنتم هياكل الله وروح الله ساكن فيكم}+ 1كورنثوس 3: 16 فليَخْلُ بيت قلبنا من كل تجارة ومن كل رغبة للحصول على هدايا، لئلا يدخل الرب ثائرًا ويُطهّر هيكله بلا تراخٍ بطريقة أخرى غير السوط، فيُقيم من مغارة اللصوص وبيت التجارة بيتًا للصلاة"... وقد علَّق القدّيس جيروم على سوط الرب هكذا: "يظن معظم الناس أن أعظم معجزاته هي إقامة لعازر من الأموات أو تفتيح عينيّ المولود أعمى... وفي نظري أن أعجَبَها هي أن شخصًا واحدًا منبوذًا بلا اعتبار (أي ليس له مركز ديني معيَّن) قُدِّم للصلب استطاع أن يضرب بسوط الكتبةَ والفرّيسيّين الثائرين ضدّه، الذين شاهدوا بعيونهم دمار مكاسبهم. فإذ طرد الجمع الكبير وقلب الموائد وحطَّم الكراسي، فإنّ لهيبًا ناريًا ملتهبًا خرج من عينيه، وعظمة لاهوته شعّت على وجهه، فلم يتجاسر الكهنة أن يمدُّوا أيديهم عليه"]- بقلم القمّص تادرس يعقوب.
والثانية: [لقد اعتبَرَ السيد المسيح الهيكل³ بيت أبيه. فهو المكان الذي وضع عليه الرب اسمه في القديم. لكنه صار دنِسًا وحجر عثرة للناس. إنما هدف الله أن يكون بيته بيت الصلاة للشعوب كلِّها، كما أُعلِن مِن قبْل: {آتِي بِهِمْ إلى جَبَلِ قُدْسِي، وأُفَرِّحُهُمْ في بَيتِ صَلاتي، وتَكُونُ مُحرَقاتُهُمْ وذبائِحُهُمْ مقبولة على مَذبَحي، لأنَّ بَيتي بَيتَ الصَّلاة يُدعَى لِكُلّ الشّعوب}+ أشعياء 56: 7 ففي ذلك اليوم من المستقبل إذ يحلّ الملكوت، لتصبح أورشليم بالحقيقة مركز العبادة في الدنيا، سيظهر هيكل جديد، وتلتجئ إليه الأمم كلّها]- بقلم الواعظ هنري أ. أيرونسايد
الإشارة الثالثة
{أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ: مِن أَفواه الأطفال والرُّضَّعِ هَيَّأْتَ تَسبيحا؟}+ متّى 21: 16 والإشارة إلى سِفر المزامير 8: 2
وفي التفسير المسيحي: [كلّما مُجِّدَ يسوع اغتاظ أولئك الرؤساء العظام. فأجابهم يسوع من المزمور الثامن. وأما أضداده على الأرض فيُسكتهم الله حتى بتسبيحات الصغار الذين كانوا في تلك الساعة ينطقون بما يُناسب مجده. راجع-ي ما قال في شأن الأولاد الصغار (متّى 19: 14) ونرى هنا فرقًا عظيمًا بين أفكار الصغار وبين أفكار الكبار. فقد امتلأ الصغار تسبيحًا بإلهام من الله. في حين امتلأ الكبار غيظًا وغضبًا (يوحنا 19:12) حتّى تآمروا على قتله (مرقس 18:11) فيا للعار! انظر-ي قول المسيح: {أَحمَدُكَ أيُّها الآبُ رَبّ السَّمَاء والأرض، لأنّكَ أَخفَيتَ هذه عن الحُكَماء والفُهماء وأعلَنتَها للأطفال}+ متّى 25:11]- بقلم الأخ بنيامين بنكرتن.