بُدِئَ الكتاب المقدَّس بذكر نعمة الله على الإنسان بخلق السماوات والأرض وخُتِمَ بذكر نعمة المسيح مع جميع الناس. فواضح أنْ لا فرق بين قول الكتاب المقدَّس "نعمة الله" وبين قوله "نعمة المسيح" لأنّ الخلق كلّه كان بكلمة الله وهو المسيح (بداية إنجيل يوحنّا) ونعمة الله على أنواع؛ منها الطبيعيّة كنعمة الحياة على الأرض وتوفير مستلزماتها من ماء وضوء وحرارة بضبط البعد بينها وبين الشمس، في هندسة كونية عجز أرقى العلماء، مثالًا أينشتاين، من تصوّر شكلها ودقّتها. ومنها المادّيّة، كقولك: أنعم الله علينا بالصحّة والأولاد والعيش الكريم. ومنها الفكرية، كقولك: ألهمني الرب بكتابة قصيدة أو تأليف قطعة موسيقية أو رسم لوحة فنّيّة أو حلّ مشكلة ما طال انتظاره، ومعلوم أنّ الإلهام وسلامة التفكير والتأمّل مِن نِعَمِ الله. ومنها الروحيّة التي سأركّز عليها بهذه الوقفة، لأنّ عددًا من الإخوة المعلِّقين على مقالاتي المنشورة على فيسبوك موقع لينغا ذكروا اسم نعمة غريبة من نوعها في نظري ولم تلفت انتباهي من قبل، شاكرين الله عليها. قيل عنها أيضًا (كفى بها نعمة) فيا ليت شِعري ما هذه النعمة وما مصدرها وما فائدتها وما تأثيرها على العالم؟ سأحاول البحث عن مفهومها بعد قليل. ففي ضوء معرفتي أنّ من المستحيل أن ترقى نعمة ما إلى نعمة الحياة الأبدية مع المسيح، كملائكة الله، لكلّ مَن آمن بالمسيح فاديًا ومخلِّصًا وعَمِل بوصاياه، ولا سيّما الوصيّتين العُظميَين محبّة الله ومحبّة القريب، وطبّق تعاليمه كتطبيق قوله الذي معناه: "عامل الناس كما تُحِبّ أن يعاملوك"+ لوقا 6: 31 وقوله بفصل الدولة عن الدين: {أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله}+ مرقس 12: 17
وقد سبق لي أن بيّنت أن معنى القريب في الكتاب المقدَّس هو الأخ بالإنسانيّة أيًّا كان.
ـــ ـــ ـــ
أمثلة على ورود النعمة حرفيًّا في الكتاب المقدَّس
ورد في العهد الجديد:
فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم، لأنّكِ قد وجدتِ نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمّينه يسوع+ لوقا 1: 30-31
وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه، ويقولون: أليس هذا ابن يوسف؟+ لوقا 4: 22
ومِنْ مِلْئِهِ نحنُ جَمِيعًا أَخَذْنا، ونِعمَةً فوق نِعمَة. لأَنَّ النَّامُوسَ بمُوسَى أُعطِيَ، أمَّا النِّعمَةُ والحَقُّ فبيَسُوعَ المَسِيحِ صَارَا+ يوحنّا 1: 16-17
واخترت من العهد القديم التالي:
ورَأَى سَيِّدُهُ أَنَّ الرَّبَّ مَعَهُ، وأَنَّ كُلَّ مَا يَصْنَعُ كانَ الرَّبُّ يُنجِحُهُ بيَدِه. فوجد يوسفُ نعمة في عينيه، وخَدَمَه، فوكّله على بيته... + التكوين 39: 3-4 من قصّة يوسف في مصر.
إِنْ سَمِعُوا وأَطاعُوا قَضَوا أَيَّامَهُمْ بالخَير وسِنِيهِمْ بالنِّعَم+ أيوب 36: 11
اَلصِّيتُ أَفْضَلُ مِنَ الغِنَى العَظِيم، والنِّعمَةُ الصَّالِحَةُ أفضَلُ مِنَ الفِضَّةِ والذَّهَب+ الأمثال 22: 1
فالأمثلة كثيرة. ومن يذهب إلى تفسير الكتاب المقدَّس يجد معنى كل نعمة من هذه النعم وسببها وفائدتها والغاية منها.
ـــ ـــ ـــ
نعمة الفداء العظيم المقدَّس
لقد أنعم الله على الناس جميعًا بفداء السيد المسيح على الصليب {إِذِ الجَمِيعُ أَخطَأُوا وأَعوَزَهُمْ مَجْدُ الله، مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بنِعمَتِهِ بالفِداءِ الَّذي بيَسُوعَ المَسِيحِ، الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بالإِيمان بدَمِهِ، لإِظهارِ بِرِّه، مِنْ أجْل الصَّفْحِ عَنِ الخطايا السَّالِفة بإمهالِ الله...}+ روما 3: 23-25 لكي يحصل على حياة أبديّة مجّانًا كلّ مَن يؤمن بالسيد المسيح فاديًا ومخلِّصًا شخصيًّا لحياته؛ سواء أعاشها بعيدًا عن الله فندم وتاب ورجع إلى الله، أم قريبًا من الله ملتزمًا بوصاياه وتعاليمه؛ كما في قصّة الشّابّ اليهودي الغني (لوقا\ 18) فلم يكن التزامه بوصايا الله كافيًا للدخول إلى ملكوت السماوات! إنما أوجب عليه السيد المسيح أن يبيع أملاكه كلّها ويوزّع على الفقراء فيكون له كنز في السماء. أيضًا؛ لن يدخل إلى ملكوت السماوات الذي قال للمسيح {يا ربّ... يا ربّ} بل الذي يعمل مشيئة الله (متّى 7: 21) وغاية الله هي {أَنَّ جَمِيعَ النَّاس يَخلُصُون، وإلى مَعرِفةِ الحَقِّ يُقبِلُون}+ 1تيموثاوس 2: 4 والحقّ هو يسوع المسيح؛ قال يسوع: {أنا هو الطريق والحقّ والحياة. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآب إِلاَّ بي}+ يوحنّا 14: 6
فالإيمان بالمسيح تاليًا مقترن بالأعمال الحسنة، بها يتبرر الانسان، لا بالإيمان وحده، لأنّ الإيمان بدونها ميت (رسالة يعقوب\2) لكنّ هذا لا يعني انّ الأعمال الحسنة بدون إيمان بالله مرفوضة، لا من الله ولا من الناس؛ بل توجد أعمال خيريّة كثيرة لملحدين، أو لا دينيّين، لا يؤمنون بوجود الله ولا يقتنعون، منها ما ضاهى عمل المؤمن ومنها ما تفوّق عليه. والمؤمن بالله يعلم أنّ الله يجازي حسب النوايا والأعمال، على أن الله يرى كلّ شيء وأنّ له {النقمة والجزاء} ممّا أشرت إليه في الوقفة السابقة.
ـــ ـــ ـــ
نعمة الحياة بالمسيح
إن الحياة التي يملأها المسيح هي حياة القداسة المغسولة بدمه الثمين وحياة السموّ بالفكر روحيًّا وبالفعل أخلاقيًّا. حينما يحيا المرء بالمسيح كُليًّا فهذا يعني أنّ المسيح يحيا فيه ليعكس محبّة المسيح ونوره أمام الناس. قال في موعظة الجبل الخالدة: {فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكذا قُدّام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات}+ متّى 5: 16 فهي الحياة التي تمّت بها مصالحة الإنسان مع الله بواسطة المسيح، بعدما غرق الإنسان في خطيئته، وارثًا طبيعة آدم الخاطئة وإن لم يرث الخطيئة نفسها (عصيان الله) فلا يعني الفوز بنصيب الحياة مع الله ما ظنّ الجهلاء في العقيدة المسيحية والمفترون عليها: (الإيمان بخلاص المسيح وإطلاق العنان بعده لرغبات النفس الدنيوية غير المشروعة وارتكاب المعاصي، على أنّ المسيح سيغفر جميع ذنوب الخاطئ بمجرّد الإيمان به أو يتشفع له عند الله)- كلّا وحاشا؛ فنقرأ في إحدى رسائل بولس الرسول: {مع المسيح صُلِبْتُ، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيّ...}+ غلاطية 2: 20 وفي هذا الكلام دلالة على المعمودية، يجد الباحث هذه الدلالة في أيّ كتاب تفسير مسيحي. وفي هذه الرسالة أيضا: {وأَمَّا ثَمَرُ الرُّوح فهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلام، طُولُ أَناة لُطْفٌ صَلاح، إيمانٌ وَداعَةٌ تَعَفُّف. ضِدَّ أمثال هذِهِ لَيسَ نامُوس. ولكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلمَسِيح قد صَلَبُوا الجَسَدَ مَعَ الأَهواء والشَّهَوات}+ غلاطية 5: 22-24 فهنيئًا لكلّ مَن يحيا على الأرض حياة القداسة التي تمهِّد إلى دخول ملكوت السماوات الذي أخبر عنه المسيح بأمثال رائعة. وحياة القداسة هي الحياة بالمحبّة الخالصة غير المشروطة والسلام الداخلي والضمير الحيّ والتسامح مع الآخر وغفران زلّاته وسائر ما في الإنجيل من تعاليم ووصايا.
وبالمناسبة؛ بئس الجاهل الذي زعم أنّ بولس الرسول "خالف برسائله تعاليم المسيح" أو "حرّفها" ونحو هذا، فليأتِني هذا الجاهل بحجّة واحدة دليلًا على كلامه، ليأتِ بآية واحدة من آيات هذا القدّيس العظيم، رسول الأمم، ليثبت بها أن بولس "خالف" المسيح- كلّا وحاشا.
فالحمد لله على نعمة تعاليم المسيح السامية التي زرعها في قلب بولس الرسول وفي قلوب سائر البشر على الأرض، لكي يتقرّبوا بها إلى الله؛ فيحبّ بعضهم بعضًا وينالوا الحياة الأبدية التي أعدَّها السيد المسيح في السماء لكلّ مَن آمَن به واعتمد، كما تقدّم.
لكنّ الله في المقابل؛ قد أعدّ بحيرة متّقدة بنار وكبريت لكل مُفتَرٍ عليه وكلّ مُجَدِّف على الروح القدس وكلّ متمرّد على وصاياه مع سبق الإصرار، هو الموت الثاني الذي لا نجاة منه، لا شفاعة لإبليس وجنوده مقبولة عند الله، لا مِن ملاك ولا نبي ولا رسول ولا قدّيس، وأيّ ملاك أو قدّيس مَن يتشفّع لإبليس؟! فنقرأ في الكتاب المقدَّس: {وأمّا الخائفون وغير المؤمنين والرَّجِسون والقاتلون والزّناة والسَّحَرة وعَبَدَةُ الاوثان وجميع الكَذَبة، فنَصيبُهم في البحيرة المتَّقِدة بنار وكبريت، الذي هو الموت الثاني}+ رؤيا 21: 8
فطُوبى (أي هنيئًا) لكلّ من استخدم عقله ولم يركنه في ثلّاجة.
ـــ ـــ ـــ
نعمة المسيح
لقد أنعم المسيح على الناس بأعمال المحبّة، بالإضافة إلى تعاليمه التي شهد لها وللأعمال أتباعه وخصومه أيضا، خلال فترة نشر رسالته الإلهية التي دامت ثلاث سنين، والمستمرّ نشرها والتبشير بها إلى اليوم بعد صعوده إلى السماء. من بينها معجزات وخوارق، شمل بها الأتباع والخصوم معًا. هي باختصار شديد: تحويل الماء إلى خمر أدّت إلى إفاقة السكارى في عرس قانا الجليل (يوحنّا\2) وإكثار السمك في الشباك في مناسبتين، تهدئة العاصفة، تكثير الخبز والسمك في مناسبتين ليشبع الآلاف، دفع الجزية من فم سمكة، إخراج أرواح نجسة من الناس وطردها، تطهير البرص، فتح عيون العميان ومنهم الذين وُلدوا عميان، شفاءات مختلفة، إحياء موتى. واللافت أنّ السيد المسيح فعل ما لم يستطع فعله نبيّ من قبل أو رسول؛ هو إعطاء تلاميذه ورسله سلطان عمل المعجزات كلّ زمان وفي أيّ مكان.
فإن قلت أخي المسلم، أو كتبت (أنّ معجزات السيد المسيح تمّت بإذن الله) فالجواب أوّلًا: قد سبق لي تفصيل موضوع سلطان المسيح الإلهي في أزيد من مناسبة؛ إذ كان السيد المسيح يفعل المعجزة بكلمة واحدة، أمام الناس وفي وضح النهار، بدون انتظار إذن من الله!
ثانيًا: لماذا لم يأذن الله بمعجزة واحدة للرسول الذي تتّبع، أمام الناس وفي وضح النهار، لإسكات نُقّاد ذلك الزمان الذين في أعرافهم أنّ المعجزة الإلهية مِن ميّزات رسول الله، أو نبيّه، فيكفّوا عن الطعن في أيّة رسالة مزعومة من الله؟
ـــ ـــ ـــ
هل القرآن مُعجِز؟
إن أجبتَ أخي الكريم بأنّ (القرآن هو المعجزة) فإنّي أظنّ أنّك مخدوع بهذا الزعم، وإنّي على يقين تامّ بأنّ القرآن من تأليف مؤلِّفه. ليتك فكّرت قليلًا في أنّ لكلّ مؤلِّف خيالًا خاصًّا به وثقافة شخصية وأسلوبًا خاصًّا في الكتابة، سواء أكَتَبَ بخطّ بيده أو بخطّ يد أخرى، مثلما بصمة الإبهام؛ لا توجد في العالم بصمة واحدة مشتركة بين شخصين! لذا رأيتُ أنّ التحدّي القرآني: (قل لئِن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله...)- الإسراء:88 ضعيف الحجّة ولا مبرِّر له. وإنْ بحثتَ في غوغل وغيره عمّا نُسِبَ إلى القرآن من إعجاز، لن تجد مفسِّرًا واحدًا من الجيل الإسلامي الأوّل مشيرًا إليه ولا من القرن الأوَّل للهجرة ولا من الألف الأوّل! وفي ضوء معرفتي: لا يوجد في القرآن أيّ إعجاز؛ لا أدبي، بل هو دون مستوى أدب الحقبة التي عاصرها مؤلِّفه مضمونًا وشكلا، إلّا إذا كان مستواك اللغوي ضعيفًا واطّلاعك على الأدب ما قبل الإسلام قليلا. ولا بلاغي والدليل: اختلاف المفسِّرين الكثير على المعنى أو التأويل. ولا علمي والدليل: دحضه وتفنيده سواء في كتب النّقّاد المطبوعة وعلى الانترنت.
ـــ ـــ ـــ
مفهوم النعمة في الإسلام
لقد صدع النقاد الإسلاميّون رأسي بقولهم: (الحمد لله على نعمة الإسلام) في مقابل إشادتي بمعجزات السيد المسيح الباهرة والمفيدة والتي لو أُحصِيَت كلّها لتدوينها في كتاب واحد لَمَا وسعها كتاب مهما يبلغ حجمه (ما معناه في آخر إنجيل يوحنّا) ويا ليت شعري تاليًا؛ ما هي النعمة المزعومة في الإسلام، هل هي نعمة حقًّا؟ إمّا اعتبروها نعمة فما هي وما فائدتها ولمصلحة مَن؟ هاتوا أيّها الإخوة المحترمون نعمة واحدة ممّا تزعمون، تاركة أثرًا في نفوس النّاس لِمَا فيها من فائدة، إن كنتم صادقين، على ألّا تكون مقتبسة من الكتاب المقدَّس ولا منسوخة! وإلّا فإن كلّ ادّعاء بدون إثبات أو توثيق محضُ هُراء.
ولقد ذهبت إلى عدد من التفاسير الإسلامية للتحرّي عن هذه النعمة فوجدت مثالًا التالي، ممّا في تفسير القرطبي (ت 671 هـ) وفي تفسير ابن كثير من بعده (وأمّا بنعمة ربِّك فحدِّث)- الضحى:11 [قال مجاهد: يعني النبوّة التي أعطاك ربّك. وفي رواية عنه: القرآن] انتهى.
وتعليقي: فالنعمة المقصودة هي إمّا النبوّة وإمّا القرآن. فإن كان القصد بالنبوّة التنبؤ بمجيء نبي بعد المسيح فقطعًا لا توجد نبوّة في الكتاب المقدَّس لتدعم قول مؤلِّف القرآن: (النبيّ الأمّيّ الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل)- الأعراف:157 فاحتماليّة ورود هذا الزعم في الكتاب المقدَّس مستحيلة في نظر كلّ مَن دَرَسَه. وإن كان القصد بالنبوّة ما تنبّأ به مؤلِّف القرآن عن المستقبل فلم يُذكَر في القرآن أنّ مؤلِّفه تنبّأ بحدوث شيء فحصل. لكن لو عثر الإسلاميّون على ما يظنّون به نبوّة منسوبة إليه، أو فسّروها هكذا، ولو استطاعوا تاليًا أن يُثبتوا بدليل قاطع أنّها تحقّقت، فإني أوفّر عليهم عناء البحث بالقول لهم باختصار شديد: لقد انتهى زمن النبوّات المقدَّسة بعد صعود المسيح إلى السماء، لأنّ السيد المسيح كان محور النبوّات التي تنبّأ بها أنبياء العهد القديم، لو كنتم تعلمون، فلا حاجة إلى أيّة نبوّة بعد مجيء المسيح إلى الأرض. فضلًا عن أنّ جميع الأنبياء كانوا من بني إسرائيل (يعقوب) بن إسحاق بن إبراهيم.
ويبقى التساؤل (ما هي نعمة الإسلام؟) قائمًا حتّى إيجاد جواب مُقنِع. وقد حاول كلّ من الإمامين الطبري (ت 310 هـ) والقرطبي وسائر المفسِّرين الإجابة على هذا التساؤل في تفسير (وأتمَمْتُ عليكم نِعمتي)- المائدة:3 بالتالي: [1. الطبري: (وأتممت نعمتي أيها المؤمنون بإظهاركم على عدوّي وعدوّكم من المشركين، ونفيِي إيّاهم عن بلادكم، وقطعي طمعهم من رجوعكم، وعودكم إلى ما كنتم عليه من الشرك) انتهى.
2. القرطبي: أي: بإكمال الشرائع والأحكام وإظهار دين الإسلام كما وعدتكم، إذ قلت: ولأتمّ نعمتي عليكم وهي دخول مكة. آمنين مطمئنّين وغير ذلك مما انتظمته هذه الملّة الحنيفية إلى دخول الجنة في رحمة الله تعالى] انتهى.
وتعليقي على التفسير الأوّل: هل اعتبار المشركين أعداء والأمر بقتالهم، عوض تعليمهم وإرشادهم، نعمة؟ وهل تهجير أبناء البلد من بيوتهم ونفيهم نعمة؟
وتاليًا؛ نَعَمْ؛ توجد في القرآن دعوة إلى عبادة الله، لكنها كانت معروفة قبل الإسلام! لم تكن جديدة من نوعها، إنّما مقتبسة من آيات التوحيد المعلنة في الكتاب المقدَّس. فلا أحد عرف الله- الإله الحقيقي- في كتاب ما قبل الكتاب المقدَّس.
وتعليقي على التفسير الثاني: كيف اعتُبِرَ دخول المسلمين مكّة لفرض الإسلام بالسيف على مجتمع متعدد الثقافات نعمة؟ ومن المعلوم عن هذه الحادثة أنّ أبا سفيان قد امتنع عن تأدية الشهادة الإسلامية الثانية قبل قيام العبّاس بن عبد المطّلب بوضع السيف على رقبته، فاضطُرّ أبو سفيان إلى تأديتها. ومعلوم أيضًا أنّ صاحب الدعوة الإسلاميّة قد أَمَرَ، بعد دخول مكّة، بإهدار دماء تسعة مِن معارضيه ولو تعلّقوا بأستار الكعبة، مِنهم مَن قُتِل ومِنهم مَن أسلم (1) فكيف سُمِّيَتْ هذه النقمة نعمة؟
أمّا دخول الجنّة فإنّ مؤلِّف القرآن نفسه لم يضمن دخولها؛ حسب الحديث التالي: [لن ينجي أحدًا منكم عمله، قال رجل: ولا إيّاك يا رسول الله؟ قال: ولا إيّاي إلّا أن يتغمّدني الله منه برحمة، ولكن سددوا. وفي رواية: (برحمة منه وفضل)...]- صحيح مسلم.
وهذا يعني لي أن أعمال "الجهاديّين" الإسلاميّين لن تنجيهم من نار جهنّم.
وتوجد بهذه المناسبة مفارقة؛ فقد قُتِلَ في موقعة الجمل الصحابيّان الزبير وطلحة، من بين العشرة المبشَّرين بالجنّة الإسلاميّة، عند أهل السّنّة، بأيدي عناصر جيش مضادّ قاده مبشَّر ثالث بها. فمَن مِنهم يدخل الجنّة؟ (2) عِلمًا أن الحديث التالي جعل في النار القاتل والمقتول: [حدثنا عبد الرحمن بن المبارك... عن الأحنف بن قيس قال: ذهبت لأنصر هذا الرجل. فلقيني أبو بكرة فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل. قال: ارجع فإني سمعت رسول الله ص يقول: إذا التقى المسلمان بسَيفَيهما فالقاتل والمقتول في النار. فقلت: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه]- صحيح البخاري.