ضوء على مقولة القرآن: ما قتلوه وما صلبوه
يوجد في مقولة القرآن (وما قتلوه وما صلبوه)- النساء:157 شيء صحيح إلى حدٍّ ما، هو أن اليهود لم يقتلوا المسيح ولم يصلبوه، لكن المرفوض عندنا هو نفي صلب المسيح جملة وتفصيلا ممّا في القرآن؛ إذ أردف محمد (بل رفعه الله إليه) وهذا يعني قرآنيًّا أن المسيح "لم يُصلَب ولم يمُتْ بل رفعه الله إليه حَيّا" وقد يخطر تساؤل منطقي في أذهان ذوي الألباب وذواتها: كيف رفعه الله ومتى وأمام مَن، هل مِن شهود عيان؟ هل تساءلت أخي المسلم بهذه الطريقة بينك وبين ضميرك؟ أتدري ما معنى "شهود عيان" أم ترغب في توضيح المعنى باختصار؟ كان شهود العيان في قلب الحدث؛ شاهدوا صلب المسيح والموت والقيامة. أمّا محمد فلم يذكر تفاصيل زعمه؛ إذ كان بعيدًا عن مكان الحدث 1200 كيلومتر (ما بين المدينة وبين أورشليم) وكان بعيدًا ستّمئة سنة عن تاريخ الحدث. فحين يأتي أيّ مدَّع بادّعاء ولا برهان على ادّعائه فإنّ القضاء لا يأخذ به، ما لم يحاسبه عليه. كما أنّ العقلاء من النّاس يتجاهلونه، ما لم يخاصموه.
وفي رأيي؛ حتّى قول محمد "رفعه الله إليه" لا يصبّ في مصلحة دعوته، لأنّ تساؤلًا ثانيًا يلحق من خلال التأمّل: أيّ الإثنين جدير بالاتّباع؛ السّيِّد المسيح الحيّ، المرفوع إلى السماء بعد موت أو بدونه، أم غيره ولا سيّما الذي مات وما زال قبره موجودًا ومحروسًا ولم يضمن لنفسه الجنّة- حسب حديث صحيح رواه مسلم؟ هذا لأننا نعيش اليوم ربيع فتح الأبواب التي كانت موصدة أمام التفكير والتحليل، إذ ولّى زمن تصديق القال والقيل.
ـــ ـــ
اختلاف مفسِّري القرآن على معنى الوفاة
توجد للوفاة في القرآن، حسب تفسير القرطبي (فلَمّا تَوَفّيتَني)- المائدة:117 ثلاثة أوجه- بتصرّف: [قال الحَسَن؛ وفاة الموت: الله يتوفّى الأنفس حين موتها يعني وقت انقضاء أجلها، ووفاة النوم: وهو الذي يتوفّاكم بالليل يعني الذي يُنيمكم، ووفاة الرفع: يا عيسى إني متوفّيك] انتهى. وتعليقي أوّلًا:
قلتُ إنّ ضعف بلاغة القرآن وغموض بيانه من الأسباب التي جعلت المفسِّرين يبتدعون تأويلات له وتبريرات. والآن؛ إذْ نفوا حقيقة موت المسيح استنادًا على ما فهموا من القرآن، وأغلب الظّنّ عندي أنّ منهم من فهم لكنّه حاول إخراج القرآن من هذا المأزق ومن غيره؛ لو قُصِدَ بالوفاة شيء غير الموت فلماذا قال (إنّي متوفّيك ورافعُك إليّ) في آل عمران:55 بينما قال (بل رَفَعَه الله إليه) في النساء:158 بدون ذكر الوفاة- أي لم يقُلْ توفّاه الله ورفعه إليه؟
وتاليًا أليست (كلّ نفس ذائقة الموت) حسب آل عمران:185 قبل رجوع النفس إلى ربّها راضية مرضيّة حسب الفجر:30 أم أنّ نفس المسيح مستثناة من هذه المقولة؟ ما الدليل سواء على شمولها أو على استثنائها؟
لذا ثبت لديّ أنّ المفسِّرين تجاهلوا الحجج المذكورة ليتشبّثوا بحديث محمّدي ورد في تفسير الطبري؛ هو باختصار: [قال أبو جعفر إنّ المعنى: إني قابضك من الأرض ورافعُك إليّ" لتواتر الأخبار عن رسول الله (ص) أنه قال: (ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجّال، ثم يمكث في الأرض مدّة ذكَرها، اختلفت الرواية في مبلغها، ثم يموت فيصلّي عليه المسلمون ويدفنونه)...] انتهى.
فتعليقي ثانيًا: هل صعبت صياغة هذا الخبر على محمد، ليعلن عنه صراحة في القرآن، أم أنّ جبريل تثاقل عن تنزيله؟ أفليست قصّة المسيح (كلمة الله وروح منه) أولى بالإيضاح من التخبّط في مشكلة عدد أصحاب الكهف وغيرها؟
أمّا قولي "تجاهلوا" فلا شكّ لديّ في أنّ منهم مَن تنبّه إلى وجود اختلاف في المعنى ما بين مقولة دلّت على الموت وبين أخرى نفت الموت، لكنّ المتنبّه لم يستطع الإفصاح عن رأيه صراحة، لأنّ سيف الإسلام مسلَّط على رقبته وعلى رقبة كلّ مخالف، لاتّهامه بالكفر أو الزندقة أو الإلحاد أو محاربة الله ورسوله... إلخ. والأمثلة على رصد المسلم المخالف واغتياله كثيرة منذ صدر الإسلام إلى اليوم.
وإليك أيضًا ما اقتطفت من تفسير الرازي المائدة: 117 [فلمّا توفَّيتَني: والمراد منه وفاة الرفع إلى السماء، من قوله: (إني متوفّيك ورافعك إليّ)- آل عمران:55] انتهى.
فتعليقي- على خلاف تأويل الرازي: لقد ناقض مؤلِّف القرآن نفسه بنفسه هنا أيضًا؛ إذ لم يقُلْ "فلمّا توفّيتَني ورفعتني" في المائدة مثلما قال "إني متوفّيك ورافعُك إليّ" ممّا في آل عمران:55 فمعنى الوفاة إذًا في آل عمران:55 وفاة الموت بينما المعنى في المائدة:117 وفاة الرَّفع، كما فسَّر الرازي، لأنّ معنى "متوفّيك ورافعك" مختلف عن معنى "متوفّيك" فقط.
وفي القرآن، عن نفي موت المسيح- حسب تفسير الطبري النساء:159 [عن قتادة: "وإِنْ مِن أهل الكتاب إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ به قبل موته ويَومَ القِيَامَة يَكُونُ عَلَيهِمْ شَهِيدا" قال: قبل موت عيسى، إذا نزل آمنت به الأديان كلّها..." وعن الحسن: "إلا ليؤمنن به قبل موته" قال عيسى، ولم يمُتْ بَعدُ"] انتهى.
فتعليقي ثالثًا على قول قتادة "إذا نزل" هو: ما مناسبة نزوله؟ وهل قوله "إذا" الشرطية غير الجازمة يدلّ على أنّ نزوله جائز لكنّه غير مؤكّد؟ وبعبارة أخرى: هل خالج عقل قتادة شكّ في نزول عيسى يومًا ما؟
أمّا بالعودة إلى الرازي فرأيت أنّه لم يكن موفّقًا في تفسيره "فلمّا توفَّيتَني" لأنه استند على "متوفّيك ورافعك" بدون تحليل الفرق بين المقولتين، كأنّه قال 1+1=1 وبعبارة أخرى؛ كيف تعادلت كفّة "توفّيتني" مع كفّة "متوفّيك ورافعك" ممّا في تفسيره؟
فمن الواضح أمامي ممّا تقدَّم أنّ معنى متوفّيك ورافعك هو: مُمِيتك ثمّ مُقيمُك (أي رافعك) من الموت.
وأمّا الحسن فقد أحسن في تفسيره، لأنّ القصد في القول (وإِنْ مِن أهل الكتاب إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ به قبل موته) هو أنّ جماعة مِن نسل أهل الكتاب، من الذين لم يؤمنوا بعيسى خلال مجيئه الأوّل، سيؤمنون به بعد نزوله من السماء ثانية فيشهد لهم يوم القيامة بأنهم باتوا من المؤمنين. فتفسير الحسن "إلا ليؤمنن به قبل موته" ممّا في النساء:159 بأنّ عيسى مرفوع "ولم يمُت بعد" صحيح في رأيي وفق السياق القرآني. لكن توجد مشكلة، لا أظنّ أنّ محمّدًا حسبها جيّدًا، لا هو ولا الحسن؛ قطعًا أنّ أهل الكتاب الذين عاصروا عيسى ماتوا. أمّا نسلهم غير المؤمن بعيسى فإنّ منهم من سيؤمن به بعد نزوله. لكن ما شأن الذين آمنوا بالمسيح منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، من خلال تبشير المسيحيّين بالمسيح؟ هذا لأنّ المسيحيّة تبشيريّة، على خلاف اليهوديّة. لم يحسب محمد للمؤمنين الجدد حسابا. فكثير من اليهود قد تنصّروا، بدون انتظار نزول عيسى من جديد. والقصد أنّ ما أوحِيَ إلى محمّد ليس من الله لأنّ الله يحسب كلّ شيء بدقّة.
ـــ ـــ
مَن يتحمّل تبعات مزاعم القرآن
أمّا بعد فلا يوجد حتّى الآن برهان واحد ليدعم طعن القرآن في قضيّة صلب المسيح. فمَن يتحمّل مسؤوليّة مزاعم القرآن وتبعاتها، على المدى البعيد وإلى أجل غير مسمّى، إلّا مؤلِّف القرآن؟ لأنّها أدّت إلى فتن واضطرابات وعداوات بين المسلمين وبين المسيحيّين خصوصًا، وبين المسلمين وبين شعوب العالم عمومًا وتحديدًا الشعوب المسمّاة "كافرة" فإن صحّ القول بكفرها فقد كفرت بدعوة محمد فقط! وهذا الكفر من حقّها، سواء أرضِيَ المسلمون أم أبوا، مثلما أُعطِيَ الحقّ لمحمد بتكذيب دعوة "مسيلمة الكذّاب" وغيره. قلت: حاشا الشعوب المؤمنة بالله، من غير المسلمين، أن تكفر بالله وبأحد أنبيائه الحقيقيّين ذكورًا وإناثًا وبسائر رسل الله الحقيقيّين.
ـــ ـــ
جواب المسلمين
أمّا الجواب الذي وصلني من المسلمين حتّى اليوم عن سبب تصديق القرآن ففي شقّين؛
الأوّل: استنادهم على مقولة القرآن (تنزيل ربّ العالمين...) ممّا في سورة الشعراء وفي غيرها، بدون تمكّنهم من إيجاد برهان واحد على هذا التنزيل لتقديمه إلى نقّاد القرآن، بالإضافة إلى اختلاف المفسِّرين على قضيّة التنزيل ما بين نزوله من أعلى (أي السماء) إلى أسفل (أي الأرض) والله منزّه عن المكان! وبين التعبير المجازي- ممّا في "الشخصية المحمّدية" باب: هل القرآن منزل من السماء- ص:583
والثاني: إسقاط شبهة تحريف محمد كلامَ الله على الكتاب المقدَّس. وقد تمّ دحض شبهة التحريف المزعومة وتفنيد جذورها المحمدية في أزيد من مقالة، ممّا تقدّم في القسم الأوّل، والدحض والتفنيد مستمرّان، بأدلّة جديدة وبراهين، طالما أصرّ المفترون على مواقفهم بدون وجه حقّ.
ـــ ـــ
خلاصة ما تقدّم
إنّ خلاصة ما تقدّم- حسب القرآن وما لحق به من حديث: (أن الله رفع المسيح بدون صلب، سواء أرَفَعَهُ بعد موت أم بدون موت) ومعلوم إسلاميًّا أنّ محمَّدًا (معصوم من الخطأ فيما أبلغ عن الله) أيًّا كان تأويل قوله: (وما ينطق عن الهوى إنْ هو إلّا وحي يوحى)- النجم:3 و4 لكنّ المعلوم مسيحيًّا أنّ نفي صلب المسيح يعتبر تجديفًا على الرُّوح الْقُدُس- المرشد الوحيد لكَتَبة الكتاب المقدَّس- ومغالطة ضدّ التاريخ أيضا. فإن غضّ النّاس بالطّرف عن التاريخ فإنّ الله يغفر لهم، لكنّ الله لن يغفر لأيّ مُجَدِّف على الروح القدس! فالمصير هو الهلاك الأبدي ولا شفيعَ للمجدِّف! إذ قال السّيّد المسيح: {لذلك أقول لكم: كلّ خطيّة وتجديف يُغفَر للناس، وأمّا التجديف على الروح فلن يُغفَر للناس. ومَن قال كلمة على ابن الانسان يُغفَر له، وأمّا مَن قال على الرّوح القدس فلن يُغفَر له، لا في هذا العالم ولا في الآتي}+ متّى 12: 31-32 فانظر-ي تفسير أيّة آية لطفًا على أيّة صفحة مسيحيّة.
ـــ ـــ
ردّي على شبهة الإغماء
إنّ موضوع التأكّد من موت المسيح بعد صلبه حاصل لا غبار عليه، إلّا أنّ عيون بعض الجهلة قد امتلأت قذى؛ إذ عثرت على بدعة تبنّتها الطائفة الأحمدية، الكافرة حسب السنّة وحسب الشِّيعة أيضًا، ومنها الدّجّال المهزوم أحمد ديدات، ادّعى مبدعها (أنّ المسيح لم يمت لكن أغمِيَ عليه) وجعبته قطعًا مفلِسة، خالية من أيّ دليل ومن أيّ برهان، شأنه شأن معتوه! فأجبت بسؤال: من جهة؛ هل تعرف- أيها المبدع- عدد حالات الإغماء التي قد يتعرّض لها كائن حيّ وأسبابها، أم أنّك تخرّجت في جامعة ليست كسائر الجامعات في العالم المتقدِّم وغير معترف بها، فأيّة حالة منها قصدت؟
ومن جهة أخرى؛ هل يتوقّف المُغمَى عليه عن التنفّس نهائيًّا؟ كلّا، وإلّا فإننا نصل إلى النتيجة المعلنة في الإنجيل، أي موت المسيح. فإذا تأمّل أيّ عاقل في قولك (إنّ المسيح لم يمُت لكن أغمِيَ عليه) ابتداء بوقت إنزاله من الصليب والحاضرون ينظرون إليه [تحقيق نبوءة النبي زكريّا 12: 10 التي أشار إليها يوحنّا 19: 37] حتّى إيصاله إلى القبر، بعد قطع مسافة بعيدة نسبيًّا، فما كان الرومان الذين صلبوه عميان! ولا شيوخ الشعب اليهودي من الحاضرين عمليّة الصَّلب حُولًا! ولا ارتاب في موته يوسف الرّامي الذي وضع جسد يسوع في القبر. وماذا عن النّساء اللواتي كنّ واقفات عند الصليب وبينهنّ أمّ المسيح والتلميذ الذي كان يسوع يحبّه (يوحنّا الإنجيلي) برفقتها؟
أيّها الشّيخ؛ لا أدري كيف حصلتَ على شهادتك الجامعيّة! لكن محاولتك تضليل الناس باتت خاسرة في زمن المعلوماتيّة السَّريعة وقد عفا عليها الزمن، عِلمًا أنّي لا أرغب في ذِكر اسمك، لأنّ معركتنا ليست معك ولا مع غيرك من الجهلة أو العميان، إنما مع قوى الشّرّ، سواء الرّوحيّة منها والظلاميّة والتّضليليّة.
وتاليًا؛ إليك الدليل، وأدلّة الكتاب المقدَّس قاطعة، فإنّ مِن عادة الرومان كَسْرَ سِيقان المصلوبين لتسريع موتهم إذا ما طال انتظاره. أمّا المسيح واللصّان اللذان صُلِبا على جانبيه فقد قصد الرومان تسريع موتهم لأنّ عيد الفِصح اليهودي كان قريبًا جدّا، وتحديدًا في اليوم التالي، لذا كسروا ساقَي كلّ من اللصّين: {وأمّا يسوع فلمّا جاءوا إليه لم يكسروا ساقَيه، لأنهم رأوه قد مات}+ يوحنّا 19: 33 ومعنى {رأوه قد مات} هنا: تأكّدوا من موته! لهذا السبب لم يكسروا ساقيه! ليس المعنى " خُيِّلَ لَهُم قد مات" فلا تحاول- أنت وغيرك من الجهلة باللغة العربيّة وبيانها- ليّ عنق المعنى ولا تحاول تحريفه! فنقرأ تاليًا: {عَظْمٌ لاَ يُكْسَرُ مِنْهُ}+ يوحنّا 19: 36 وهذه من نبوءات العهد القديم وتحديدًا التوراة (الخروج 12: 46 والعدد 9: 12) والمزامير: {يَحفَظُ جَمِيعَ عِظَامِه. وَاحِدٌ مِنْها لا يَنكَسِر}+ 34: 20
فليس موضوع الصَّلب عابرًا ليأتي شخص، بعد مضيّ ستّة قرون عليه، أو ستّين قرنًا وإلى الأبد، مدّعيًا بنفيه بدون وجه حقّ. إنّما هذا النفي خالف منهج كلّ مدقِّق-ة في الأحداث وكل باحث-ة عن الحقيقة، لأنّ وثائق الصَّلب، الإنجيليّة منها والتاريخية، ثبوتيّة وعقلانيّة؛ صدّقها أزيد من مليارين من البشر وآمنوا مقتنعِين بها، مِن خلفيّات مسيحيّة وغير مسيحية، سواء أكان إيمانهم بالمسيح مُعلَنًا أم مخفيّا.