نقرأ في الأصحاح الرابع والعشرين من إنجيل ربّنا يسوع المسيح بتدوين متّى البشير 2 تنبّؤ السيد المسيح عن خراب أورشليم 3 سؤال التلاميذ الثلاثي: متى الخراب، ما علامة المجيء الثاني للمسيح، متى ينقضي الدهر؟ 11 تنبؤ السيد المسيح عن مجيء أنبياء كذبة كثيرين 24 تنبؤه عن مجيء مُسَحاء كذبة مؤكّدًا على مجيء أنبياء كذبة 32 مَثَل التينة 35 السماء والأرض تزولان ولكن كلام المسيح لا يزول 36 تأكيد السيد المسيح على أن الآب وحده يعلم أوان الدينونة- ساعة المجيء الثاني للسيد المسيح لكي يدين العالم- ليس المعنى أنّ المسيح لم يعلم- حاشا- لكن لكي يكفّ التلاميذ عن الانشغال بعلامات آخر الزمان. فمن الأدلّة على علم المسيح باليوم الأخير وبالساعة: إخباره التلاميذ أزيد من مرّة عن ساعة بدء آلامه وصلبه وموته وقيامته 45 الخادم الأمين والخادم الشرّير.
وقد لفتتني في هذا الأصحاح ثلاث إشارات إلى العهد القديم:-
الإشارة الأولى
قال السيد المسيح: {فمَتى نَظَرتُمْ "رِجْسَةَ الخَرَاب" الّتي قال عنها دَانِيآلُ النَّبيُّ قائمةً في المَكان المُقَدَّس لِيَفهَمِ القارِئ}+ متّى 24: 15 والإشارة إلى سِفر دانيآل 9: 27
ومعنى رجسة الخراب: الخراب الناتج عن عبادة الأوثان في الهيكل.
وفي التفسير المسيحي- بتصرّف: [حدّثنا السيِّد في الآيات السابقة عن نهاية الهيكل وخراب أورشليم بطريقة خفيَّة، أمّا هنا فتحدّث علانيّة! هكذا دعا السيِّد المسيح تلاميذه لقراءة سفر دانيال 9: 27 ليتأكَّدوا من خراب الهيكل اليهودي. فما هي رِجْسَة الخراب؟
أوّلا: يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: أنها تعني الجيش الذي به خربت أورشليم، نقلًا عن كلمات السيِّد نفسه: {ومتى رأيتم أورشليم محاطة بجيوش، فحينئذ اِعلموا أنه قد اِقترب خرابها}+ لو21: 20 فقد دخلت الأممُ الهيكل ودنَّسته، بل حطَّمته تماما، وكان ذلك علامة نهاية الملكوت الحرفي، وقيام الملكوت الروحي.
ثانيًا: يقول القديس جيروم: يمكن أن تفهم عن تمثال قيصر الذي وضعه بيلاطس في الهيكل أو (تمثال) هادريان الفارسي الذي أُقيم في قدس الأقداس... في العهد القديم يُدعى التمثال بالرِّجْسة، وقد أضيفت كلمة "خراب" لأن التمثال قد وُضع في وسط الهيكل المهجور. وقد أخذ القديس يوحنا الذهبي الفم بهذا الرأي أيضا.
ثالثًا: يرى القديس هيلاري أسقف بواتييه أن هذه الرِجْسَة إنّما تُشير لما يحدث في أيام ضد المسيح إذ يقول القديس: أعطى الله علامة كاملة عن مجيئه الأخير، إذ يتحدّث عن أيام ضدّ المسيح. يسمِّيها رِجْسَة إذ يأتي من هو ضدّ الله ناسبًا كرامة الله لنفسه. إنها رِجْسَة خراب لأنه يدمّر الأرض بالحروب والقتل. يقبله اليهود، فيأخذ موقف التقدّيس، وفي الموضع الذي تقام فيه صلوات القدّيسين يستقبلون الخائن كمن هو مستحق لكرامة الله. وإذ يصير هذا الخطأ شائعًا بين اليهود فينكرون الحق ويقبلون الباطل، لذلك يطلب الله (من شعبه) أن يتركوا اليهوديّة ويهربوا إلى الجبال حتى لا يعوقهم أتباعه (أتباع مُضادّ الله) ولا يؤثِّرون عليهم]- بقلم القمص تادرس يعقوب ملطي.
وتعليقي أوّلا؛ لقد تحققت نبوءة السيد المسيح عن خراب أورشليم وهيكل سليمان، سنة 70 م بعد هجوم الرومان عل المدينة بقيادة تيطس. وقد قُتِل خلاله من اليهود آلاف بعد مقاومة شديدة. والمزيد على غوغل: خراب أورشليم.
وثانيا؛ أنّ ابتعاد الإنسان عن الله؛ عن حبّ الله وحبّ القريب- الأخ بالإنسانية- وعن سائر وصايا الله، هي وراء تدهور حياته في الدنيا ووراء ذهابه إلى النار الأبدية في الآخرة. فالخيار متروك للإنسان والقرار بيده إمّا أراد الاقتراب من الله أو الابتعاد عنه؛ لن يهدي الله أحدًا ما لم يسأله النور والهداية ولن يُضِلّ الله أحدًا- حاشا الله.
الإشارة الثانية
في قول السيد المسيح: {ولِلوَقت بَعدَ ضِيق تِلكَ الأيّام تُظْلِمُ الشّمس، والقمرُ لاَ يُعطي ضَوءَه، والنُّجُومُ تَسقُطُ مِنَ السَّمَاء، وقُوّاتُ السَّمَاوات تتزعزع}+ متّى 24: 29 والإشارة إلى أشعياء 13: 10 وحزقيال 32: 7 ويوئيل 2: 10 و3: 15
وفي التفسير المسيحي- بتصرّف: [وللوقت بعد ضيق تلك الأيام؛ هذا مما يؤيد أن الضيق العظيم الفريد المتنبأ عنه هو مستقبل بعد ويحصل قبل ظهور المسيح علانية. وان قال قائل أن الضيق المذكور قد أصاب اليهود وقت حصار أورشليم من الجيش الروماني فأني أسأله: وماذا صار للوقت بعد ضيق تلك الأيام؟ لأن من الأمور المؤكدة أن العلامات المذكورة هنا لم تحصل، بل مجيء الرب نفسه بقوة ومجد عظيم لم يحصل حالًا بعد ذلك الضيق. فمِن جهة اليهود إنما كانت تلك الحادثة لهم مبتدأ الأوجاع، والمسيحيون لم يكونوا في أورشليم وقت الحصار الأخير البتة كما رأينا.
تُظْلِمُ الشمس والقمر لا يُعطي ضوءه... الآية؛ هذه العلامات تسبق ظهور المسيح بقليل. قابل هذا الكلام الرسول بطرس بما اقتبس من نبوة يوئيل النبي عن انسكاب الروح القدس (يوئيل 2: 28) ويبدأ ظهور تلك العلامات قبل حلول يوم الرب العظيم الشهير (أعمال الرسل 17:2-21؛ رؤيا يوحنّا 11:19-16) وأمّا من جهة الروح القدس فقد انسكب يوم الخمسين (بعد صعود السيد المسيح إلى السماء) ولكن لم تحصل تلك العلامات بعد لأنّ الروح القدس إذ انسكب في ذلك الوقت فلكي يبتدئ وقت النعمة، أي الوقت المقبول الذي فيه كل مَنْ يدعو باسم الرب يخلُص، ولكن بعد اختطاف الكنيسة بسبع سنين أي عند ظهور الرب تحصل تلك العلامات ثم ينسكب الروح القدس على الباقين وهم الأتقياء لجمعهم كالحنطة إلى المخزن....فكل ما سبق فأنبأ به الرب يُتممه حتما، ومع ذلك يظل مُحافظًا على أعمال يديه. نحن لا نشُكّ في وجود كلام مجازي في كلمة الله، ولكني لا أرى مجازًا في ما ورد من جهة العلامات التي ستسبق ظهور الرب بقوة ومجد عظيمَين. وفي الحقيقة حضوره هكذا هو من أعجب الأعمال]- بقلم بنيامين بنكرتن.
وتعليقي على كلام المفسِّر (نحن لا نشُكّ في وجود كلام مجازيّ في كلمة الله) هو أنّ السيد المسيح نفسه قد تكلّم أحيانا بأمثال. وقد ذكر السبب قائلًا: {مِنْ أَجْل هذا أُكَلِّمُهُمْ بأمثال، لأنّهُمْ مُبْصِرِينَ لاَ يُبصِرُون، وسَامِعِينَ لاَ يَسمَعونَ ولاَ يَفهَمُون}+ متّى 13:13
الإشارة الثالثة
في قول السيد المسيح: {وكما كانت أيّامُ نُوحَ كذلك يكون أيضًا مجيءُ ابن الإنسان}+ متّى 24: 37 والإشارة إلى آية التوراة: {فدخل نوح وبنوه وامراته ونساء بنيه معه الى الفُلك من وجه مياه الطوفان}+ التكوين 7:7 والفُلْك- بضمّ الفاء وإسكان اللام: السَّفينة.
وفي التفسير المسيحي- بتصرّف: [إنّ يوم المجيء الثاني للسيد المسيح والساعة مجهولان. ومع ذلك، سيكون معظم الناس في تلك الأيّام لا مبالين، تمامًا كما كانت الحال في أيّام نوح. ومع أنّ الأيّام التي سبقت الطوفان كانت شرّيرة جدًّا، فإنّ التركيز هنا ليس على الشرّ! فقد كان الناس يأكلون ويشربون ويتزوَّجون ويزوِّجون إلى اليوم الذي فيه دخل نوح الفلك، وجاء الطوفان وأهلك الجميع (انظر-ي لوقا 17: 26-27) وبتعبير آخر؛ عاشوا حياة روتينيّة وكأنّهم خالدون على الأرض. وعلى رغم تحذيرهم مسبقًا بقدوم الطوفان، فقد عاشوا كأنّ الطوفان لن يؤذيهم. فعندما جاء الطوفان، كانوا غير مستعدّين لتوقّيه وبعيدين عن مكان الأمان الوحيد. وهكذا سيحدث بالتّمام عندما يرجع المسيح، فلن ينجو من النّاس إلاّ الذين احتموا بالمسيح! فالمسيح هو فُلْك النَّجَاة]- بقلم وليم ماكدونالد.
وتعليقي: يستطيع القارئ غير المسيحي الاستنتاج من هذا التفسير أن الله والمسيح واحد جوهريًّا؛ إذ نجّى الله أتقياءه ممثّلين بنوح وعشيرته، هكذا ينجّي المسيح في اليوم الأخير كلّ مَن آمن واعتمد (مرقس 16:16) وقد سبق لي أن أشرت، في مقالة سابقة، إلى أن السيد المسيح هو الذي كلّم إبراهيم وموسى وسائر الأنبياء في العهد القديم قبل ظهوره بالجسد مولودًا من السيدة العذراء، بصفته كلمة الله (أي الذي من الله= ابن الله) الموجود منذ الأزل. فهو القائل لليهود: {الحَقَّ الحَقَّ أقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إبراهِيمُ أنا كائِن}+ متّى 8: 58