رأينا في القسم الأوّل استحالة أن يأمر الله بالسجود لغيره، أيًّا كان السبب، مع التفريق ما بين سجود العبادة وبين سجود الاحترام وغيره. وقد تضمّن القسم الأوّل وجهة نظري معزَّزة بأدلّة قاطعة من الكتاب المقدَّس. أمّا في هذا القسم فسوف أعرض أوّلًا النصوص القرآنية التي نسبت إلى الله أمرًا بسجود الملائكة لآدم، مع تفسير كلّ من الإمامَين الطبري وابن كثير. ثم أعرّف معنى الشِّرك بالله، وفق المنظور الإسلامي، وإن حرص مؤلِّف القرآن على النهي عن الشرك. وتاليًا وأخيرًا؛ أحاول حلّ لغز السجود القرآني لآدم، لأنّ هذا السجود غريب عن الكتاب المقدَّس. فإنْ كان هذا السجود من جديد مؤلِّف القرآن فهل اتّفق أوّلًا مع قداسة الله؟ وثانيًا: هل نفع البشرية بشيء؟
الأمر المنسوب إلى الله في القرآن بسجود الملائكة لآدم
نَسَبَ مؤلِّف القرآن إلى الوحي الإلهي مقولة نصّت على أنّ الله (أمر ملائكته بالسجود لآدم) مؤكِّدًا عليها في سُوَر عدّة. عِلمًا أنّ أوّل ذِكر لآدم في الكتاب المقدَّس قد ورد في بداية الخلق، تحديدًا في الأصحاح الثاني من سفر التكوين، في وقت لم يكن للملائكة دور في قصّة الخلق، باستثناء إبليس- الملاك المتمرّد على الله- ووفق ما تقدَّم؛ رأينا أنّ من المستحيل صدور أمر من الله بالسجود لغيره، بل عاقب الساجدين لغيره من بني إسرائيل عقابًا شديدًا؛ لأنّ في السجود لإله آخر أو إلهة، مع تقديم ذبائح، تمهيدًا لارتكاب الخطيئة بأنواعها. بالإضافة إلى أنّ الله كان مزمِعًا أن يتمّ الخلاص من نسل هذا الشعب {لأَنَّ الْخَلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُود}+ يوحنّا 4: 22 فتحقق الخلاص فعليًّا بمجيء السيد المسيح مولودًا من السيدة العذراء وهي من نسل داود النبي والملك. لهذا السبب ركّز الله على هذا الشعب فأخرجه من مصر واعتنى به ودافع عنه وعاقبه على أخطائه.
إليك الآن المقولة القرآنية المعنيّة وتأكيدات عليها، مع تفسير إسلامي مختصر:
وإذ قلْنا لِلمَلائِكة اسجُدُوا لِآدَمَ فسَجَدُوا إِلَّا إبليسَ أَبى واستَكبَرَ وكان مِن الكافِرِين- البقرة34
وتجدها حرفيًّا تقريبًا في طه116 باستثناء (واستَكبَرَ وكان مِن الكافِرِين) هو في أغلب الظّنّ مراعاة للفواصل القرآنية التي قابلت القوافي في القصيدة. وتجدها في الأعراف11 والإسراء61 والكهف50 والحِجْر28-31 وفي ص 71-74
وفي رأيي أنّ إبليس كان على حقّ في هذه المقولة، لأن معرفته بأنّ السجود لله وحده فاقت معرفة الملائكة قرآنيًّا. لكني ذهبت إلى تفسير الطبري البقرة34 فاقتطفت التالي: [وتأويل قوله: أَبَى، يعني جلّ ثناؤه بذلك إبليس، أنه امتنع من السجود لآدم فلم يسجد له. وَاستَكْبَرَ، يعني بذلك أنه تعظَّم وتكبَّر عن طاعة الله في السجود لآدم] انتهى
وفي تفسير ابن كثير: [وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتنّ بها على ذرّيته حيث أخبر أنه تعالى أمَرَ الملائكة بالسجود لآدم] انتهى
وتعليقي: لعلّ من المعلوم أنّ هذين المفسِّرَين مُخْلِصان للقرآن، لم يشكّا في استحالة الوحي به من الله. لذا غاب عن تفكير كل منهما أنّ الله منزَّه عن أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم، ما يعني شِركًا بالله! فأيّة (كرامة عظيمة) يعطي الله مخلوقًا على حساب منزلته السامية؟ في وقت لا أحد يُنكِر أنّ مؤلِّف القرآن قد نهى عن الشِّرك بوضوح وحذّر منه (النساء48 والمائدة72) بل اعتبره ظلمًا عظيمًا (لقمان13) واعتبر المشركين نجَسًا (التوبة28) واعتبَرَه أكبر الكبائر- في حديث رواه البخاري- فكيف أَمَرَ الله الملائكة بالسجود لآدم ومعلوم أنّ السجود لغير الله شِركٌ به؟
ومن جهة أخرى؛ لقد أخطأ آدم إذ عصى أمر الله، أمّا الملائكة فأطاعت الله إلّا إبليس، لذا ينبغي أن يسجد آدم للملائكة، في حساب القرآن، ليس العكس.
والأهمّ؛ ليس من حقّ مؤلِّف القرآن تكفير غيره، بما ترتّب على التكفير من تبعات، ولا من حقّه اعتبار المشركين نَجَسًا! لأنّ دعوته خاصّة به وبأتباعه وإن ادّعى بعالميّتها. فالعالميّة غاية كل كاتب وفنّان. وقد قيل: (آمِنْ بالحجر لكن لا تضربني به) فصحيح أن وثيقة حقوق الإنسان في عصرنا قد كفلت حرّيّة المعتقد، لكنّها في الوقت عينه لم تكفل لأحد إجبار الآخرين على قبول ذلك المعتقد. لعلّ من المعلوم أيضًا أن المجتمع الذي عاصره مؤلِّف القرآن كان متعدد الثقافات ومتنوّعًا. وقد ظهر أنبياء كذبة في عصره، مثالًا: مسلمة بن حبيب، لكن لم يُنقَل عن ذلك العصر أن أحدًا منهم جاهر بدعوته بالسيف إلّا مؤلِّف القرآن.
وتاليًا؛ نقرأ عن الشرك: [معنى الشرك شرعًا: قال ابن سعدي- في تيسير الكريم الرحمن 2\499: حقيقة الشرك أن يُعبَد المخلوق كما يُعبَد الله، أو يُعظَّم كما يعظَّم الله، أو يصرَف له نوع من خصائص الربوبية والإلوهية. وقال الدهلوي- رسالة التوحيد ص32، 33: إن الشرك لا يتوقّف على أن يعدِل الإنسان أحدًا بالله، ويساوي بينهما بلا فرق، بل إن حقيقة الشرك أن يأتي الإنسان بخِلال (1) وأعمال- خصّها الله تعالى بذاته العلية، وجعلها شعارًا للعبودية- لأحد من الناس، كالسجود لأحد، والذبح باسمه، والنذر له، والاستعانة به في الشدة، والاعتقاد أنه ناظر في كل مكان، وإثبات التصرف له، كل ذلك يثبت به الشرك ويصبح به الإنسان مُشرِكا]- عن ويكيبيديا: شرك بالله.
وبالمناسبة؛ قال الأخ رشيد في إحدى حلقات "سؤال جريء" إنّ القرآن سوبر ماركت تجد فيه كلّ شيء. فقلت في نفسي: والغريب أنّك تجد فيه الشيء ونقيضه.
محاولة حلّ لغز السجود القرآني لآدم
ربّما فَهِمَتْ طائفة ما من ذلك الزمان أنّ آدم هو المقصود في بداية رسالة بولس الرسول إلى العبرانيّين 1: 6 {وأيضًا متى أدخِل البِكْرُ إلى العالم يقول: ولتسجُدْ له كلّ ملائكة الله} فنقل عنها مؤلِّف القرآن هذه الفكرة واكتتبها ممّا كان يُملى عليه بُكْرَةً وأَصِيلا (الفرقان5) مُعجَبًا بها، كإعجابه بحُلْم يوسف. لكنّ رسولنا بولس قَصَدَ بالبكر السيد المسيح ولم يقصد به آدم! والدليل قاطع في رسالته نفسها ابتداء بأوّلها: (اَللهُ، بَعدما كَلَّمَ الآبَاءَ بالأنبياء قَدِيمًا، بأَنواعٍ وطُرُق كَثِيرَة، كَلَّمَنا في هذِهِ الأيّام الأخِيرة في ابنِه...} كذا قصد في رسالة أخرى: {لأنّ الذين سَبَق فعَرَفَهُمْ سبق فعيَّنهم ليكونوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِه، لِيَكُونَ هُوَ بِكْرًا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِين}+ روما 8: 29
لذا فإنّ آدم هو بكر الخليقة القديمة، أمّا السيد المسيح فهو بكر الخليقة الجديدة. وبكورية المسيح، حسب التفسير المسيحي (2) هي لحسابنا- نحن البشر- إذ صار المسيحُ آدمَ الثاني، أي رأس الخليقة الجديدة. والخليقة الجديدة: المؤمنون بالسيد المسيح فاديًا ومخلِّصًا لينالوا الحياة الأبديّة والمؤمنات: {هكذا أحبَّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية}+ يوحنّا 3: 16 عِلماً أنّ المسيح هو البكر في القيامة أيضًا بجسد لا يموت ثانية، وفي دخوله بالجسد للمجد.