ما نزال في الأصحاح الثاني والعشرين من إنجيل ربّنا يسوع المسيح بتدوين متّى البشير. وقد ورد فيه أيضًا: {وسأله واحد منهم، وهو ناموسيّ، ليجرّبه قائلا: يا معلِّم، أيّة وصيّة هي العظمى في الناموس؟ فقال له يسوع: تحبّ الرَّبَّ إلهك مِن كلّ قلبك، ومِن كلّ نفسك، ومن كلّ فِكْرك. هذه هي الوصيّة الاولى والعظمى. والثانية مثلها: تحبّ قريبك كنفسك. بهاتين الوصيّتَين يتعلّق الناموس كلّه والانبياء} ومعنى الناموس: الشريعة. وفي جواب السيد المسيح إشارتان إلى الوارد في التوراة؛
الأولى: {اِسْمَعْ يَا إِسرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِد. فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ ومِنْ كُلِّ نَفسِكَ ومِنْ كُلِّ قُوَّتِك. ولْتَكُنْ هذِهِ الكلِمَاتُ الَّتِي أَنا أُوصِيكَ بها اليَومَ على قلبك، وقُصَّها على أَولادِك، وتَكَلَّمْ بها حِينَ تَجْلِسُ في بَيْتِك، وحِينَ تَمشي في الطَّرِيق، وحِينَ تَنامُ وحِينَ تَقُوم، واربُطْها عَلاَمَةً عَلَى يَدِك، ولْتَكُنْ عَصَائِبَ بَيْنَ عينيك، واكْتُبْهَا على قَوَائِمِ أبواب بَيْتِكَ وعلى أبوَابك}+ التثنية 6: 4-9
وتعليقي: أنّ شعار التوحيد {الرَّبّ إِلهنا رَبٌّ واحِد} قد جاءت به التوراة قبل مجيء السيد المسيح بحوالي 1500 سنة! لذا عاد فضْل معرفة الإنسان بالله إلى الكتاب المقدَّس وتحديدًا التوراة، كذا عاد إليها فضل توحيد الله ما قبل غيرها بزمان طويل نسبيًّا. فلا يقولنّ لي أحد أنّ هناك نبيًّا، أو رسولًا، عَلّم البشريّة التوحيد أنْ لا إله إلّا الله- الإله الواحد- قبل التوراة.
والثانية: {لا تَنتَقِمْ وَلاَ تَحقِدْ عَلَى أَبناءِ شَعْبِك، بَلْ تُحِبّ قَرِيبَكَ كنَفْسِك. أَنا الرَّبّ}+ سِفر اللاويّين 19: 18 وقد بحثت في حلقات سابقة في قول الرب {لي النقمة والجزاء} وفي وصاياه المقدَّسة التالية: محبّة القريب (أي الأخ والأخت بالإنسانيّة) والتعامل مع الأجنبي باعتباره كالوطني ومحبّة الأعداء. لذا أنتقل إلى الإشارة الأخيرة.
ـــ ـــ
الإشارة الرابعة
في الرواية التالية: {وبَينما الفَرِّيسيُّونَ مُجتمِعون سألَهُم يَسوعُ: ما قولُكُم في المَسيح؟ إِبنُ مَنْ هوَ؟ قالوا له: إبنُ داود! قال لهُمْ: إذًا، كيفَ يَدعوهُ داودُ رَبًّا، وهو يقول بِوَحْي مِنَ الرُّوح: قالَ الرَّبُّ لِرَبّي: اَجلِسْ عَنْ يَميني حتّى أجعَلَ أعداءَكَ تَحتَ قَدَمَيك. فإذا كان داودُ يدعو المَسيحَ رَبًا، فكَيفَ يكونُ المَسيحُ اَبنَه؟ فما قدِرَ أحدٌ أن يُجيبَهُ بكَلِمَة، ولا تجرَّأَ أحد مِنْ ذلِكَ اليوم أنْ يَسألَهُ عن شيء}- حسب الترجمة المشتركة (وفي ترجمة فان دايك: مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ) أشار الربّ يسوع إلى بداية المزمور 110: 1 {قالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ}- حسب ترجمة فاندايك. فالمهمّ أنّ المعنى واحد، كما أشرت في مناسبة سابقة، مهما اختلفت الترجمة إلى العربيّة وغيرها.
فيوم قرأت هذه الآية ذهبت بتواضع إلى التفسير المسيحي لكي أعرف معناها، لأنّي لا أدّعي فهم الكتاب المقدَّس كلّه حرفيًّا وروحيًّا. فإن كنت- أنا الدارس طوال عمري والحافظ بما وهبني الله من ذاكرة قويّة- ذاهبًا إلى التفسير، عِلمًا أنّي مسيحي أبًا عن جدّ، فكيف اعترض النّقّاد على مقالة من مقالاتي أو قصيدة، في شأن مسيحيّ صِرف، بدون قراءة الإنجيل والتوراة وسائر أسفار الأنبياء؟ على ماذا تدلّ انفعالاتهم والافتراءات والأحكام المسبقة؟ لن أدين أحدًا، لكنّي أترك تقدير شؤونهم للمُنصف-ة من ذوي الألباب وذواتها.
ففي التفسير المسيحي- بتصرّف: [عندئذٍ اقتبس الربّ من المزمور 110: 1 حيث قال داود {قال الربّ لربّي... الآية} فكلمة {الربّ} الأولى تشير إلى الله الآب، أمّا {الربّ} الثانية فتشير إلى المسيح. فداود إذًا تكلّم عن المسيح باعتباره ربًّا له. وإذ سأل يسوع قائلا: إن كان داود يدعوه ربًّا فكيف يكون ابنه؟ فالجواب هو أنّ المسيح هو ربّ داود وابن داود أيضًا، فهو الله وهو إنسان أيضًا؛ هو ربّ داود لأنّه الله، وهو ابن داود كإنسان. فلو كان الفرّيسيّون قابلِين للتعليم لأدركوا أنّ يسوع هو المسيح، ابن داود بحسب تسَلسُل نَسَب مريم، وابن الله كما أظهرت أعمالُه وكلماتُه وطُرقُه]- بقلم وليم ماكدونالد.
ومعلوم أنّ السيدة مريم العذراء مِن نسل داود- مِن سِبْط يهوذا- حسب لوقا 1: 32 و69 ورومية 1: 3 وتيموثاوس الثانية 2: 8 وفي الرسالة إلى العبرانيّين 7: 14
وإليك التالي من آراء آباء الكنيسة الأوائل- ضمن تفسير القمّص تادرس يعقوب مشكورًا- لكي يطّلِع القارئ-ة على انسجام الفهم المسيحي، أيًّا كانت جنسيّة المسيحي وطائفته، فليس الانسجام مقتصِرًا على معاني الترجمات. فكتب القمّص في البداية- بتصرّف:
[إن قاوم قادة الفكر اليهودي الملكوت بالطريق كلّه، فإن السيِّد أفحمهم بكشفه عن حقيقة شخصه بصفته ربّ داود، إذ سأل الفرّيسيّين: {ماذا تظنّون في المسيح... الآية} لم يستطع أحد أن يجيبه إذ كشف لهم أنّ المَسِيّا ابن داود إنّما هو ربُّه الذي يخضع مقاوموه تحت قدميه. وكأن السيِّد حذَّرهم من المقاومة، إذ جاء ليُخلِّص لا ليدين. لقد فتح الباب لقبولهم حتى لا يوجدوا في يوم الرب العظيم كأعداء مقاوِمِين] ثمّ استشهد بالتالي:
[المسيح هو ابن داود وربُّه. إنّهُ ربُّ داود على الدوام وابنُهُ حسب الزمن. هو ربّ داود المولود من الآب، وابن داود المولود ابنًا للعذراء مريم الذي حُبل به منها بالروح القدس. فلنتمسَّك بكليهما بشدَّة. فلو لم يَهَبْنا ربّنا يسوع المسيح أن يصير إنسانًا لَهَلَكَ الإنسان]- القديس أغسطينوس.
وقد قصد القدّيس بقوله "لَهَلَكَ الإنسان" الهلاك الأبدي.
واستشهد القمّص بالقول التالي أيضا:
[الكلمة معنا بكونه الله وقد أخذ شكلنا ولم يحتقر بشريَّتنا المتواضعة حتى يُخلِّص مَن هُمْ تحت السماء]- القديس كيرلّس الكبير.
وقد قصد القدّيس بقوله "الكلمة" كلمة الله: يسوع المسيح.