تعرضت خلال مطالعة سورة القلم لصدمات عدّة، ذكرت منها التالي في القسم السابق؛
الأولى أن اسم السورة بعيد عن غالبية محتواها، كذا سورة العلق.
والثانية: لملمة أجزاء السورة من مكة والمدينة خلال فترات مختلفة ما لم يضمن انتماء جميع الأجزاء إليها، بدليل وجود المتشابهات؛ والمتشابه في القرآن عمومًا معترف به إسلاميًّا، شأنه شأن المُحكَم، وقد حصل في القرآن تشابه في اللفظ وفي المعنى وفي كليهما، لكنّ الجدير ذكره أنّ التكرار عند أهل الأدب ليس من البلاغة!
مثالًا؛ لا تُطِعْ:
فلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِين8 ... ولا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مهِين10
مثالًا آخر؛ قَالُوا إِنَّا، إنّا كُنّا:
فلَمَّا رَأَوها قالُوا إنّا لَضَالُّون26 ... قالُوا سُبحَانَ رَبِّنا إنّا كُنّا ظالِمِين29 ... قالوا يا وَيلَنا إنّا كُنَّا طاغِين31
ويوجد دليل آخر يستطيع المدقّق في القراءة رصده: الانتقال المفاجئ من موضوع إلى آخر، كقوله (سنسِمُهُ على الخرطوم) الذي تلاه مباشرة قوله (إنّا بلوناهم...) ممّا يأتي بعد قليل.
والثالثة: القسم بمخلوقات الله عوض القسم بالله. عِلمًا أنّ السيد المسيح قد نهى عن كليهما: {قيل للقدماء لا تحنَثْ بل أوفِ للربّ اقسامك. وأمّا أنا فأقول لكم لا تَحلِفوا البَتّة لا بالسماء لأنها كرسي الله، ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه، ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم. ولا تحلف برأسك لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء. بل لِيَكُنْ كلامُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لا لا. وما زاد على ذلك فهو من الشِّرِّير}+ متّى 5: 33-37
ففي تفسير القمّص تادرس يعقوب ملطي:
[لم يكن ممكنًا في العهد القديم أن يمتنع المؤمنون عن القسم وهُمْ في الطفولة الروحيّة، لهذا طالبهم ألّا يحنثوا بل يوفوا للرب أقسامهم. أحيانًا كان يأمرهم أن يقسموا به ليس لأنه يودّ القسم، وإنما علامة تعبّدهم له وحده دون الآلهة الغريبة، بهذا كان يمنعهم من القسم بآلهة الأمم المحيطين به. أمّا في العهد الجديد فإذ دخلْنا إلى النضوج الروحي أمرنا السيّد المسيح ألّا نُقسِمَ مطلقًا بل ليكن كلامنا نعم نعم ولا لا...] انتهى.
وإليك أيضًا تفسير القس أنطونيوس فكري:
[سمح الله لليهود في طفولتهم الروحية بأن يستخدموا اسمه في القسم؛ أوّلًا: حتى يرتبطوا به ولا يرتبطوا بالآلهة الوثنية إذ يقسمون بها. ثانيًا: حتى لا يحنثوا بوعودهم بل يلتزمون بأن يوفوا أقسامهم أمام الرب. وكان اليهود حتى يتجنبوا شرّ القسم بالله وحتى لا يعاقبهم الله إن حنثوا بما أقسموا عليه، قد سمحوا بالقسم بالسماء وبالأرض وبأورشليم وبرأس الإنسان واعتبروا أن هذه الأشياء لا علاقة لها بالله. ولكن السيد المسيح هنا يعلّمنا أن كل خليقة الله لها علاقة بالله. وفي العهد الجديد ما عاد أحد يعبد آلهة غريبة، وبالتالي ما عاد القسم بالله علامة التعبد لله، فلا داعي إذًا لأن يقسم أحد بالله، خصوصًا أن اسم الله أسمى مِن أن نتعامل به في الأمور المادية العالمية، بل يذكر في العبادة فقط. والمسيحي له سمة مميزة، هي أنه لا يُقسم بل يكون كلامه نعم ولا = أي الصدق فقط. وما زاد عن الصدق، أو قلّ عنه، فهو كذب، والكذب هو من الشرير وهو {كذّاب وأبو الكذّاب}+ يوحنّا 44:8] انتهى.
والرابعة: تعيير المولود من زنا بكلمة "زنيم" وقد ورد معناه في الشعر:
زنيمٌ ليس يُعرَف مَنْ أبوهُ – بغيُّ الأمِّ ذو حَسَب لئيمِ
وهذا ممّا ورد في تفسير القرطبي. وقد ورد فيه التالي أيضا- بتصرّف:
[ومعظم المفسِّرين على أن هذا نزل في الوليد بن المغيرة.
وقال حسّان بن ثابت:
وأنت زنيمٌ نِيطَ في آل هاشم – كما نيطَ خلفَ الراكبِ القدحُ الفردُ
قلت: وهذا هو القول الأول بعينه. وعن علي بن أبي طالب أنه الذي لا أصل له؛ والمعنى واحد... وقالت ميمونة: سمعت "النبي" يقول: (لا تزال أمّتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله بعقاب) وقال عكرمة: إذا كثر ولد الزنا قحط المطر.
قلت: أما حديث ميمونة وما قاله عكرمة ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش زوج "النبي" قالت: خرج "النبي" يومًا فزعًا محمرًّا وجهه يقول: (لا إله إلا الله. ويلٌ للعرب من شرّ قد اقترب. فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه. وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها. قالت: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ (قال: نعم، إذا كثر الخبث) خرّجه البخاري. وكثرة الخبث: ظهور الزنا وأولاد الزنا؛ كذا فسّره العلماء...] انتهى
وهذا المنسوب إلى الله يتعارض مع منطق الله المعروف في الكتاب المقدَّس، ممّا ورد بيانه في ج6 من المقالة، بل يتعارض مع المنطق الإنساني أيضا؛ تخيّل أنّك بنيت حائطًا مائلًا ثمّ عيّرتَه على ميلانه، مَن يَرَ هذا الحائط يعيّر بانيه لا الحائط. وهذا التعيير في النهاية من الأدلّة على أنّ القرآن من تأليف بشري، لم يمتّ بأيّة صِلة إلى الله، بل (في نسبته إلى الله إساءة إلى الله)- في رأي السيد أحمد القبانجي المذكور فيما سبق.
والصدمة الخامسة- مِن جديد هذه المقالة- مِن قول المؤلِّف (سنسِمُهُ على الخرطوم)- القلم:16 وقد اعتاد قرّاء مقالاتي على كتابة مقتطفات من تفسير القرآن قبل إبداء رأيي في التفسير، منها التالي- بتصرّف:
[اختلف أهل التأويل في تأويل "قوله تعالى" فقال بعضهم؛ معناه: سنخطِمُه بالسيف، فنجعل ذلك علامة باقية، وسِمَة ثابتة فيه ما عاش... وقال بعضهم: معنى ذلك: سنسمه سِمَة أهل النار: أي سنسوِّد وجهه]- الطبري.
ملاحظة أولى: ظنّ الطبري وغيره أنّ هذا "قوله تعالى" ليس قول مؤلِّف القرآن.
ملاحظة ثانية: عن معجم المعاني الجامع؛ خَطَمَ الوَلَدَ: ضَرَبَ أَنْفَهُ، ألصَقَ به عارًا ظاهرا. سِمَة: عَلَامة، تأشيرة.
[قال ابن عباس: معنى سنسِمُه سنخطمه بالسيف. قال: وقد خُطِم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف فلم يزل مخطومًا إلى أن مات. وقال قتادة: سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها؛ يقال: وسمته وسمًا وسمة إذا أثرت فيه بسِمَة وكَيّ. وقد قال تعالى: (يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه)- آل عمران:106 فهذه علامة ظاهرة. وقال تعالى: (ونحشر المجرمين يومئذ زُرْقا)- طه:102 وهذه علامة أخرى ظاهرة. فأفادت هذه الآية علامة ثالثة وهي الوسم على الأنف بالنار؛ وهذا كقوله تعالى: (يُعرَف المجرمون بسيماهم)- الرحمن:41 قاله الكلبي وغيره. وقال أبو العالية ومجاهد: سنسمه على الخرطوم أي على أنفه، ونسوّد وجهه في الآخرة فيُعرَف بسواد وجهه. والخرطوم: الأنف من الإنسان.
وقال النضر بن شميل: المعنى سنحده على شرب الخمر، والخرطوم: الخمر، وجمعه خراطيم، قال الشاعر:
تظل يومك في لهو وفي طرب – وأنت بالليل شرّاب الخراطيمِ
وقال آخر: أبا حاضر مَن يزنِ يُعرَف زناؤه – ومَن يشرب الخرطوم يصبح مسكّرا]- تفسير القرطبي.
ملاحظة ثالثة: عجيب أمر القرطبي إذ استشهد بما نزل فيما بعد لتفسير ما نزل أوّلا، فسورة القلم "نزلت" قبل "الرحمن" وهذه قبل "طه" وهذه قبل "آل عمران" كما استشهد في مناسبات عدّة بشِعر قِيلَ بعد ظهور القرآن كحجّة لدعم شيء ما في القرآن.
[ثم أوعده سبحانه فقال "سنسمه على الخرطوم" أي سنسمه يوم القيامة بسِمَة تشوّه خلقته فيعرف مَن رآه أنه من أهل النار وإنما خصّ الأنف لأن الإنسان يعرف بوجهه والأنف وسط الوجه وهذا على عادة العرب فإنهم يقولون شمخ فلان بأنفه وأرغم الله أنفه...
وقيل معناه سيجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم...
وقيل إن الخرطوم الخمر فالمعنى سنسمه على شرب الخمر؛ قال الشاعر:
أبا حاضر مَن يزنِ يُعرَف زناؤه – ومَن يشرب الخرطوم يصبح مسكّرا]- تفسير مجمع البيان للطبرسي.
ملاحظة رابعة: واضح أنّ التفسير الشّيعي- مثالًا: مجمع البيان- لم يختلف جوهريًّا عن التفسير السّنّي، لكنّي غالبًا ما أتيت بالتفسير السّنّيّ لأنه أوسع انتشارًا على الانترنت. فالملاحظ أيضًا استشهاد الطبرسي والقرطبي ببيت الشعر عينه، عِلمًا أنّ قائله هو الأبيرد الرياحي [الأبيرد بن المعذر... بن تميم؛ شاعر فصيح بدوي، من شعراء الإسلام وأوّل دولة بني أمية]- حسب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني ج13 قاله لـ [صبرة بن جرير وكنيته أبو حاضر، كان أجمل بني تميم]- حسب "أنساب الأشراف" للبلاذري.
وتعليقي أوّلًا على قوله المنسوب إلى الله (سنسِمُه) هو أنّ مؤلِّف القرآن حاول أنسنة الله، أي جعل الله شبيهًا بالإنسان، يستخدم يده لكي يخطم أنف الرجل بالسيف. هذا في حال اعتبار معنى نسِم: نخطم، وهذا على أرض الواقع- مثالًا: غزوة بدر- أمّا إذا كان المعنى تسويد وجه الرجل يوم القيامة فإنّ الأرواح هي التي تصعد إلى الله لا الأجساد، لكن في احتماليّة أن يبعث الله الرجل من جديد، في الآخرة، فيضع على أنفه سِمة أهل النار، إساءة إلى عِلم الله العليم، عَلّام الغيوب الذي يعرف مسبقا أهل الجنّة وأهل النار أيضا، بحسب سلوك كل إنسان منذ ولادته حتّى مماته.
فقد أعطانا السيد المسيح صورة عن أهل القيامة: كملائكة الله- في ضوء جوابه على سؤال طائفة الصّدّوقيّين اليهودية: {ففي القيامة لِمَن من السَّبعة تكون زوجة؟ فإنها كانت للجميع! فأجاب يسوع وقال لهم: تضِلّون إذ لا تعرفون الكُتُب ولا قوّة الله. لأنهم في القيامة لا يُزَوِّجُونَ ولا يَتَزَوَّجُون، بل يكونون كملائكة الله في السماء}+ متّى 22: 28-30 ومرقس\ الأصحاح الـ 12 ولوقا\ 20
وتعليقي ثانيًا على قوله (سنسمه على الخرطوم) بمعنى الخطم وهذا المعنى هو الغالب؛ شاهد-ي حوالي 9 دقائق على يوتيوب برنامجًا تحت عنوان: آية وتعليق- الحلقة الأولى: آيات التهديد في القرآن ج1
حاشا الله من أيّ افتراء على صفة من صفاته السامية؛ المحبّة، القداسة، الحكمة، العِلم، الرّحمة، العدل. ففي محاولة أنسنته إساءة إليه، لأنّ صفاته في منتهى الرّقيّ مطلقة وغير محدودة، بينما صفات الإنسان لن ترقى إلى صفة واحدة من صفات الله ومعلوم أنّها نسبيّة ومحدودة. فشتّان ما بين تأنّس الله (اتّخاذه جسدًا طاهرًا ظاهرًا به- شخص السيد المسيح- خاليًا من خطيئة ونقص وعيب) وبين محاولة أنسنته [إِذِ الجَمِيعُ أخطأوا وأعوَزَهُمْ مَجدُ الله، مُتبرِّرِينَ مَجّانًا بنِعمَتِهِ بالفِداء الَّذي بيَسُوعَ المَسِيح، الّذي قَدَّمَهُ اللهُ كَفّارةً بالإيمان بدَمِه، لإظهار بِرِّه، مِنْ أجْلِ الصَّفْح عن الخطايا السَّالِفة بإمهالِ الله]+ رومية 3: 23-25
فقول قتادة: [سنسِمُ على أنفه...] أي نضربه على أنفه بآلة حادّة، كالسيف، فتبقى عليه علامة لا تفارقه مدى الحياة، يدلّ على فِعل بشريّ صِرف. وهذا ما ذكّرني بحقل، في شهادة الجنسيّة العراقية التي ما تزال معي حتى اليوم، تسلسله 4 تحت عنوان: العلامات الفارقة، تدوَّن فيه سِمة، مثل السِّمة القرآنية المذكورة وغيرها، لمزيد من التأكّد من شخصيّة حاملها.
عِلمًا أنّ الصدمة الخامسة ليست الأولى من نوعها؛ فقد مرّ بنا في مطالعة سورة العلق قول مؤلِّف القرآن في أبي الحكم بن هشام: (كلّا لئن لم ينتهِ لنسفعًا بالنّاصية)- العلق:15
ويستطيع القارئ-ة تصفّح تفسير كلّ من المدّثّر والمسد والكوثر وغيرها للعثور على الإساءة عينها إلى قدر الله وقدسيّته ونزاهته ممّا في الكتاب المقدَّس:
{وكأبناء طائِعين، لا تَتبَعوا شَهَواتِكًم ذاتَها الّتي تَبِعتُموها في أيّام جَهالَتِكُم، بَلْ كونوا قِدِّيسينَ في كُلِّ ما تَعمَلونَ، لأنَّ اللهَ الّذي دَعاكُم قُدُّوس. فالكِتابُ يَقولُ: كونوا قِدِّيسينَ لأنِّي أنا قُدُّوسٌ}+ 1بطرس 1: 14-16
والمقصود بالكتاب العهد القديم؛ انظر-ي أيضًا سِفر اللاويّين 11: 45 و19: 2 و20: 26
{مَنْ لا يَخافُكَ يا رَبّ؟ مَنْ لا يُمَجِّدُ اسمَك؟ قُدُّوسٌ أنتَ وحدَك: جميعُ الأُمَمِ ستَجيءُ وتَسجُدُ بَينَ يدَيكَ لأنَّ أحكامَكَ العادِلَةَ ظهَرَتْ لِكُلِّ عَين}+ رؤيا يوحنّا 15: 4
والصدمة السادسة التي سأختم بها، لأنّ قلبي ضعيف لا يتحمّل المزيد، هي من قوله: (إنّا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِين)- القلم:17
فقد انتقل فجأة من وسم الوليد بن المغيرة على أنفه إلى امتحان مشركي قريش (امتحنّا أهل مكة بالقحط والجوع. والجنّة: البستان)- تفسير كلّ من البغوي والجَلالَين.
وتعليقي: يدلّ هذا الانتقال على ضعف الحبكة الموضوعيّة في القرآن.
أمّا بعد فأيّ بستان قصد؟ أجنّة عدن أم إحدى الجنات التي (تجري من تحتها الأنهار) أم غيرها؟ مَن أصحابها؛ هل مِنهم العشرة "المبَشَّرون" بالجنّة القرآنيّة، هل "بُشِّروا" بها قبل "نزول" سورة القلم؟ لا أدري، كاد مخّي يتوقّف عن التفكير، خير للمطالع قراءة التفسير: [كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من صنعاء. قال الكلبي: كان بينهم وبين صنعاء فرسخان؛ ابتلاهم الله بأن أحرق جنّتهم. وقيل: هي جنة بضوران، وضوران على فرسخ من صنعاء]- تفسير القرطبي. لكنّ اسم البلد [ضَرَوان] حسب تفسير كل من البغوي وابن عاشور. أمّا الفرسخ (ج: فراسخ) مقياس قديم من مقاييس المسافة، يقدَّر بثلاثة أميال، والميل الواحد ~ 1.6 كيلومتر.
فتعليقي تاليًا؛ هل عرف المسلمون هويّة هذه الجنّة وأصحابها بدون قراءة التفسير أم انّ القرآن غامض بدونه؟ حاشا الله من تضليل الناس بغموض في أيّة رسالة من رسائله إليهم وحاشاه من الوحي بالغاز عجز عن حلّ بعضها المفسِّرون ولا سيّما الحروف المقطَّعة.
ـــ ـــ
مفاجأة سورة القلم: الرحمن يكشف عن ساقه
هل الله روح أم إنسان فيكشف عن ساقه؟ إليك ما قال مؤلِّف القرآن: (يومَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ويُدعَونَ إلى السجود فلا يستطيعون)- القلم:42 إنّها لمفاجأة من عيار ثقيل؛ فكم صدع النّقّاد الإسلاميّون رؤوس المسيحيّين بأن تجسّد الله بشخص السيد المسيح (افتراء على الله، كيف تنسبون إليه طبيعة بشريّة فيأكل ويشرب وينام ويُصلَب... إلخ) لذا فإنّ المسيحيّين (مفترون، ضالّون) وغير ذلك. وكان الغباء واضحًا في نقدهم لأنّهم لم يقرأوا الكتاب المقدَّس بالاستعانة بتفسير مسيحي، كما يفعل الكاتب الآن مستعينًا بتفاسير من الطبري وغيره، إنّما فسَّروا على أهوائهم وفهموا ما أرادوا به افتراء على الكتاب المقدَّس وعلى المسيحيّين، بدون وجه حقّ وبدون أن يسألوا المسيحيّين عن سبب إيمانهم مستعدّين دائمًا لمجاوبة كلّ مَن يسألهم عن سبب الرَّجاء الذي فيهم (1بطرس 3: 15) وإيمانهم صحيح منذ فجر المسيحيّة وراسخ ولا غبار عليه! لأنّ وحدانية الله نابضة في إيمانهم، قالوا ما علَّمهم الكتاب المقدَّس عن السيد المسيح: إنّ للمسيح طبيعتين؛ إلهية وإنسانيّة ما عدا الخطيئة، إنّ الله والمسيح واحد: {أنا والآبُ واحد}+ يوحنّا 10: 30 وقال له المجد: {اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رأى الآبَ... أَنِّي أَنا في الآب والآب فِيَّ! الكلامُ الَّذي أكَلِّمُكُمْ بِهِ لَستُ أتكلّمُ به مِنْ نَفسِي، لكِنَّ الآبَ الحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعمَلُ الأعمَال}+ يوحنّا\14
أمّا مؤلِّف القرآن فقد عجز عن بيان حقيقة الله التي في الكتاب المقدَّس أو تجاهلها.
شكرًا لله إذ أعلنها في الكتاب المقدَّس بأدلّة واضحة وبراهين قاطعة. أمّا تفاصيل اتّحاد طبيعتَي المسيح، بشكل الصليب في نظري، فواضحة في الإنجيل لذوي الألباب وذواتها، بإرشاد الرُّوح القدس، وإلّا فلا بدّ من استعانة الباحث-ة عن الحقّ بتفسير مسيحي. مَن يتأمَّل في الصليب يجد أنّ اتّجاه الخشبة العمودية نحو السماء- نحو الله- فالخلاص قدم من الله. أمّا اتّجاه الأفقية فيمثّل شمول الخلاص العالم أجمع، كذا النعمة والغفرأن والرحمة، لكنّ الصليب واحد ليس اثنين! ومن يتأمّل في الوصيّتين العظميَين التي أوصى السيد المسيح {محبّة الله ومحبّة القريب} مختصِرًا جميع وصايا الله، يجد اتجاه الأولى عموديًّا نحو الله، واتّجاه الثانية أفقيًّا نحو الناس، وهذه علامة الصليب.
ها أنّ الله في خاطرة مؤلِّف القرآن كشف عن ساقه بعد وَسْم الوليد بن المغيرة على أنفه؛ نقرأ في تفسير ابن كثير- بتصرّف: [وقد قال البخاري ها هنا: حدَّثنا آدم... عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت "النبي" يقول: يكشف ربّنا عن ساقه، فيسجد له كلّ مؤمن ومؤمنة، ويبقى مَن كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقًا واحدا] وأضاف ابن كثير: [وهذا الحديث مُخرّج في الصَّحيحَين وفي غيرهما مِن طُرُق وله ألفاظ، وهو حديث طويل مشهور] انتهى.
وقد حاول بعض أهل التأويل إيجاد معان أخرى لمسألة (كشف الله عن ساقه) إذْ ورد في التفسير ذاته- بتصرّف: [وقد قال عبد الله بن المبارك، عن أسامة بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: (يوم يُكْشَفُ عن ساق) قال: هو يوم كَرب وشدّة. رواه ابن جرير ثم قال: حدثنا ابن حميد... عن ابن مسعود أو ابن عباس: (يوم يُكْشَفُ عن ساق) قال: عن أمر عظيم، كقول الشاعر- على وزن الرَّجَز: وقامت الحرب بنا عن ساق... وعن مجاهد: (يوم يكشف عن ساق) قال: شدّة الأمر... إلخ] انتهى.
وقبل أن أعلِّق على ما تقدَّم؛ إليك ما قال شيخ الإسلام (ابن تيمية) بتصرّف: [وقد يُقال إنَّ ظاهر القرآن يدلّ على ذلك من جهة أنه أخبر أنه يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود، والسجود لا يصلح إلا لله، فعلم أنه هو الكاشف عن ساقه. وأيضًا فحمْلُ ذلك على الشِّدَّة لا يصحّ، لأن المستعمل في الشِّدَّة أن يقال: كشف الله الشِّدَّة، أي: أزالها، كما قال: (فلَمّا كَشَفْنا عَنهُمُ العَذابَ إذا هُمْ يَنكُثُون- الزخرف:50 ... إلخ] انتهى. فالمعنى عند ابن تيمية، وعند ابن قيّم الجوزية أيضًا، ساق الرحمن (اي ساق الله) لا الكرب ولا الشِّدّة.
فتعليقي: يكشف الرحمن عن ساقه في سورة القلم:42 بينما نقرأ عنه في القرآن (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء)- الشورى:11 أليست الساق شيئًا ممّا للمخلوق، سواء أكانت بشريّة أم حيوانيّة أم نباتيّة؟ قال الواسطي في تفسير القرطبي: [ليس كذاته ذات ولا كاٌسمِهِ اسم ولا كفعله فعل ولا كصفته صفة إلّا من جهة موافقة اللفظ...] انتهى.
لكننا إذا قلنا، من جهة موافقة اللفظ، إن الرحمة- مثالًا- مشتركة ما بين الخالق وبين عبده وهي مسألة معنويّة، فماذا نقول عن الساق وهي هنا مادّيّة؟
ـــ ـــ
خلاصة
لا يوجد كتاب في العالم احتاج قارئه إلى البحث عن سبب ورود كلّ فصل فيه وكلّ جملة ومعرفة مكان كتابتها وموضوعها مختلف عمّا قبلها وما بعدها ويتوجّب عليه الاطِّلاع على أقوال مفسِّري الكتاب ثمّ يُصدَم باختلاف أهل التأويل. فإن كان للرسالة الإلهية موضوع محدَّد فلا حاجة في نظري إلى سجع وفاصلة، إنّما إلى بيان لا غموض فيه ولا تناقض ولا تغيير ولا تبديل.
لديّ قناعة راسخة بأن الإخوة المسلمين لا يعرفون الله على حقيقته- إله الكتاب المقدَّس- إنّما عرفوا إلهًا خلقه مؤلّف القرآن بقوّة خياله وبثقافته المخزّنة في عقله الباطن لكي يحقّق له جميع رغباته وبسرعة قياسية [ما أرى ربّك إلّا مسارعًا في هواك- رواه البخاري عن السيدة عائشة] خلقه بكلمات عربيّة، خواطر مرتّبة بنسق جميل تارة وبآخر مضطرب تارة، منتهية بفواصل غلب عليها حشو وتكلّف. ولَتجدَنّ الله في القرآن رسولًا لمؤلِّف القرآن، كما في راية داعش بالضبط (الله رسول محمد) لكنّ هذا الاستنتاج قد توصّل إليه غيري بطريقته، ليس استنتاجي فحسب؛ شاهد-ي لطفًا على يوتيوب برنامج (آية وتعليق: الحلقة 20 محمد والله في القرآن الجزء 1) ومدّة الحلقة حوالي سبع دقائق.
والغريب لدى المفكِّرين من ذوي الضمائر الحيّة ما دوَّن المفسِّرون بالإجماع وما نقلوا عن أهل التأويل بأنّ القرآن مِن (قوله تعالى) أو من (قوله جلّ ثناؤه) فلم يجرؤ أحد منهم على نسبته إلى مؤلِّفه الحقيقي! قلت: حاشا الله ممّا نَسَبَ مفسِّرو القرآن إلى الله، سواء أكانوا جاهِلِين أم مُكرَهين. لكنّي قلت في مناسبة سابقة؛ إنّ وثيقة حقوق الإنسان تكفل حقّ كلّ إنسان في الاعتقاد وفي التعبير عن رأيه وفي نشر أفكاره، سواء أكان مؤلِّف القرآن أم مؤلِّف "الكتاب الأخضر" أم مؤلِّف "الأمير" أم مؤلِّف "كفاحي" ... إلخ. وفي المقابل؛ مِن حقّ كلّ إنسان نقد أيّ كتاب، بدون افتراء عليه! ومن حقّه أيضًا اعتبار القرآن نظمًا مِن خواطر مؤلِّفه، بعيدًا عن الإله الحيّ القُدُّوس.