هل القرآن معجز؟
هذا عنوان باب في "الشخصية المحمدية" للرصافي ص898 أو ص599 على الانترنت، أدعو ذوي الألباب وذواتها إلى قراءته لأنّ الرصافي لخّص مسألة الإعجاز القرآني المزعوم بقوله- باختصار:
[أصبح موضوع الإعجاز في القرآن دينيًّا بحتًا وليس فنّيًّا أدبيًّا، فكلّ مَن خالف القائلين به أصبح في نظرهم إمّا كافرًا أو مُلحِدا، لأنّهم لا يرون له عيبًا ولا يسمعون عليه من خصومهم حجّة ولا يقبلون منهم برهانا. هذا على فرض أنّ القائلين بالإعجاز صادقون وفيما يدّعون مخلصون، وإلّا فنحن من ذلك في شكّ مُريب، وإن جاز لدينا أن يكون فيهم من هو صادق في قوله ومخلص في دعواه. وهذا كتاب القاضي الباقلاني قد قالوا إنه أحسن كتاب أُلِّف في إعجاز القرآن، لكنّ كلّ من طالعه بتروٍّ وقرأه بتدبّر وإمعان أيقن أنّ مؤلِّفه من الرعيل الأوّل من المرائين، وأنّه بتأليفه من طلاب الدنيا لا من طلاب الحقيقة... إلخ]
وفي رأي الرصافي [أنّ الرّياء، قبّحه الله، من أكبر الرذائل الاجتماعية لأن فيه التمويه والتضليل وكلاهما من سموم السعادة في الحياة الاجتماعية] انتهى.
ومن الأمثلة على الرياء في زماننا؛ الشائعة القائلة [إن علماء الغرب أشادوا بمحمد وأنّ الأوروبيّين يدخلون الإسلام أفواجًا] والحقيقة التي كشفت عنها الفضائيات والانترنت على العكس تماما، لأن مفكّرين غربيّين كثيرين ولا سيّما فولتير قالوا عن محمد ما يقضّ مضاجع مردّدي هذه الشائعة إذا ما بحثوا في كتبهم وعبر غوغل ويوتيوب [شاهد-ي على يوتيوب: سؤال جريء 409 ماذا قال العظماء عن محمد؟] فإن سألت أحدهم: اكتب لي لطفًا اسم عالم غربي واحد واسم مقالته أو كتابه أو أيّ مرجع أصلي، فيه ما يثبت صحّة ادّعائك، فلا جواب. وإذا طلبت إليه تحديد هويّة فوج أوروبي واحد دخل الإسلام فلا جواب. عِلمًا أني ذكرت في ج2 من هذه المقالة خمسة أسباب وراء ارتداد المسلمين عن الإسلام؛ هي التالي باختصار؛
الأوّل: انجذاب ملايين المسلمين إلى رُقيّ شخصيّة السيد المسيح.
والثاني: عَجْز مؤلِّف القرآن عن صنع معجزة واحدة، كما جرت العادة لدى بعض الأنبياء، أيًّا كانت مبرِّرات العجز.
والثالث أنّ شجرة أنبياء الله معروفة، قد اقتصرت على بني إسرائيل وبناته.
والرابع أنّ زمن النبوّات المقدَّسة قد انتهى بمجيء السيد المسيح لأنّ محور النبوّات، كلّها على الإطلاق، دار حول مجيء المسيح مخلِّص العالم.
والخامس أنّ مؤلِّف القرآن لم يأتِ بجديد مفيد، بالإضافة إلى أنّ توجّهاته خالفت توجّهات الكتاب المقدَّس.
فلم يبق لدى المدافع عن القرآن سوى الادّعاء (أنّ معجزة محمد هي القرآن) لكي يبرِّر إدراج محمَّد ضمن قائمة أنبياء الله، لكن ثبت لكثيرين خلاف ادّعائه، منهم شخصي المتواضع، فطلبت إلى المدافع أن يكتب شيئًا ما من القرآن يظنّ أنّ فيه إعجازًا فلم يفعل. وقد ذكرت في معرض مطالعتي كلًّا من "العلق" و"القلم" أنّ مؤلِّف القرآن قد عجز عن مجاراة شعراء عصره فلم يأتِ بمستوى ما أتوا أدبيًّا وإن اقتربت السُّوَر القِصار من الشعر تارة ومن السجع تارة أخرى! فاعترف المؤلِّف في سورة يس:69 أنّ ربّه لم يعلِّمه الشِّعر. أمّا سجع القرآن فقد أشار الرصافي إليه في "الشخصية المحمدية" ص554 على نسخة الانترنت وأسهب في الحديث عن فواصل القرآن وأطنب، وأردف قائلًا باختصار [إنّ الفواصل هي قِوَام أسلوب القرآن] عِلمًا أني أتيت بأدلّة قاطعة في معرض مطالعة سورة القلم\ ج2 بأنّ أسلوب القرآن مقتبس من أسلوب تدوين الأسفار الشعرية في الكتاب المقدَّس ولا سيّما المزامير، وضربت أمثلة.
ـــ ـــ ـــ
خلاصة مطالعتي القرآن
لقد رأيت التالي بنفسي، في ضوء مطالعتي القرآن، لم أنقل عن أحد؛ فالنقل بعيدًا عن سيطرة العقل من عادة الذين انتقدوا الكتاب المقدَّس بدون قراءته وتفاسيره المعتمدة مسيحيًّا، وهي متوفّرة ورقيًّا وعلى الانترنت، فوقعوا في أخطاء كثيرة. وإليك ما لاحظت:-
أوّلًا: اختلاف روايات القرآن عن روايات الكتاب المقدَّس. فأقول بصفتي مِن أهل الكتاب إنّ مصدر كلّ رواية ناقضت أيّة رواية في الكتاب المقدَّس بَشَري.
ثانيًا: وجود أغلاط لغويّة، إملائيّة ونحويّة، في المصحف المنسوب إلى زمن عثمان، وأخرى علميّة وغيرها تاريخيّة. وسآتي في الأقلّ بحجّتين على كلّ منها، لأنّ الادّعاء الخالي من حجّة دامغة باطل:-
1 مِن الأغلاط الإملائية
لفظة "الطود" التي وردت مرّة واحدة في القرآن (الشعراء:63) فالصحيح الطُّور- بالرّاء- أصلها طُورو، لفظة سريانيّة معناها الجبل، وباٌسمه سورة أوّلها: (وَالطُّورِ. وكِتابٍ مسطور...) وفي سورة أخرى: (وطُورِ سِينِين)- التين:2 وقد عبّرت السيدة عائشة عن مثل هذه الغلطة بأنها (من أخطاء الكاتب) ما دلّ على أن ربّ القرآن عاجز عن حفظ كلامه.
فإذْ وُجدَتْ "الطود" في "لسان العرب" فإنّ صاحبه- ابن منظور- والفيروزآبادي صاحب "القاموس المحيط" وغيره قد أخذوا عن القرآن، لأنّ هذه اللفظة غير واردة في كلام العرب ما قبل الإسلام بمعنى الجبل، لا في الشعر ولا في السجع. وتاليًا؛ إمّا حاول أحد المعترضين كتابة بيت من الشعر وردت فيه "طود" مُعترضًا على هذه المقالة فليتأكد أوّلًا من هويّة الشاعر الذي قال البيت، هل عاش قبل الإسلام أم بعده؟ فليس من المنطق ما فعل مفسِّرو القرآن الذين استشهدوا بأبيات لشعراء عاشوا بعد الإسلام لكي يدعموا مسائل معيّنة في القرآن، منها ما أشرت إليه في مقالتي [مسيحي يطالع القرآن: العلق 2 من 2] وفي غيرها.
ولقد سبقني الكاتب حامد عبد الصمد إلى البحث عن كلمة "تبّت" في أوّل سورة المسد (تبّت يدا أبي لهب وتبّ) في أزيد من حلقة من "صندوق الإسلام" فلمّا بحثت عنها في "لسان العرب: تبب" وجدت أن "تَبَّ-تْ" موجّهة إلى العاقل على الدعاء إذْ قيل "تبًا لفلان" وقيل على العكس "سَقيًا لفلان" فلا تصلح "تبًّ-ت" لغير العاقل (اليد) لكنّ ابن منظور أخذ عن القرآن بدون أن يذكر لنا اسم الشاعر الراجز الذي استخدم "تبّت" لليدين. فالصحيح هو قول محمد (وتبّ) والفاعل هنا أبو لهب. كما أنّ الصحيح الذي في حديث أَبي لَهَب مخاطبًا محمّدا: (تَبّاً لكَ سائرَ اليوم، أَلِهذا جَمَعْتَنا) فما كانت حروف القرآن منقَّطة. وقد جمع حامد عبد الصمد 29 كلمة من الممكن صنعها من تنقيط أحرف "تبت" فالكلمة القريبة من الواقع: بُتَّت (قُطِعتْ) مصدرها البَتّ، فيكون الصحيح: بُتَّتْ يدا أبي لهب وتبّ.
ـــ ـــ
2 مِن الأغلاط النّحويّة
لي مقالة على الانترنت تحت عنوان (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما)- التحريم:4 منذ سنة 2010 فالمخاطب اثنان بينما القلوب جمع تكسير. وقد حاول أهل التأويل تبرير هذه الغلطة، لكن تبريرهم مرفوض عند أهل الفصاحة، لأن صيغة المثنّى معمول بها في القرآن نفسه. وهذا في تقديري غلط مؤلّف القرآن لا الكاتب الذي قصدته السيدة عائشة. وهذا لو صدر عن إنسان عادي لهان الأمر، لكنّ صدوره عن شخص قال عن ربّه أنّ (عنده أمّ الكتاب)- الرعد:39 وأنّ كتابه نزل (بلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُبِيْن)- الشعراء:195 والنحل:103 فأمام ادعائه علامة استفهام كبيرة، إذ لا وجود لصيغة مثل "صغت قلوبكما" في شعر العرب ما قبل الإسلام ولا في سجعهم.
كذا قوله (هذان خصمان اختصموا في ربهم)- الحجّ:19 فقد تنبّه غيري إلى خلط محمد ما بين المثنّى (هذان خصمان) وبين الجمع (اختصموا) لكنّ المفسّرين قالوا إمّا أنّ الخصمين فريق التوحيد وفريق الشرك إذ اختصم الفريقان يوم بدر، وإمّا أنّهما الجنّة والنار.
وتعليقي على معنى الفريقين أن الصحيح في رأيي هو: هؤلاء خصمان اختصموا في ربّهم. أمّا تعليقي على المعنى الثاني فالصحيح: هذان خصمان اختصما في ربّهما.
ـــ ـــ
3 من الأغلاط العِلميّة
لقد أسهب غيري في الحديث عن قول مؤلِّف القرآن ما نسب إلى الله (ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقًا آخر)- المؤمنون:14 يمكنك كتابة [خرافة فكسونا العظام لحما] على غوغل وكلّ ما ظننت به إعجازًا عِلميًّا، أو كلّ ما لُقِّنت فصَدَّقت، للبحث عن الحقيقة. أمّا من الأمثلة على يوتيوب: سؤال جريء، الحلقة 259 مراحل تطور الجنين بين العلم والإسلام، الجزء الأول. وسؤال جريء، الحلقة 414 هل تنبأ القرآن عن الذَّرَّة؟ وصندوق الاسلام، الحلقة 61 حقيقة الإعجاز العلمي في القران- أطوار الجنين.
ـــ ـــ
4 من الأغلاط التاريخية
مخاطبة السيدة مريم العذراء أمّ السيد المسيح بالقول (يا أخت هارون- مريم:28 وابنَت عِمرانَ- التحريم:12 وآل عمران: 35-37) وبين السيدة مريم العذراء أمّ المسيح وبين مريم النبيّة أخت هارون أزيد من 1400 سنة! فخَلَطَ مؤلِّف القرآن بينهما. وهذه ليست غلطة تاريخيّة فحسب، إنّما لاهوتية أيضًا؛ فإذ قيل إنّ في هذه المخاطبة (يا أخت هارون) تشريفًا لها فلا يُشرِّفُها إلّا اسمها (مريم العذراء) وكُنيتها (أمّ يسوع) أو في الأقلّ "أمّ عيسى"- حسب القرآن- هذا لأنّ المسيح بلا خطيئة! أمّا هارون فقد أخطأ إلى الله في قضيّة العجل الذهبي، وهي قضية معروفة في التوراة ومشهورة، كما أنّ عِمران (الصحيح توراتيًّا: عَمرام) والد مريم النبيّة وموسى النبي وهارون الكاهن (الخروج 15: 20 وأخبار الأيّام الأوّل 6: 3) قطعًا ليس والد السيدة مريم العذراء، لم يُذكر اسم والدها في الكتاب المقدَّس! لكنّه مذكور في التراث المسيحي. يمكنك الاطّلاع على تفاصيل أكثر، عبر غوغل، متعلّقة بهذه الغلطة وبسائر أغلاط القرآن التاريخية، باللغتين العربية والانكليزية.
بالمناسبة؛ كم صدع رأسي بعض المعلِقين على مقالاتي بالقول (إنّ القرآن كرّم سيّدتنا مريم إذْ جعل سورة باٌسمها) فكان الجواب: لا تتكرّم السيدة مريم بجعل اسمها في قائمة تضمّ البقرة والفيل والنمل والعنكبوت... إلخ! لا هي ولا غيرها، حتّى السور التي كلّ منها تحت عنوان أحد أعلام الكتاب المقدَّس؛ نوح، الأنبياء، آل عمران، إبراهيم، يوسف، يونس، لا يتشرَّف أحدهم بذكر اسمه عنوانًا لأيّة سورة، للسبب المذكور عينه.
ولديّ اعتراض أيضًا على تسمية إحدى السور بالقيامة وأخرى بالفرقان، لأنّهما من المصطلحات الخاصّة بالكتاب المقدَّس؛ اقتبسهما مؤلِّف القرآن منه. فالسيد المسيح بِكر القيامة، هو الوحيد الذي قام من الأموات بجسد القيامة المُمجَّد. أمّا مؤلِّف القرآن فقد تجاهل قيامة المسيح من الموت، متأمِّلًا في سورة القيامة تأمّل شاعر، فكتب خاطرة مسجوعة مقفّاة بأزيد من قافية، شتّان ما بينها وبين المُدوَّن في الكتاب المقدَّس عن القيامة. فإن أدرك الإخوة المسلمون معنى القيامة ويومها، بشكل ما وبطريقة ما، فما أدراهم ما "الفرقان" ولا سيّما أهل التأويل! وما أدراهم ما "يوم الفرقان" المذكور في الأنفال:41
لذا سأفرد لاحقًا وقفة جديدة بين الكتاب المقدَّس وبين غيره لإحاطة المسلمين عِلمًا بمعنى الفرقان وبيومه، بأدلّة قاطعة من الكتاب المقدَّس ومن القرآن.
إليك غلطة تاريخية ثانية باختصار؛ نقرأ في تفسير القرطبي القصص:8 [كان هامان وزير فرعون من القبط] والحقيقة أنّ هامان كان وزيرًا لأحشويريش ملك فارس، لم يكن وزير فرعون: {بَعْدَ هذِهِ الأُمُورِ عَظَّمَ المَلِكُ أَحَشْوِيرُوشُ هَامَانَ بْنَ هَمَدَاثَا الأَجَاجِيَّ ورَقَّاه، وَجَعَلَ كُرسِيَّهُ فوقَ جَمِيعِ الرُّؤَساء الَّذِينَ مَعَه}+ أستير 3: 1 ومعلوم تاريخيًّا أنّ فرعون، إذْ عاصر موسى النبيّ، عاش قبل ملك فارس المذكور بحوالي ألف سنة. ثمّ أنّ "هامان" اسم فارسي، مختلف تمامًا عن الأسماء الفرعونية.
ـــ ـــ ـــ
ثالثًا: رصدت تناقضات موضوعيّة في القرآن حاول أهل التفسير إيجاد ذريعة "الناسخ والمنسوخ" لها؛ كقول محمد ممّا نسب إلى الله: (ولو شاء ربّك لآمَن مَن في الأرض كلّهم جميعًا أفأنت تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين)- يونس:99
وفي تفسير القرطبي: [عن ابن عبّاس؛ المراد بالناس هنا أبو طالب] بينما رصد ابنه- علي بن أبي طالب- أربعة أسياف في القرآن، ثلاثة منها تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين، والسيف في رأي المفكّرين من وسائل التهديد والإكراه، هو قطعًا ضدّ الإقناع بالحُجّة، بل دليل على ضعفها إن وُجدتْ. وإليك الثلاثة- بتصرّف:
[الأوّل: سيف في المشركين من العرب (التوبة:5) والثاني: قتال أهل الكتاب حتّى يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون أي أذلّاء (التوبة:29) والثالث: قتال الكفّار والمنافقين (التحريم:9 والتوبة:73) ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه (أي في التوبة:5) فقال الضّحّاك والسّدّي: هي منسوخة بقوله (فإما مَنًّا بعد وإمّا فداء)- محمد:4 وقال قتادة بالعكس]- من تفسير ابن كثير التوبة:5
وقد رأيت في التناقضات القرآنية إساءة إلى عِلم الله وإلى صحّة قراراته: [الآن خفّف الله عنكم و(عَلِمَ) أنّ فيكم ضعفا]- الأنفال:66 وهذه نسخت ما قبلها. وممّا قال محمد ناسبًا قوله إلى الله: [ثمّ بعثناهم (لِنَعلَم) أيُّ الحزبَين أحصى لِمَا لبِثوا أمَدا]- الكهف:12 ولي وقفة هنا على قِصّة أصحاب الكهف، إذ اعتبرها مؤلِّف القرآن حقيقية، بينما كانت خيالية رمزيّة.
وبالعودة إلى باب الأغلاط النحوية بالمناسبة؛ ورد في تفسير القرطبي المذكور- بتصرّف: [كلّهم تأكيد لـ "مَن" أمّا "جميعًا" عند سيبويه فنصب على الحال. وقال الأخفش: جاء بقوله "جميعًا" بعد "كلّ" تأكيدا؛ كقوله: لا تتّخذوا إلهين اثنين] انتهى.
وتعليقي كتعليق الرصافي في مناسبة مثل هذه: لو أنّ "التأكيد" المذكور ورد في كتاب آخر لانتقده كلّ من سيبويه والأخفش ولَمَا سكتا عنه. أمّا المثال الذي ضربه الأخفش فصحيح لكنّه لا يصلح لتبرير الغلطة القرآنية (كلّهم جميعًا) فالصواب حسب معرفتي النحوية إمّا كلّهم وإمّا جميعا؛ كذا قول محمد: (فسَجَدَ المَلائكةُ كُلُّهُمْ أجمَعُون)- ص:73 والحِجر:30 والهدف من هذا "التأكيد" مراعاة فواصل السورة على حساب النحو، لا لسبب آخر، وهذه المراعاة من الأدلّة القاطعة ببشريّة القرآن.
بينما قرأت له: (وكُلُّهُمْ آتِيهِ يَومَ القِيامة فَرْدا)- مريم:95 فلم يقُلْ "كلّهم جميعًا" مثلما قال في يونس:99 فلماذا "أكّد" هناك ولم "يؤكّد" هنا؟
وقرأت له: (ويوم نحشرهم جميعًا ثم نقول...)- الأنعام:22 بدون "كلّهم" كذا في يونس:4 و28 وفي الأنعام:128 وغيرها. والسؤال نفسه: لماذا "أكّد" هناك ولم "يؤكّد" هنا؟
رابعًا: اختلاف أهل التأويل على أبسط المسائل القرآنية (انظر-ي أيّ تفسير إسلامي معتمَد لديك) كما اختلف قول قتادة عن قول كلّ من الضّحّاك والسّدّي في تفسير ابن كثير المذكور. وقد قلت فيما مضى ما معناه: إذِ اختلف أهل التأويل في معاني القرآن فماذا تفعل العامّة بالقرآن لفهمه؟ إلّا إذا حفظه المسلمون في الصدور بدون فهم. والمنطق يقول في هذه الحالة أنّ عليهم أن يكفّوا عن دعوة الآخرين إلى الإسلام، كي لا ينتابهم الحرج إذا ما سئلوا عن أشياء لم يتوقّعوا سؤالًا عنها يومًا ولم تخطر إشكاليّاتها في أذهانهم. يكفيهم الحرج الذي تعرّض له محمد يوم سأله النضر بن الحارث عن الروح وعن عدد أصحاب الكهف. وأقول إنّ على مَن يدعو الآخرين إلى الإسلام أن يكون مُلِمًّا بتفسير القرآن لكي يكون جديرًا بدعوته وبحملته الدعائيّة، لأنّ "الله أعلم" أمسى من أقوال المُفلِسين فِكريًّا وثقافيّا. فعيون الناس اليوم مفتوحة، أوسع ممّا في الماضي، بفضل الانترنت.
وأقول أيضًا؛ خير لهم أن يكفّوا عن الدفاع عن القرآن، لأنّ فريقًا من النقاد قد يصطفّ مع قتادة- مثالًا لا حصرًا- والفريق الآخر مع الضّحّاك. فأدعو المدافعين إلى الاطّلاع على سلسلة النقد التي تعرَّض لها القرآن عبر التاريخ، منذ فجر الإسلام حتّى اليوم، بأقلام مفكّرين محترمين ومخلصين للحقيقة.
خامسًا: غلطة من العيار الثقيل في نظري؛ إذ اعتبر مؤلِّف القرآن قصّة أصحاب الكهف حقيقية، مدّعيًا بلسان ربّه: (نحن نقصّ عليك نبأهم بالحق إنّهم فتية آمنوا بربّهم وزدناهم هدى)- الكهف:13 والحقيقة أنها قصّة خياليّة رمزيّة، كما أسلفت، ليست قصّة واقعيّة إطلاقًا؛ كتبها القديس السرياني يعقوب السروجي (451- 521 م) في قصيدة على الوزن السرياني السباعي ذات أربعة وسبعين بيتًا، لغرض تعليمي، تعبيرًا عن اضطهاد المسيحيّين منذ بزوغ فجر المسيحيّة. عِلمًا أنّ أوّل نصّ لها مدوّن باللغة السُّريانيّة، يعود تأريخه إلى أواخر القرن الخامس الميلادي، ثم انتشرت القصّة بين الناس، سواء في شبه جزيرة العرب وفي الحبشة وفي الشام وفي مصر.
فمسألة أصحاب الكهف ومسألة ذبيحة إبراهيم على أنّ الذبيح "إسماعيل"- حسب إثبات الشنقيطي في "أضواء البيان" (1) ومسألة الخلط بين مريم "إبنت عمران وأخت هارون" وبين مريم العذراء ومسألة الخلط بين وزير فارسي ووزير فرعوني، من الأدلّة القاطعة بأنّ القرآن من تأليف محمد، لكن نسبه إلى الله، على رغم مخالفة القرآن كلام الله المدوَّن في الكتاب المقدَّس. فإذ حاول الجهلة إسقاط شبهة التحريف على الكتاب المقدَّس، دفاعًا عن القرآن، فقد سقطوا في مستنقع الجهل وباءت جميع محاولاتهم بفشل ذريع، بما أوتوا من مكر وخداع؛ لأنّ من المستحيل تحريف الكتاب المقدَّس. والمزيد في مقالتي: الهَلاك بالدليل للمُفتَرين على التّوراة والإنجيل (2)
تاليًا؛ عن أيّ إعجاز تحدّث تجّار "الإعجاز العلمي" عبر الفضائيّات الإسلامية وفي الكتب الصفراء؟ ماذا نفع الناسَ "إعجاز القرآن" سواء أكان في حقل العلم أم في حقل الأدب؟ لو صدق التجار لرأينا مكة والمدينة منارتين للعلم والأدب. فماذا اخترع المسلمون من الإعجاز العلمي المزعوم؟ وكم جائزة نوبل حصد العرب من الإعجاز الأدبي المزعوم؟ هل نسِي التجار موقف مؤلِّف القرآن من الشعراء ممّا في أواخر سورة الشعراء، أم نسوا محاولة اغتيال نجيب محفوظ- العربي الوحيد الحاصل على جائزة نوبل في الأدب؟