عند اقدام الصليب، في اورشليم مدينة الملك، تجتمع الكنيسة امام سيد الارض والسماء، بل افراد قليلة الذي رافقوا السيد الى النهاية، الى الصليب، وهم مريم ام يسوع، مريم زوجة كلوبا، مريم المجدلية والتلميذ الذي كان يحبه، يوحنا.
اين التلاميذ؟ اين الخمسة الاف الذين شبعوا خبزًا وسمكًا؟ اين الذين شفاهم الرب؟ البرص، العمي، الصم والبكم، اين رؤساء الكهنة وقادة الشعب؟ اين هم المدعوين بل والمختارين ايضًا، اين كل هؤلاء؟
امام الرب المصلوب، يسوع المسيح، ابن الله الحي الذي فيه يَحِل كل ملء اللاهوت جسديًا، تجتمع الكنيسة لتسمع صوت الرب المصلوب، يتكلم الى قلوب السامعين باخر جُمَلِه وهو على الصليب، ويعطي وصاياه الأخيرة لامه مريم والتلميذ الذي كان يحبه، يوحنا.
امام الصليب، لا آيات ولا عجائب، لا شفاء ولا اقامة موتى، لا خبز ولا سمك، بل حزن شديد وعميق في قلب الرب يسوع، امه ويوحنا.
قال لنا بولس انه لا يعزم ان يعرف شيء بيننا الا يسوع المسيح واياه مصلوب، بولس لم يكن حاضر عند اقدام الصليب، ولكنه تعلم من سيده ان يحمل صليبه كل يوم ويتبع السيد اينما ذهب، يتبعه بالروح والحق، يتبعه بالوداعة والتواضع، يتبعه بالطاعة والخضوع التام.
بولس لم يكن هناك، ولا نحن، ولكن روح الرب يأخذنا الى اورشليم، مدينة الملك العظيم، لنسمع كلمة من فم السيد المعلم، فهل نقترب الى اقدام الصليب، هل نصلب الانا والذات لنقول له لتكن مشيئتك وحدك، وما الذي يجذبنا الى اقدام المصلوب غير المحبة؟
يوحنا التلميذ المحبوب، ليس بمعنى ان يسوع يحب واحدًا أكثر من الاخر، حاشا لربنا هذا، بل يوحنا أدرك بالروح كم كان غاليًا على قلب الرب يسوع، ورأى بعينيه ان يسوع بالفعل احب التلاميذ كما وعد، حتى المنتهى، حتى الصليب، بل بعد القيامة والى يوم رجوعه الثاني تبارك اسمه يحبنا، لأنه قال محبة ابدية احببتكم، من اجل ذلك ادمت لكم الرحمة.
عند اقدام الصليب، يتأمل يوحنا بسيده المبارك، تتأمل مريم ابنها الحبيب، وكيف لا يضعف الايمان والرجاء ايضًا، عندما نظروا يسوع المصلوب!
ولكن المحبة وحدها هي التي قادتهم الى الصليب، لينكروا أنفسهم ويحملوا صليبهم، كل واحد. يحمل صليبه.
وسط صمت تام، وألم كبير ودموع كثيرة، يفتح فاه السيد المبارك، وينطق بكلمات النعمة كما عودنا دائمًا، عند اقدام الصليب الكلام له ثقل وعمق روحي، خاصة اذا ادركنا مع المحبوب يوحنا، كم احبنا ربنا، احبنا كلنا من دون تفرقة، لا بين رجل وامرأة، لا يهودي واممي، لا عبد وحر، لا غني وفقير بل عند اقدام الصليب جميعنا واحد، لان ابانا واحد، وربنا واحد والعروس المحبوبة واحدة.
نعم يا اخونا يوحنا، لست المحبوب وحدك، بل كلنا احباء المسيح، اولاد الله بالأيمان وورثة للملكوت مع ابراهيم...
يخبرنا يوحنا انه لما رأى يسوع امه، والتلميذ الذي كان يحبه واقفًا، قال لامه: "يا امرأة، هوذا ابنك، ثم قال للتلميذ، هوذا امك" ( يوحنا 26:19 )، كأن يسوع يقول بعد قليل سوف أُسلِم الروح، سوف اموت ولكن في اليوم الثالث سوف اقوم، وكما وعدت سوف أُرسل لكم المعزي، الروح القدس الذي يمكث معكم.
يسوع يوصي التلميذ بأمه، وكانسان كامل خضع كل ايام حياته لامه مريم ويوسف، وحتى لحظاته الاخيرة على الصليب كان يفكر بأمه والتلميذ، بل التلاميذ، انا وانت، يحبنا، يحفظنا ويرعانا كل ايام حياتنا على الارض، لأنه كما قال اشعياء عنه انه يرى نسلاً تطول ايامه، ومسرة الرب بيده تنجح، ومن تعب نفسه يرى ويشبع، وعبدي البار بمعرفته يُبَرِّر كثيرين، وأثامهم هو يحملها (اشعياء 10:53).
انا وانت لم نكن هناك، ولكن الرب رأى النسل، رأى الكنيسة، لذلك تَحَمَّل كل الالام من اجلنا اجمعين، واوصانا كما اوصى امه مريم والتلميذ المحبوب، ان نحب بعضنا بعضا، كيف؟ كما احبنا هو حتى بذل نفسه ووضع نفسه للموت، موت الصليب.
اوصى الرب الكنيسة، أُمَّنا اجمعين، ان ترعى المؤمنين، الام المُحِبة والمضحية لأولادها، لجميع اولادها دون تفرقة بين القوي والضعيف، حديث الايمان او المتقدم به، نعم انها اورشليم ولكن ليست الارضية، بل السماوية، التي صانعها الله الحي، اورشليم العليا، التي هي أُمُّنا جميعاً الحُرَّة وحدها (غلاطية 26:4)، فهي ترعانا وتحفظنا، لأنها تسمع وصية سيدها المبارك.
دعونا اخوتي نصلي كلنا، في هذه الايام الصعبة، والتي بردت بها محبة كثيرين، ان يحفظ الرب قلوبنا وافكارنا في محبته، وان نكون قريبين من اقدام الصليب، وان يكون الصليب والمصلوب المقام من بين الاموات، مركز حياتنا واجتماعاتنا في كنائسنا.
وانت يا من تقرأ هذه السطور، وما زلت تستخف وتستهتر بالصليب والمصلوب يسوع، تعال بإيمان وافتح قلبك، واقبل الخلاص بالإيمان بموت المسيح على الصليب وقيامته من بين الاموات، ارجوك لا تقسي قلبك كالجنود الرومان، ولا تجدف كالكهنة امام الصليب، بل تعال ليسوع الذي احبك انت ايضاً، واقبله مخلصًا وربًا على حياتك.
عند اقدام الصليب، كانت مريم مع يوحنا، لم تكن مريم وحدها، ولا يوحنا وحده، بل مريم ويوحنا، لأنهم الاثنين مهمين، الواحد لا يكفي، بل الاثنين، كل واحد دوره وخدمته.
مريم ام يسوع، مثال الايمان، الوداعة والتواضع، التي قبلت دعوة الله لحياتها، ورغم كل البركات الروحية في حياتها، قالت عن الله مخلصي، وعظمت الرب وحده، والرب نظر الى اتضاع امته.
كانت تخبئ الكلام في قلبها دائماً، لم تدع اي كلمة تسقط الى الارض، بل خبأت كلام الله في قلبها، لأنها ابنة داود، وتعلمت منه هذا، وهو الذي اوصانا ان نخبئ كلام الله في قلوبنا، كي لا نخطئ اليه.
ويوحنا، والذي كان يُدعى اولاً من ابني الرعد، ها هو ايضاً عند اقدام الصليب، تعلم التواضع والوداعة من سيده، وانه ان كان أحد يريد ان يكون اولاً، فيجب عليه ان يكون خادماً للجميع، وانه ان لم يقبل ملكوت الله بالإيمان كالأطفال، فلن يدخله!
مريم رمز التواضع والوداعة عند اقدام الصليب، رمز الصلاة كل حين وانتظار الرب بصبر، رمز الحكمة ومعرفة الرب من كل القلب، ويوحنا رمز النشاط، الخدمة، العطاء والقوة.
ونحن كنيسة الرب وعروسه، نجلس بل نركع ونجثو عند اقدام صليبه، نسمع وصية الرب الاله بالمحبة، ونتعلم ايضاً من مريم ام يسوع ويوحنا، ان نحمل الرسالة والدعوة الالهية لنا، نتعلم من مريم ان نحفظ في قلوبنا روح الوداعة والتواضع، الروح التي تصلي كل حين منتظرة الرب دائمًا، تسير في غربة هذا العالم بكل حكمة الهية، ونتعلم من يوحنا روح الخدمة، النشاط الروحي والعطاء لكي نرى مجد الرب، وتتميم مشيئته الصالحة في حياتنا له المجد والكرامة الى الابد، امين.