ثالثًا: كيف تتم الولادة من فوق؟ أو من الذي يجري أو يتمم الولادة من فوق؟ نستنتج من سؤال نيقوديموس: "كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟"، أنه لم يدرك نهائيًا مغزى كلمات الرّب يسوع المسيح عن الولادة الجديدة أو الولادة من فوق، ولكنه على أية حال سأل عن كيفية الولادة ثانية، بالرّغم من أن سؤاله دل على عدم وجود فهم روحي لما قاله الرّب يسوع.
أجاب الرّب يسوع على سؤال نيقوديموس بقوله أولًا: "ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ" (يوحنا 5:3). نلاحظ هنا أن الرّب يسوع أجاب على سؤال نيقوديموس بقوله "ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ" وهذه الصيغة كررها الرّب يسوع كثيرًا في حواره ولقاءاته مع الناس (انظر مثلًا 11:3؛19:5، 24؛ 26:6، 32، 47، 53،... الخ) وهي جملة تدل على أن الرّب يسوع المسيح، والذي هو الحق (يوحنا 6:14) لا يقول إلا الحق، كذلك فالعبارة تدل على أن ما سيقوله هو غاية في الأهمية، ويتطلب من المستمع أو القارئ انتباهًا خاصًا للحقيقة التي سيعلنها الرّب يسوع بعد قوله "ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ".
بعد أن قال الرّب "ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ"، أجاب على سؤال نيقوديموس عن كيفية الولادة الثّانية بقوله أن هذه الولادة تتم "مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ". أي لا بد من توفر عنصرين لحدوث الولادة من فوق. فكما أن الولادة الأرضية الجسدية تتطلب وجود عنصرين لحدوثها، واتحاد هذان العنصران القادمان من الرجل والمرأة يؤدي إلى الولادة الجسدية الأولى. أي أن الولادة الأولى، أي الولادة الجسدية الأرضية، تحتاج إلى عناصر أرضية ومادية لحدوثها. وبنفس المعنى، فإن الولادة من فوق، أي الولادة السماوية الثّانية، تحتاج إلى عناصر سماوية وروحية لحدوثها، وهما "الْمَاءِ وَالرُّوحِ". فمع أن الرّب يسوع هنا استخدم كلمة تدل على عنصر مادي وهو الماء، إلا أنه هنا أشار بالماء إلى عنصر سماوي ورئيسي جدًا لإتمام الولادة من فوق، ألا وهو كلمة الله.
يستخدم الماء في الحياة اليومية في أغراض كثيرة جدًا، ولكن ما يهمنا هنا هو أنه يستخدم في النّظافة والطهارة. فكما أن الماء ينظف ويطهر الأشياء من الخارج، كذلك كلمة الله الحية تتغلغل إلى قلب ووجدان الإنسان وتعمل على تطهيره من الداخل.
لا بد لي هنا من التشديد وبقوة على أن الولادة الأولى، أي الولادة الجسدية الأرضية، تحتاج إلى عناصر أرضية لحدوثها. كذلك فإن الولادة الثّانية، أي الولادة السماوية من فوق، تحتاج إلى عناصر سماوية لحدوثها. وهكذا فالحديث عن الماء هنا هو في الواقع الحديث عن كلمة الله الحية التي تؤثر في النفس البشرية وتنظف الإنسان من الداخل. نقرأ في رسالة يعقوب 18:1 "شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ". أي أن الله ولد المؤمنين ثانية، أي جعلهم يختبرون ويولدون من فوق بواسطة "كَلِمَةِ الْحَقِّ"، وكلمة الحق هي كلمة الله الحية الباقية إلى الأبد. كذلك نقرأ في رسالة بطرس الأولى 23:1-25 "مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ. لأَنَّ كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ، وَكُلَّ مَجْدِ إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ. الْعُشْبُ يَبِسَ وَزَهْرُهُ سَقَطَ، وَأَمَّا كَلِمَةُ الرّب فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ. وَهَذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي بُشِّرْتُمْ بِهَا". نجد هنا مقارنة بين كلمة الله والزرع البشري، فكلمة الله حية وباقية إلى الأبد، أما الزرع البشري فمصيره الموت والفناء. وهكذا فإن الذي يولد ثانية بواسطة كلمة الله يبقى إلى الأبد، مثل بقاء كلمة الله إلى الأبد. أما المولود من الجسد فقط، فمصيره الموت لأنه مولود من زرع يفنى ويموت.
في حديث الرّب يسوع مع نيقوديموس قال له وبالحرف الواحد "يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ" (يوحنا 7:3) فالولادة من فوق هي شرط الحياة الأبديّة ورؤية ودخول ملكوت الله. وفي رسالة بطرس الأولى لدينا تفسيرٌ واضحٌ وجليٌّ لكيفية هذه الولادة بواسطة كلمة الله الحية والباقية إلى الأبد، وهكذا فالماء الذي ذكره الرّب في يوحنا 3:3 هو كلمة الله الحية الباقية إلى الأبد.
يستخدم الروح القدس كلمة الله من أجل تنقيتنا وتنظيفنا من الداخل، وهكذا فالماء يشير إلى كلمة الله وعملها في خلقنا من جديد وتنقيتنا من كل قيود الشر والخطيّة. قال الرّب يسوع له المجد في يوحنا 3:15 "أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ". فكلام الرّب يسوع هو كلام الله الذي يجعلنا أنقياء. وقد كرر وأكّد بولس الرسول هذا المعنى عندما كتب بوحي من الله في أفسس 25:5ـ27 "أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضًا الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّرًا إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ، لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ"، أن الرّب يسوع يغسلنا ويقدسنا ويطهرنا بكلمته الحية، لكي نحضر أمامه ككنيسة مجيدة وبدون دنس أو شرور أو عيوب.
وفي العهد القديم شبّه نبي الله إشعياء كلمة الله وعملها في النفس البشرية بماء المطر والثلج وعمله في نمو الزرع وإعطاء حياة للأرض، فنقرأ في إشعياء 10:55ـ11 قوله: "لأَنَّهُ كَمَا يَنْزِلُ الْمَطَرُ وَالثَّلْجُ مِنَ السَّمَاءِ وَلاَ يَرْجِعَانِ إِلَى هُنَاكَ بَلْ يُرْوِيَانِ الأَرْضَ وَيَجْعَلاَنِهَا تَلِدُ وَتُنْبِتُ وَتُعْطِي زَرْعًا لِلزَّارِعِ وَخُبْزًا لِلآكِلِ هَكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ فَمِي. لاَ تَرْجِعُ إِلَيَّ فَارِغَةً بَلْ تَعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ وَتَنْجَحُ فِي مَا أَرْسَلْتُهَا لَهُ". إن كلمة الله حية وهي تعمل بقوة الروح القدس في مخاطبة الإنسان وتغييره من الداخل لكي يستطيع أن يختبر الولادة من فوق.
نستخدم في حياتنا اليومية أمثلة وعبارات يتم فيها تشبيه الماء بالكلمة: فكما أن الماء يطفئ عطش الظمآن ويرويه، كذلك كلمة الله تروي النفس المتعطشة إلى الحق. وفي تعاليم الرّب يسوع، قال له المجد "لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللَّهِ" (متى 4:4) فكلمة الله مصدر للحياة الروحية كما أن الخبز مصدر للحياة الجسدية. بدون ماء لا توجد حياة جسدية، وبدون كلمة الله لا توجد حياة روحية.
في الولادة الجديدة، يعمل الروح القدس بواسطة كلمة الله في قلب وضمير الإنسان، ويفتح بصيرة الإنسان ليدرك حقيقة الظلمة التي يعيش بها، وكيف أنه ميت روحيًا، أي أن الروح القدس ينتج حياة جديدة بسلطان وقوة كلمة الله.
العامل الثّاني الضروري لإتمام الولادة الثّانية، أي الولادة من فوق هو الروح القدس، وبدون الروح القدس لا توجد حياة مسيحية، لأن الروح القدس هو معطي الحياة الروحية، هذه الحياة التي تتغذى بدورها على كلمة الله.
الولادة من فوق هي عملية خلق جديدة للإنسان، وعملية الخلق تحتاج إلى خالق، والخالق هو الروح القدس. نقرأ في أيوب 4:33 "رُوحُ اللهِ صَنَعَنِي وَنَسَمَةُ الْقَدِيرِ أَحْيَتْنِي"، فالروح القدس هو صانع وخالق الإنسان الجديد. ونجد نفس المعنى في مزمور 30:104 "تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ. وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ". أي أن الروح القدس يخلق كل ما هو حي، ويعمل على تجديد صورة الحياة على الأرض. وهكذا فإن الإنسان الخاطئ، الّذي هو في حقيقته ميت في الذنوب والخطايا، يعيد الروح القدس خلقه أي يعطيه حياةً جديدةً، وذلك لأن الروح القدس هو الله (أنظر أعمال الرسل 3:5ـ4).
يحتاج الحديث عن الروح القدس إلى وقت كثير، وما يهمنا هو دور الروح القدس في إتمام الولادة من فوق، أي الولادة الثّانية. نقرأ في إنجيل المسيح حسب البشير يوحنا أقوالًا كثيرة نطق بها الرّب يسوع عن عمل الروح القدس في التجديد والولادة الثّانية. يقول الرّب يسوع عن الروح القدس في يوحنا 8:16-11: " وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ: 9أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي. 10وَأَمَّا عَلَى بِرّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي وَلاَ تَرَوْنَنِي أَيْضًا. 11وَأَمَّا عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأَنَّ رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ قَدْ دِينَ". يعمل الروح القدس على تبكيت الخطاة في العالم، أي أن الروح القدس يجعل كل من يستمع لكلمة الله مدركًا لحقيقة خطاياه وموته الروحي. فالروح القدس يوخز كيان الإنسان من الداخل ويضعه وجهًا لوجه أمام خطاياه، وفي هذه اللحظة المقدّسة والحاسمة في حياة الإنسان، يتوقع منا الله أن نتجاوب مع عمل كلمته وروحه في داخلنا، بحيث نتوب عن خطايانا، ونقبل الرّب يسوع مخلصًا وربًا لحياتنا.
تدل الحياة الواقعية على أن كثيرين من الناس وقفوا أمام لحظة الحسم هذه، ولكنهم رفضوا التوبة القلبية الصادقة والعودة إلى الله، وهم بذلك خسروا فرصة عظيمة قد لا تعوض أو قد لا تتكرر أبدًا. فمثلًا من خلال خدمتي في الزيارات التبشيرية، أعطاني الرّب فرصًا كثيرة لمشاركة الإنجيل مع الناس، وكثيرًا ما وصلت مع الذين أشهد لهم إلى لحظة الحسم: إما قبول الرّب يسوع أو رفضه، إما التوبة أو الخطيّة، وللأسف الشديد رفض الكثيرون إطاعة كلمة الله، وفضلوا حياة الخطيّة على الولادة من فوق، وهم بذلك رفضوا أعظم عطية من الله، وهي الغفران والحياة الأبديّة.
عندما يكلمنا الله بواسطة الكتاب المقدس، أي بواسطة كلمته المعطاة لنا في الوحي، وعندما نقع تحت تأثير عمل الروح القدس، الذي يبكتنا على شرورنا وخطايانا، فإن الله يتوقع منا أن نرجع إليه بالتوبة والإيمان وقبول الرّب يسوع في حياتنا باعتباره مخلصنا الوحيد.
صحيح أن كلمة الله هي الحق، وقد يقتنع الناس بالحق ويصدقون كلمة الله، ولكن بدون الروح القدس لن يستطيع أي إنسان أن يعترف بالرّب يسوع المسيح. نقرأ في كورنثوس الأولى 3:12 "وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: "يَسُوعُ رَبٌّ" إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ". بدون الروح القدس لا يقدر أحد أن يعترف ويقبل ويؤمن بالرّب يسوع المسيح. وبدون الروح القدس لا توجد كنيسة، ولا توجد ثمار روحية، ولا توجد مواهب روحية.
عندما نتحدث عن الفرق بين الكنائس الحية والكنائس الميتة، فإننا في الواقع نتحدث عن كنائس تحيا بقوة الروح القدس، وكنائس تحيا بقوة العادات والطقوس، مع أنها حقًا ميتة روحيًا. وصلاتي أن تكون كنيستنا حية دائمًا، أن يكون الروح القدس مرشدًا ومعلمًا وقائدًا لنا في مسيرتنا مع الله.
ربما يستمع إنسان ما إلى كلام الله على لسان شخص ما، ولكن لا نرى أي أثر لهذه الكلمة في حياة المستمع، والسبب ببساطة أن من يتكلم أو يقرأ كلمة الله يفتقد لحضور الروح القدس أو مسحة الروح القدس في حياته، لذلك تخرج الكلمة من فمه بشكلٍ آلي وبدون أية قوة مغيِّرة.
على سبيل المثال، في الأعراس والمناسبات الأخرى مثل العماميد والجنانيز التي تتم في اجتماعات كنائس كثيرة، يستمع الناس إلى قراءات من الإنجيل والرسائل والمزامير، ولكن لا يهتم أحد بما يسمع، ولا يتأثر أي شخص بهذه الكلمات، لأنها تقال في سبيل إتمام الطقوس والمراسيم وليس في سبيل التعليم والوعظ والإرشاد والدعوة إلى التوبة والخلاص.
أجل إننا نحتاج إلى حضور الروح القدس بقوة في حياتنا اليومية. نحتاج إلى الروح القدس حتى يعمل فينا ومن خلالنا لكي تكون حياتنا مثمرة لله، وذلك من خلال مشاركة الإنجيل مع الآخري،ن وأيضًا من خلال الأعمال الصالحة التي يرشدنا الروح القدس لإنجازها. نحن بحاجة إلى أن نعرف كلمة الله وأيضًا إلى الإمتلاء بالروح القدس، حتى نستطيع أن نربح الناس لشخص الرّب يسوع المسيح.
نقرا في رسالة كورنثوس الأولى 11:6 "لَكِنِ اغْتَسَلْتُمْ بَلْ تَقَدَّسْتُمْ بَلْ تَبَرَّرْتُمْ بِاسْمِ الرّب يَسُوعَ وَبِرُوحِ إِلَهِنَا". الروح القدس يغسلنا من خطايانا، ويقدسنا، أي يعيننا ويخلصنا ويفرزنا للمسيح. ويعمل الروح القدس أيضًا على تبريرنا، أي ينقلنا من حالة الخاطئ المذنب، إلى حالة المؤمن البار من الخطيّة والدينونة.