فتاة اسمها ماري، تركها والدها وهي طفلة ما زالت في المهد، وكانت جميلة مشرقة الوجه، كجمال الورد وإشراقه في وقت الربيع وكانت أمها فقيرة فقرًا مدقعًا، لكنها أحبت الطفلة الجميلة وبدأت تكافح من أجلها في الحياة، رضت لنفسها أن تقوم بأحقر الأعمال حتى توفر العيش الهنيء لابنتها المحبوبة، وكبرت الطفلة، ونمت وترعرعت، وسارت سيرا جميلا في مراحلها الدراسية، أنهت التعليم الابتدائي، والثانوي، والعالي، وبدلاً من أن ترد الجميل للأم العجوز التي تعبت من أجلها، وكافحت في سبيل تربيتها، تدهورت تدهورا شنيعا جدًا، وهربت إلى مكان لا تعرفه أمها الحنون.
ولم تستطع الأم العجوز أن تنسى ابنتها، كانت تحبها حبا كبيرًا للغاية، أحبتها رغم تمردها وشرها وهربها، وشرعت تفتش عنها في كل مكان تعتقد أنها ذهبت إليه، وكان بحثها عن الإبنة الضالة يكلفها مالا، فكانت تشتغل في تنظيف البيوت لتحصل على ما يكفيها للقيام برحلة للبحث عن ابنتها، لكن جهودها ذهبت دون جدوى.
كان طيف ابنتها الشاردة يداعب خيالها أثناء النوم، ويمر بذاكرتها وقت النهار كانت تذكر طفولتها البيضاء وشبابها الجميل، وأنوثتها المكتملة، فتذوب شوقا إليها، ويدفعها الحنين إلى أن تسعى في أرجاء البلاد للبحث عنها.
أعياها السفر، وأتعبها البحث، وأجهدها التفكير، وأضناها ألم الفراق، فتفتق ذهنها عن حيلة جديدة، قدمت نفسها للخدمة في عدة بيوت، فلما اقتصدت مبلغا كافيا ذهبت إلى مصور مشهور، وطلبت منه أن يلتقط لها صورة وهي في منظر المتوسلة الضارعة وأن يطبع لها من هذه الصورة اثنتي عشرة واحدة من حجم كبير يلفت الأنظار، وأن يعطيها لخطاط يكتب تحت الصورة هذه العبارة (ما زلت أحبك يا ماري عودي اليّ).
أجاب المصور طلبها، وسلمها الصور، فقامت برحلات إلى كل مكان اعتقدت أن ابنتها قد تذهب إليه، وتوسلت إلى أصحاب الملاهي والمراقص أن يضعوا صورتها هذه في مكان ظاهر، فقد تأتي ماري وتراها فتنكسر أمام حبها وتعود وأشفق أصحاب الملاهي على المرأة العجوز. ووضعوا صورتها في مكان يلفت الأنظار.
وفي ليلة ما دخلت ماري إلى مرقص من هذه المراقص، كانت في تلك اللحظة محطمة النفس، ضعيفة الجسم فقد باعت نفسها للشيطان والخطية، ولم تجن منهما إلا الشوك والحسك كان أصدقاؤها قد هجروها، وكان المرض قد بدأ يدب في جسدها، وكانت نفسها قد استيقظت تطالبها بالتوبة والرجوع إلى أمها والى إلهها، وكان ما يقض مضجعها هو: هل تقبلها أمها في البيت بعد أن هجرتها؟ هل تصفح الأم المسكينة عن آثام ابنتها التي ضلت سواء السبيل؟ آه! ليتها تستطيع أن تعود، إنها بحاجة إلى صدر أمها الحنون، والى قبلاتها الطاهرة، والى كلماتها الرقيقة، والى غفرانها وصفحها، لكن هل يمكن؟
دخلت إلى المرقص وهي تترنح من الألم ، واسترعى انتباهها جماعة من الناس يتطلعون في صورة على الحائط، فدفعها الفضول أن تتقدم لنرى، وظلت تقترب وتقترب حتى تبينت صورة أمها، إنها هي ليس في ذلك أدنى ريب، لكن من الذي أتى بصورتها إلى هذا المكان؟ من الذي وضعها في هذا المكان الظاهر للعيان؟ واستمرت الفتاة تتأمل الصورة المعلقة أمامها!! هل يمكن أن تكون هذه الصورة هي صورة لامرأة شبيهة بأمها، آه! ما هذه الكلمات المكتوبة تحت الصورة (ما زلت أحبك يا ماري عودي اليّ)، ولم تحتمل الفتاة أكثر فقد تحطم قلبها أمام محبة والدتها فأسرعت إلى المحطة وركبت أول قطار إلى مدينتها، ودخلت لترتمي على صدر أمها وتطلب منها الصفح و الغفران وقد غفرت الأم!! غفرت منذ خرجت الشاردة من بيتها غفرت وكانت عودة ابنتها لتشعرها بهذا الغفران!!
إذا كانت هذه الصورة، صورة قوية للمحبة الغافرة، فهي في الواقع صورة باهتة إذا قيست بمحبة الله التي ظهرت في الصليب، فمحبة هذه الأم، هي محبة إنسان لإنسان أم لابنتها أما محبة الله، فهي محبة الله البار للإنسان الخاطىء.