إن الكثير من المفكرين والنقاد يتسائلون: ما هو تبرير الحروب والتاريخ الدموي لشعب إسرائيل في العهد القديم؟ إن هذا الموضوع صعب ومركب، لا يمكن أن يُرد عليه في مقال قصير، لكن سأختصر وأبسط الرد في ثلاث مقالات قصيرة.
سيكون موضوع هذا المقال عن كيفية تقسيم حروب شعب الرب في العهد القديم. أقسمهم أنا شخصيًا لستة أقسام، كما يلي:
1) قبل ولادة شعب إسرائيل: عاشت عائلة إبراهيم كعائلة عادية بدائية؛ كان تعدادها حوالي سبعين شخصًا، عندما هاجر يعقوب مع أبناءه لأرض مصر. واجهت هذه العائلة حربين، عاديتين، غير معادية لأحد. الأولى، هي حرب إبراهيم الدفاعية ضد أربعة ملوك ليسترجع ابن أخيه لوط من السبي. حدث ذلك بعد أن حارب خمس ملوك أربع ممالك، منها صدوم وعمورة، حيث كان يعيش لوط، فسبوه خلال الحرب. فعندما سمع إبراهيم الخبر، شن هو وعبيده حربًا شجاعة على الأربع ملوك، ليحرر ابن أخيه لوط من يدهم؛ والله بقدرته مكنه من ذلك (تكوين 14). أيضًا حرب أولاد يعقوب على شكيم، بعدما اغتصب شكيم ابن رئيس الأرض اختهم دينا وأذلها (تكين 34: 1-26). ومع أنها أيضًا حرب لعائلة بدائية تندرج بحسب جميع أعراف شعوب الأرض آنذاك، تحت حرب للدفاع عن النفس والشرف. لكن نرى من خلال النصوص كيف لعن يعقوب أولاده شمعون ولاوي على هذه الفعلة الظالمة المشينة؛ لأنهما تصرفا بمكر وغدر لأهل شكيم، فقال عنهما: "5 شِمْعُونُ وَلاَوِي أَخَوَانِ، آلاَتُ ظُلْمٍ سُيُوفُهُمَا" تكوين 49.
2) ولادة شعب إسرائيل في مصر: بعدما هاجرت عائلة يعقوب إلى مصر للعيش مع يوسف، بعد أن أصبح الرجل الثاني في مصر. نرى كيف ولد شعب إسرائيل كشعب في أرض مصر. عاش مُكرَّمًا على وقت يوسف؛ لكن سرعان ما اصبح شعبًا مذلولاً، مظلومًا، ومستعبدًا للمصريين، بعدما قام ملك في مصر لا يعرف يوسف: "8 ثُمَّ قَامَ مَلِكٌ جَدِيدٌ عَلَى مِصْرَ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ يُوسُفَ 9 فَقَالَ لِشَعْبِهِ: «هُوَذَا بَنُو إِسْرَائِيلَ شَعْبٌ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِنَّا 10 هَلُمَّ نَحْتَالُ لَهُمْ لِئَلاَّ يَنْمُوا، فَيَكُونَ إِذَا حَدَثَتْ حَرْبٌ أَنَّهُمْ يَنْضَمُّونَ إِلَى أَعْدَائِنَا وَيُحَارِبُونَنَا وَيَصْعَدُونَ مِنَ الأَرْضِ 11 فَجَعَلُوا عَلَيْهِمْ رُؤَسَاءَ تَسْخِيرٍ لِكَيْ يُذِلُّوهُمْ بِأَثْقَالِهِمْ، فَبَنَوْا لِفِرْعَوْنَ مَدِينَتَيْ مَخَازِنَ: فِيثُومَ، وَرَعَمْسِيسَ" خروج 1. فبقي شعب إسرائيل في مصر أكثر من 400 عام على هذا الحال، إلى أن أخرجهم الله من أرض مصر.
3) حرب الله ضد مصر وفرعون: في هذه الفترة، نعلم كيف أخرج الله شعب إسرائيل من أرض مصر، منزلا على يد موسى عشر ضربات معجزية قاسية لمصر وآلهاتها الوثنية؛ وكانت كأنها حرب ضد مصر مباشرة من الله. وكان في كل مرة يتوب فرعون فيها ويستسمح إله موسى، يرفع موسى يده للرب، فيوقف الضربة. والله عمل هذا عشر مرات، كانت الأخيرة منها موت كل بكر في ارض مصر. وذلك بسبب كبرياء ووقاحة فرعون الحاكم؛ ليعلم أن كل أوثانه زائفة؛ ولكي يعطي مجدًا لله الخالق، ويخرج شعب إسرائيل من مصر بحسب طلبه منه على فم موسى نبيه. حيث قال له الله قبيل الضربة الأخيرة: "12 فَإِنِّي أَجْتَازُ فِي أَرْضِ مِصْرَ هذِهِ اللَّيْلَةَ، وَأَضْرِبُ كُلَّ بِكْرٍ فِي أَرْضِ مِصْرَ مِنَ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ. <<<وَأَصْنَعُ أَحْكَامًا بِكُلِّ آلِهَةِ الْمِصْرِيِّينَ>>> أَنَا الرَّبُّ" خروج 12.
في هذه الفترة، لم يكن هناك أي حرب مع شعب إسرائيل، حيث كان يعيش في اضطهاد كبيرمن المصريين. بل كانت الحرب من الله شخصيًا ضد مصر وفرعون، بسبب كبريائه وعناده!
4) شعب إسرائيل في البرية: وبقي شعب إسرائيل في البرية أربعين سنة، حدث فيها عدة حروب:
حرب عماليق: أول حرب واجهها إسرائيل كانت مع عماليق، وعماليق هو من حاربهم أولا: "8 وَأَتَى عَمَالِيقُ وَحَارَبَ إِسْرَائِيلَ فِي رَفِيدِيمَ" خروج 17.
العمالقة والكنعانيون معًا: بعد هذا، بسبب تمرد شعب إسرائيل على الرب، جعلهم الرب فريسة لأعدائهم، فحاربهم العمالقة والكنعانيون وطاردوهم إلى مدينة حرمه: "45 فَنَزَلَ الْعَمَالِقَةُ وَالْكَنْعَانِيُّونَ السَّاكِنُونَ فِي ذلِكَ الْجَبَلِ وَضَرَبُوهُمْ وَكَسَّرُوهُمْ إِلَى حُرْمَةَ" العدد 14.
ملك عراد: أيضًا حاربهم ملك عراد، كحرب وقائية، مع أنهم لم يقتربوا إليه: "1 وَلَمَّا سَمِعَ الْكَنْعَانِيُّ مَلِكُ عَرَادَ السَّاكِنُ فِي الْجَنُوبِ أَنَّ إِسْرَائِيلَ جَاءَ فِي طَرِيقِ أَتَارِيمَ، حَارَبَ إِسْرَائِيلَ وَسَبَى مِنْهُمْ سَبْيًا" العدد 21.
حرب سيحون ملك الأموريين: حارب بني إسرائيل، بعد ما طلبوا إليه أن يمروا من تخومه، وتعهدوا له بأن لا يمدوا يدهم على شيء. لكنه لم يستأمنهم، بل بادر لمحاربتهم: "23 فَلَمْ يَسْمَحْ سِيحُونُ لإِسْرَائِيلَ بِالْمُرُورِ فِي تُخُومِهِ، بَلْ جَمَعَ سِيحُونُ جَمِيعَ قَوْمِهِ وَخَرَجَ لِلِقَاءِ إِسْرَائِيلَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَأَتَى إِلَى يَاهَصَ وَحَارَبَ إِسْرَائِيلَ 24 فَضَرَبَهُ إِسْرَائِيلُ بِحَدِّ السَّيْفِ وَمَلَكَ أَرْضَهُ مِنْ أَرْنُونَ إِلَى يَبُّوقَ إِلَى بَنِي عَمُّونَ. لأَنَّ تُخْمَ بَنِي عَمُّونَ كَانَ قَوِيًّا" العدد 21.
حرب عوج، ملك باشان: أيضًا عوج ملك باشان هب لحرب بني إسرائيل أولا، فقضى عليه بني إسرائيل، وامتلكوا دياره (العدد 21: 31-35).
حرب شعب إسرائيل على مديان: هذه الحرب الأولى التي كانت بدعوة من الله لشعب إسرائيل. وحدث هذا بعدما وقع شعب إسرائيل في مكيدة المديانيين، وزنى مع نسائهم وعبد إلههم الوثني بعل فغور. مما جعل الله يؤدبه ويطهره من هذه الرجاسة، فقتل منهم 24 ألف شخص بيوم واحد بالوبأ! هذا كان قضاء الله القاصي ضد شعبه بسبب الزنى والوثنية: "9 وَكَانَ الَّذِينَ مَاتُوا بِالْوَبَإِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا" العدد 25. فنرى بعد هذا الفاجعة مباشرةً، الله يوضح للشعب ما الذي حدث. كيف أن المديانيين دبروا مكيدة ضد شعب إسرائيل، وأغووه لكي يزنى بنسائهم، ويعبد إلههم الوثني بعل فغور. فالمديانيين عرفوا أن إله إسرائيل عادل، قدوس وطاهر، ولن يسمح لشعبه بأن يزنى في أي حال من الأحول؛ وأنه سيؤدبه ويضربه إذا فعل ذلك. فاستخدم المديانيون هذه المكيدة لكي يتمكنوا من كسر شعب إسرائيل. لذلك أمر الرب بضربهم: "16 ضَايِقُوا الْمِدْيَانِيِّينَ وَاضْرِبُوهُمْ، 17 ضَايِقُوا الْمِدْيَانِيِّينَ وَاضْرِبُوهُمْ، 18 لأَنَّهُمْ ضَايَقُوكُمْ بِمَكَايِدِهِمِ الَّتِي كَادُوكُمْ بِهَا فِي أَمْرِ فَغُورَ وَأَمْرِ كُزْبِي أُخْتِهِمْ بِنْتِ رَئِيسٍ لِمِدْيَانَ، الَّتِي قُتِلَتْ يَوْمَ الْوَبَإِ بِسَبَبِ فَغُورَ" العدد 25. طبعًا كما راينا، الله أمر بضربهم بعدما أدب شعبه إسرائيل أولا، وقتل منه 24 ألف شخص بالوبأ؛ فمكيدة المديانيين لا تحرره من مسؤولية الزنى والفحشاء أمام الله. مجدًا لاسم الرب المجيد العظيم؛ إنه فعلا إله قدوس وطاهر، ولا يقبل بالخطية، أيما كان المُخطئ.
5) دخول شعب إسرائيل لأرض كنعان: ومعظم الحروب فيها، هي بدعوة من الله لإجراء قضاءه على الشعوب بأرض كنعان بسبب العبادات الوثنية، والتسع رجاسات المرتكبة من خلالها، المدرجة في سفر التثنية 18: 10-14. جميع النقاد عادة يركزون على هذه الفترة، لذلك سنتناولها في موضوع المقال القادم. وسنرى لماذا دعى الله شعبه ليدخل أرض كنعان؟؟ لماذا أجرى قضاءً قاصيًا وصارمًا ضد الشعوب الساكنة فيها؟؟
6) إنهاء خطة حرب وطرد الشعوب من أرض كنعان: بعدما أدخل الله شعبه لأرض كنعان، لم يطع وصية الرب في تحريم الشعوب وطردها، بل استبقى الكثير منها. وهذا ما حذر منه الرب، أنه سيتسبب في استمالة قلب الشعب ليبعد الأوثان مثلهم ويصاهرهم؛ لذلك أنهى الله هذه المرحلة من الحروب بنفسه. فأصبحت جميع حروب إسرائيل بعدها بشكل عام، حروب دفاعية وليس هجومية.
واستمرت هذه الفترة لنهاية العهد القديم (لحوالي 4 قرون قبل مجيء المسيح). وبخصوص هذه الفترة، أيضًا سأخصص عنها مقال خاص بنعمة الرب.