ورد في نهاية أسفار موسى الخمسة، هذه الآيات: "5 فَمَاتَ هُنَاكَ مُوسَى عَبْدُ الرَّبِّ فِي أَرْضِ مُوآبَ حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ 6 وَدَفَنَهُ فِي الْجِوَاءِ فِي أَرْضِ مُوآبَ، مُقَابِلَ بَيْتِ فَغُورَ..." تثنية 34. فكيف يكون موسى هو الكاتب عن موته ودفنه؟؟
للجواب على هذا السؤال، نطرح ثلاث ملاحظات هامة من جهة أسفار موسى الخمسة:
أولا: إن أسفار التوراة نفسها، تؤكد أن الله من أمر موسى بكتابتها. وهذا ليس خيال، الأسفار نفسها تؤكد هذا:
"14 فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «اكْتُبْ هذَا تَذْكَارًا فِي الْكِتَابِ، وَضَعْهُ فِي مَسَامِعِ يَشُوعَ. فَإِنِّي سَوْفَ أَمْحُو ذِكْرَ عَمَالِيقَ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ»" خروج 17.
"27 وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «اكْتُبْ لِنَفْسِكَ هذِهِ الْكَلِمَاتِ، لأَنَّنِي بِحَسَبِ هذِهِ الْكَلِمَاتِ قَطَعْتُ عَهْدًا مَعَكَ وَمَعَ إِسْرَائِيلَ" خروج 34. فلم يقل له تذكر هذه الكمات؛ أو احفظ الكلام في الصدر أو في القلب؛ بل كان أمر الله قاطع، يجب أن يكتب كل ما يوحي الله به في كتاب ("سيفر" "ספר"ويعني مخطوطة مرنة مثل الجلد).
ثانيًا: إن الوحي ذاته دائمًا يشدد على أن الله هو مُعطي الوحي وليس النبي، والوحي يشدد أيضًا على مركزية الله وليس مركزية النبي أو الدين أو الوحي!! فالله لا يُشرك مجده مع البشر مهما كانوا: "مَجْدِي لاَ أُعْطِيهِ لآخَرَ" (أشعياء 42: 8). لذلك لم يدع الله أي نبي يحتكر وحيه أبدًا على مر كل العصور؛ بل كان دائمًا يستخدم عددًا من القديسين المعاصرين لبعضهم البعض، ليوحي لهم بكلامه. لكي يرجع كل المجد لله وحده دون أي شريك. ونعلم أيضًا أن الله وضع من الروح التي على موسى، على سبعين من شيوخ إسرائيل: "25 فَنَزَلَ الرَّبُّ فِي سَحَابَةٍ وَتَكَلَّمَ مَعَهُ، وَأَخَذَ مِنَ الرُّوحِ الَّذِي عَلَيْهِ وَجَعَلَ عَلَى السَّبْعِينَ رَجُلاً الشُّيُوخَ. فَلَمَّا حَلَّتْ عَلَيْهِمِ الرُّوحُ تَنَبَّأُوا، وَلكِنَّهُمْ لَمْ يَزِيدُوا" العدد 11. لذلك فمع أننا نعلم من الآيتين اللتين في النقطة الأولى، أن موسى هو من أُمر بكتابة وحي أول خمسة أسفار؛ لكن نرى أيضًا من وحي أسفار موسى ذاته، أن موسى هو ليس الوحيد الذي أمر بكتابة الوحي. وهذا ليس من نسيج الخيال، بل واضح من نصوص أسفار موسى ذاتها. حيث نرى كيف موسى نفسه يأمرهم بأن يكتبوا جزء منها أيضًا:
"19 فَالآنَ اكْتُبُوا لأَنْفُسِكُمْ هذَا النَّشِيدَ، وَعَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِيَّاهُ. ضَعْهُ فِي أَفْوَاهِهِمْ لِكَيْ يَكُونَ لِي هذَا النَّشِيدُ شَاهِدًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ" تثنية 31. من كلمة "اكتبوا" بالجمع في الآية، ومن نهج الله الذي انتهجه في كل وحي الكتاب المقدس، لا مانع أن يكون الشيوخ الذين حل عليهم روح الله الذي على موسى، قد كتبوا عن موته في نهاية أسفار موسى، بحسب أمر الله في الآية السابقة.
ثالثًا: أيضًا الوحي يؤكد أن أسفار شريعة موسى (أسفار التوراة) كانت مكتوبة بشكل كامل، وموجودة حالا بعد موت موسى (بحسب أمر الله لموسى في خروج 17: 14)، فكانت بين يدي يشوع. وهذا يبرهن أنه لم يكتب فيما بعد؛ ولم يحفظ في الصدور التي تنسى وتُخطئ؛ بل حُفظ ككتاب في أيدي شعب الرب بقيادة يشوع. نرى هذا في أول فصل من وحي يشوع نفسه، الذي أوكله موسى ليستكمل قيادة الشعب من بعده (تثنية 31: 14 و23)؛ حيث قال له الرب ما يلي:
"8 لاَ يَبْرَحْ سِفْرُ هذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنْ فَمِكَ، بَلْ تَلْهَجُ فِيهِ نَهَارًا وَلَيْلاً، لِكَيْ تَتَحَفَّظَ لِلْعَمَلِ حَسَبَ كُلِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهِ. لأَنَّكَ حِينَئِذٍ تُصْلِحُ طَرِيقَكَ وَحِينَئِذٍ تُفْلِحُ" يشوع 1. لاحظ أخي القارئ عبارة "سفر هذه الشريعة" إن حرف الدلالة "הַזֶּה" "هذه"، يدل على وجود نسخة من أسفار موسى مكتوبة بين يديه يدل عليها الله، عند بدء خدمته؛ أي عند استلامه الوكالة من موسى، نبي الله.
من جميع الدلائل والمبادئ السابقة، نرى أن موسى من أمر بكتابة أسفار الشريعة؛ ونرى أيضًا أن الله أمر آخرين بكتابة أجزاء منها. أيضًا مؤكد من بجاية وحي يشوع، أن أسفار موسى الخمسة كانت مكتوبة حالا عند وفاة موسى ومتاحة ليدي يشوع والشعب.