كما قلنا في المقال الأول، بعدما أدخل الله شعبه لأرض كنعان، لم يطع وصية الرب في تحريم الشعوب وطردها، بل استبقى الكثير منها. وهذا ما حذر منه الرب، أنه سيتسبب في استمالة قلب الشعب ليعبد الأوثان مثلهم ويصاهرهم؛ لذلك أنهى الله هذه المرحلة من الحروب بنفسه.
إن المذهل في هذا الموضوع كما قلنا سابقًا، هو ليس أن يشوع فقط ادعى بأن الله كلمه أن يقاتل شعوب أرض كنعان، بل بين الله ذلك بالمعجزات الصارخة. ونرى في هذه المرحلة أيضًا، أن يشوع لم يدع بأن الله غير الخطة، دون أي دليل واضح أيضًا. بل الله أرسل ملاكه ليخطب لكل الشعب بهذا الأمر، لكي لا يقدر الشعب أن يلوم يشوع على وقف الحروب لأنها ليست قضية بسيطة، بل يتعلق بها مصير شعوب كثيرة: "1 وَصَعِدَ مَلاَكُ الرَّبِّ مِنَ الْجِلْجَالِ إِلَى بُوكِيمَ وقَالَ: «قَدْ أَصْعَدْتُكُمْ مِنْ مِصْرَ وَأَتَيْتُ بِكُمْ إلَى الأَرْضِ الَّتِي أَقْسَمْتُ لآبَائِكُمْ, وَقُلْتُ: لاَ أَنْكُثُ عَهْدِي مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ. 2 وَأَنْتُمْ فَلاَ تَقْطَعُوا عَهْداً مَعَ سُكَّانِ هَذِهِ الأَرْضِ. اهْدِمُوا مَذَابِحَهُمْ. وَلَمْ تَسْمَعُوا لِصَوْتِي. فَمَاذَا عَمِلْتُمْ؟ 3 فَقُلْتُ أَيْضاً: لاَ أَطْردهُمْ مِنْ أمَامِكُمْ بَلْ يَكُونُونَ لَكُمْ مُضَايِقِينَ، وَتَكُونُ آلِهَتُهُمْ لَكُمْ شَرَكاً>>>. 4 وكَانَ لَمَّا تَكَلَّمَ مَلاَكُ الرَّبِّ بِهَذَا الْكَلاَمِ إِلَى جَمِيعِ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّ الشَّعْبَ رَفَعُوا صَوْتَهُمْ وَبَكُوا. 5 فَدَعُوا اسْمَ ذَلِكَ الْمَكَانِ «بُوكِيمَ». وَذَبَحُوا هُنَاكَ لِلرَّبِّ." قضاة 2.
فدعونا نتخيل هذا الحدث العظيم المُعجز، إن يظهر ملاك الرب لجميع الشعب بمجده، ويكلمهم معًا بكلمات مصيرية تبرز تغيير في قضاء الله وخطته. لكي لا يستطيع أن يأتي قائد أو "نبي" مبتدع، يدَّعي أن الله أمره أن يقاتل غير المؤمنين، دون أي دليل واضح للناس وللبشرية، كالحروب الصليبية في العصور الوسطى مثلا وحروب دينية أخرى عبر التاريخ. أما إله إبراهيم الحقيقي في الوحي الإلهي، رأينا كيف أنه بعدما أكد دوره ومشيئته بصنع المعجزات أمام جميع الشعوب، حيث شق مياه نهر الأردن قبل أرسال الشعب ليدخلوا الأرض (يشوع 3: 15-16). اليوم يرسل الله ملاكه ويكلم جميع الشعب معًا بكلمة الله الموبِّخة؛ بأن الله عَدَلَ عن خِطته الأولى لطرد الشعوب من أرض كنعان. وأمر بخطة بديلة، ليست بحسب مشيئته، بأنه سوف لا يطرد الشعوب من الأرض. وسيكونون لهم دائمًا مصدر ضيق وإغواء؛ وذلك لأن الشعب لم يُطِع أوامره. مما يبين أن الله يريد شعب نقي دون أي تنازل أو مساومة؛ وأيضًا يبين بأن طرد الشعوب من أرض كنعان هو ليس هدف بحد ذاته؛ ولا ينظر لهم الرب كشعوب أقل قيمة من شعب إسرائيل. لكن الله يريد شعب مقدس على أرض لا يسكنها إلا عابدو إله إبراهيم، ليكونوا شهادة وبركة لأولئك الشعوب ولكل الأمم فيما بعد. وفعلا صدق ملاك الرب في كل ما قال، فمنذ ذلك الوقت إلى هذا اليوم، وباقي الشعوب موجودة في أرض كنعان؛ ولم ولن تخرج من هذه الأرض أبدًا إلى مجيء الرب.
دينونة شعب إسرائيل الفورية بعد تمردهم:
فنرى أيضًا من هذا الإله المجيد العظيم العادل والطاهر، أنه حالا بعدما لم يطع الشعب وصية الرب، أسلم الرب الشعب ليد أعدائهم، ليضايقوهم ويذلوهم، بسبب ابتعادهم عنه. فيما يلي نبذة عن هذا القضاء الفوري ضد شعب إسرائيل فقط من سفر القضاة، أي حالا بعد موت يشوع: "فَعَمِلَ بَنُو إسْرَائِيلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إسْرَائِيلَ، فَبَاعَهُمْ بِيَدِ كُوشَانَ رشَعْتَايِمَ مَلِكِ أَرَامِ النَّهْريْنِ لمدة ثماني سنين" (القضاة 3: 7-8). وزاغ أيضًا إسرائيل عن طريق الرب، فشدد الرب عجلون ملك موآب، مع الأموريين وعماليق، عليهم وحكموهم لمدة ثماني عشرةَ سنة (القضاة 3: 12-14). وفعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب، فأسقطهم الرب بيد يابين ملك كنعان لمدة عشرين سنة، فاستنجد بنو سرائيل بالرب، فأرسل لهم الرب النبية والقاضية دبورة (القضاة 4). "وَعَمِلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، فَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ لِيَدِ مِدْيَانَ سَبْعَ سِنِينَ." (القضاة 6). فأرسل لهم جدعون. وتكرر نفس التمرد من بني إسرائيل مرارًا وتكرارًا، فسلمهم ليد الفلسطينيين والعمونيين لمدة ثماني عشر سنة (القضاة 10: 6-9)؛ كذلك أخضعهم لسيطرت الفلسطينيين لمدة أربعين سنة (القضاة 12: 1). فنرى في النصوص السابقة، أن شعب إسرائيل استعبد لأعداءه لمدة 111 سنة، في فترة تاريخية مدتها 284 سنة!! وهذا عذاب كبير وأليم جدًا للشعب!!
نرى أيضًا الله يجرب قضاءً قاصيًا وصارمًا ضد سبط بنيامين بسبب الرجاسة التي ارتكبوها. حيث قامت مجموعة من الرجال منهم، باختصاب أحد نساء بني لاوي؛ ورفض القبيلة تسليم الرجال التي فعلوا تلك الفحشاء لقضاء الرب! فحرك الرب بني إسرائيل لتأديبهم فقُتل في ذلك اليوم خمسة وعشرين ألف وستمائة شخص (القضاة 20). وكان النتيجة لهذا، أن قبيلة بنيامين بأكملها تقريبًا أبيدك من إسرائيل (القضاة 21: 6-7)؛ وانتهى سفر القضاة بتلك المأساة الكبرى.
فبعد أن خطب ملاك الرب للشعب جميعًا معلنًا تغيير الله لخطته من جهة الحروب ضد شعوب أرض كنعان؛ نرى أنه منذ تلك اللحظة إلى آخر العهد القديم، أصبحت جميع حروب إسرائيل بشكل عام حروب دفاعية وليس هجومية. لذلك يؤكد سفر القضاة كما رأينا سابقًا، سيرة الشعب المأساوية حالا بعد موت يشوع، كيف وضع الله دينونة كبيرة على شعب إسرائيل، وجعلهم فريسة سهلة أمام أعدائهم، وأباد قبيلة بأكملها منهم، بسبب الخطية والشر وعبادة الأوثان.
ربما يقول قائل: "ونحن أيضًا تمر شعوبنا اليوم في حالة تسلط دول الغرب عليهم، لأنهم بعيدين عن الدين والله"
إن هذا الادعاء مختلف تمامًا عما نراه في تلك النوصوص، إن الشعب أسلم إلى تسلط الشعوب الأخرى، مع وجود رسالة نبوية واضحة إليه، يفسِّر فيها الله للشعب لماذا حدث ما حدث، وما هو مطلوب منه. ليس كالديانات الأخرى، التي يتركهم إلههم الصامت حائرين؛ دون أي إعلان إلهي أو نبوي واضح، يقول لهم لماذا حدث ما حدث، وماذا يريدهم أن يفعلوا. فنرى في كل فترة العهد القديم حوارًا مستمرًا بين الله والشعب لم يتوقف أبدًا، حيث كان هناك دائمًا أنبياء ينقلون رسالة الله النبوية للشعب، ليفسر له ما هي المشكلة وماذا يريد منه إلهه. مما يبرهن بالحقيقة أن الله فعلا كان يحكم على شعبه بالشريعة الإلهية، أي كان وجوده معهم دائمًا واضحًا ومعجزًا، برسالته وتدخله. على سبيل المثال:
" 10 فَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إلَى الرَّبِّ: «أَخْطَأْنَا إِلَيْكَ لأَنَّنَا تَرَكْنَا إِلَهَنَا وَعَبَدْنَا الْبَعْلِيمَ». 11 فَقَالَ الرَّبُّ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: «أَلَيْسَ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ وَالأمُورِيِّينَ وَبَنِي عَمُّونَ وَالْفِلِسْطِينِيِّينَ خَلَّصْتُكُمْ؟ 12 وَالصَّيْدُونِيُّونَ وَالْعَمَالِقَةُ وَالْمَعُونِيُّونَ قَدْ ضَايَقُوكُمْ فَصَرَخْتُمْ إلَيَّ فَخَلَّصْتُكُمْ مِنْ أيْدِيهِمْ؟ 13 وَأَنْتُمْ قَدْ تَرَكْتُمُونِي وَعَبَدْتُمْ آلِهَةً أخْرَى. لِذَلِكَ لاَ أعُودُ أُخَلِّصُكُمْ. 14 اِمْضُوا واصْرُخُوا إلَى الآلِهَةِ الَّتِي اخْتَرْتُمُوهَا. لِتُخَلِّصْكُمْ هِيَ فِي زمَانِ ضِيقِكُمْ». 15 فَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِلرَّبِّ: «أَخْطَأْنَا فَافْعَلْ بِنَا كُلَّ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ. إِنَّمَا أَنْقِذْنَا هَذَا الْيَوْمَ». 16 وَأَزَالُوا الآلِهَةَ الْغَرِيبَةَ مِنْ وسَطِهِمْ وَعَبَدُوا الرَّبَّ، فَضَاقَتْ نَفْسُهُ (أي نفس الرب) بِسَبَبِ مَشَقَّةِ إِسْرَائِيلَ." القضاة 10.
كما نرى أنه كان هناك حوار مستمر بين الشعب والله، يكلم فيه الله الشعب بوضوح، ولا يتركه حائرًا ضائعًا متخبطًا دون أي رسالة نبوية تعلل وتوضح له الأسباب لحالته، والحلول لها.