يؤكد الرسول بولس قيامة المسيح، ويشرح معناها في حياة المؤمن، فيقول: «الآنَ قَدْ قَامَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ» (1كورنثوس 15: 20)، وهكذا خَتَم البشير يُوحنّا بشارته، بإعلان وتأكيد قيامة المسيح من الموت، فَكَتَب: «وَفِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ إِلَى الْقَبْرِ بَاكِراً وَالظّلاَمُ بَاقٍ. فَنَظَرَتِ الْحَجَرَ مَرْفُوعاً عَنِ الْقَبْرِ. فَرَكَضَتْ وَجَاءَتْ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلْمِيذِ الآخَرِ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ وَقَالَتْ لَهُمَا: «أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ» (يوحنا 20: 1-2)، وكأني يوحنّا يود إخبارنا بأنَّ قيامة المسيح تزامنت مع عيد الباكورة، وأنَّ يسوع في قيامته صباح يوم الأحد، حقق عيدًا يهوديًا، وأضفى معنىً جديدًا عليه، وهذا العيد هو «عيد الباكورة».
نقرأ عن عيد الباكورة، في سفر اللاويين، حيث يقول الرب لموسى: «قُلْ لِبَنِي اسْرَائِيلَ: مَتَى جِئْتُمْ إلَى الأرْضِ الَّتِي أنَا اعْطِيكُمْ وَحَصَدْتُمْ حَصِيدَهَا تَأتُونَ بِحُزْمَةِ أوَّلِ حَصِيدِكُمْ إلَى الْكَاهِنِ. فَيُرَدِّدُ الْحُزْمَةَ امَامَ الرَّبِّ لِلرِّضَا عَنْكُمْ. فِي غَدِ السَّبْتِ يُرَدِّدُهَا الْكَاهِنُ. وَتَعْمَلُونَ يَوْمَ تَرْدِيدِكُمُ الْحُزْمَةَ خَرُوفًا صَحِيحًا حَوْلِيّا مُحْرَقَةً لِلرَّبِّ. وَتَقْدِمَتَهُ عُشْرَيْنِ مِنْ دَقِيقٍ مَلْتُوتٍ بِزَيْتٍ وَقُودًا لِلرَّبِّ رَائِحَةَ سُرُورٍ وَسَكِيبَهُ رُبْعَ الْهِينِ مِنْ خَمْرٍ. وَخُبْزًا وَفَرِيكًا وَسَوِيقًا لا تَأكُلُوا إلَى هَذَا الْيَوْمِ عَيْنِهِ إلَى أنْ تَاتُوا بِقُرْبَانِ الَهِكُمْ فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً فِي أجْيَالِكُمْ فِي جَمِيعِ مَسَاكِنِكُمْ» (لاويين 23: 10: 14)؛ كان يُحتَفل بعيد الباكورة، غداة يوم السبت التالي للفصح؛ أي يوم الأحد الأول بعد الفِصح، ورأينا كيف حقق يسوع الفصح، عندما عُلِّق على الصليب وقت ذبح الفصح اليهودي (يوحنا 18: 28)، فكان هو فصحنا (1كورنثوس 5: 7)، وفي دفنه كان يُحقق عيد الفطير، الذي لا يؤكل فيه خبزًا مختمرًا، وفي وقت تقديم الباكورة، حيث كان اليهودي يُقدِّم حزمة الباكورة، للكاهن ليرددها أمام الرب، لينال رضاه، وبركته، قام يسوع من الموت ليُكون هو «الباكورة».
وفي حواره مع المجدليّة، عندما حاولت أن تلمسه، قال لها: «لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلَكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ» (يوحنا 20: 17)؛ ولأنَّه يعرف تمامًا معنى الباكورة، كان عليه أن يُري نفسه أولًا للآب، ولينال رضاه على قيامته، ويُباركها، حتى أنَّ الرسول بولس يكتب: «وَتَعَيَّنَ ابْنَ اللهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ الْقَدَاسَةِ بِالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ: يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا» (رومية 1: 4)؛ لقد «قَامَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ» (1كورنثوس 15: 20).
وإذا كان «عيد الفصح»، إعلان التمتع بالخلاص الإلهي، وبداية عهدٍ جديد، فإنَّ «عيد الباكورة»، يُعدّ إعلان التمتع بالبركات والدخول إلى الراحة، وتملك الأرض، وحصد حصاد مبارك، والشعور بالطمأنينة، وهكذا في قيامة المسيح، يكتب يوحنا: «وَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ أَوَّلُ الأُسْبُوعِ وَكَانَتِ الأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ التّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الْوَسَطِ وَقَالَ لَهُمْ: «سلاَمٌ لَكُمْ» (يوحنا 20: 19)؛ أولى بركات القيامة التي منحها المسيح لتلاميذه وتابعيه، كان يقين الانتصار على الموت، طرد الخوف، منح السلام، قبول عطية الروح القدس.
صُلب يسوع ودُفن في «عيد الفصح»، وقام من الموت في اليوم الثالث، «عيد الباكورة». في يوم قيامته، كان الرجال اليهود الذين كانوا أرباب منازل يصعدون درجات الهيكل لتقديم قربان مقبول أمام الرب. وبنفس الطريقة، صعد يسوع إلى الهيكل السماوي، المسكن المصنوع من دون أيدٍ، ليقدم نفسه قربانًا مقبولًا (يوحنا 20: 17؛ عبرانيين 9: 11)؛ قيامة يسوع بدأت حياة جديدة. وباعتباره باكورة، فإنَّ قيامته تمنح الحياة لمن مات ودُفن معه، بمعنى آخر، عندما يؤمن الإنسان بيسوع المسيح، مُخلِّصًا، حمل الله الذي يرفع خطية العالم، ويُدفن معه، فإنَّ يسوع المُقام، يمنحه نُصرة القيامة، والحياة الفياضة، التي تدوم إلى الأبد؛ «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ» (رومية 6: 5)، وهذا يتجلى واضحًا فيما كتبه يوحنا في ختام هذا الفصل، قائلًا: «وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ.» (يوحنا 20: 31).
تمّم المسيح في قيامته كل ما يُشير إليه عيد الباكورة (لاويين 23: 10)، فقد قام المسيح ظافرًا منتصرًا في يوم عيد الباكورة ليكون هُوَ، «بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ»، وليمنحنا الرجاء في الحياة الأبديّة، يكتب الرسول بولس مؤكدًا هذه الحقيقة قائلًا: «وَلَكِنِ الآنَ قَدْ قَامَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ» (1كورنثوس 15: 20).
وبالقطع، لا يغيب عنّا أنَّ سفر اللاويين في الفصل الثالث والعشرين، يُقدَّمُ لنا سجلًا كاملًا بالأعياد اليهوديّة، موزّعة على مدار العام، بعضٌ منها يأتي في فصل الربيع، والآخر يأتي في فصل الخريف، وفي حين يعتقد بعض الدارسين أنَّ الأعياد الربيعيّة (الفصح، الفطير، الباكورة، الأسابيع)، هي التي حققها يسوع، ويتبقى الأعياد الخريفيّة (الأبواق، الكفارة، المظال)، سيُحققها في مجيئه الثاني، يرى بعض آخر من الدراسين أنَّ التركيز الأساسي للأعياد اليهوديّة كان على شخص المسيح، وعمله الفدائي لأجلنا، وهذا ينطبق أيضًا على أعياد الخريف فمثلًا في يوم الغفران/ الكفارة، ومن أهم جوانب هذا اليوم هو فكرة كبش الفداء، وهو اليوم الوحيد في السنة الذي يدخل فيه رئيس الكهنة إلى خلف الحجاب في قدس أقداس الهيكل، وقد دخل يسوع بدم نفسه إلى قدس الأقدس فوجد لنا فداءً أبديًا، هذا ما سجلَّه كاتب العبرانيين بالروح القدس قائلًا: «وَأَمَّا الْمَسِيحُ، وَهُوَ قَدْ جَاءَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ لِلْخَيْرَاتِ الْعَتِيدَةِ، فَبِالْمَسْكَنِ الأَعْظَمِ وَالأَكْمَلِ، غَيْرِ الْمَصْنُوعِ بِيَدٍ، أَيِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْخَلِيقَةِ. وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً ... فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى «الأَقْدَاسِ» بِدَمِ يَسُوعَ، طَرِيقاً كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثاً حَيّاً، بِالْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ، وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ اللهِ، لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ الإِيمَانِ، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ. لِنَتَمَسَّكْ بِإِقْرَارِ الرَّجَاءِ رَاسِخاً، لأَنَّ الَّذِي وَعَدَ هُوَ أَمِينٌ» (عبرانيين 9: 11-12، 10: 19-23).