الإيمان العامل بالمحبة...
يقول بولس الرسول في الأصحاح الخامس من رسالته إلى أهل غلاطية: "لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لاَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلاَ الْغُرْلَةُ، بَلِ الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ." (غلاطية 5: 6)
ما معنى الإيمان العامل بالمحبة الذي يتحدث عنه بولس الرسول في هذا الأصحاح؟
يؤكّد بولس الرسول في رسالته التي وجهها إلى المؤمنين المسيحيين في غلاطية على أهمية إقتران الإيمان المسيحي بالأعمال الصالحة في الحياة المسيحية الحقة جاعلاً ذلك حقيقة إيمانية.
وهذا يتوافق ويتطابق مع ما قاله يعقوب الرسول في الأصحاح الثاني من رسالته:
"هكَذَا الإِيمَانُ أَيْضًا، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَالٌ، مَيِّتٌ فِي ذَاتِهِ. لكِنْ يَقُولُ قَائِلٌ: «أَنْتَ لَكَ إِيمَانٌ، وَأَنَا لِي أَعْمَالٌ» أَرِنِي إِيمَانَكَ بِدُونِ أَعْمَالِكَ، وَأَنَا أُرِيكَ بِأَعْمَالِي إِيمَانِي. أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ. حَسَنًا تَفْعَلُ. وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ! وَلكِنْ هَلْ تُرِيدُ أَنْ تَعْلَمَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ الْبَاطِلُ أَنَّ الإِيمَانَ بِدُونِ أَعْمَال مَيِّتٌ؟ يعقوب ٢: ١٧-٢٠
بدايةً، تعالوا نتأمل معاً في العبارات التالية:
”لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لاَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلاَ الْغُرْلَةُ" غلاطية 5: 6
الختان كان يشكل علامة للعلاقة بين الله وبين شعبه في العهد القديم. حيث أن كل من كان يُختَتَن، كان يصير جزءًا من شعب الله. وأما من لا يُختَتَن، فكان يتم إقتطاع نفسه من شعب الرب. والغاية الرئيسية من الناموس والوصايا كانت للتهذيب.
أما الآن، في العهد الجديد، فقد جاء الرب يسوع المسيح متجسداً حتى يتحد مع خليقته من البشر ويعطيها حياة أبدية.
وعندما نتّحد مع الرب يسوع في موته وقيامته نُصبح أولاداً لله. وفي لحظة انسكاب الروح القدس في قلوبنا، ندخل في علاقة محبة مع الآب السماوي، كما يقول بولس الرسول في الاصحاح الخامس من رسالته إلى أهل رومية: "وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي، لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا." (رومية 5: 5).
علاقة المحبة هذه هي علاقة قلبية مباشرة مع الله، وهي ليست متعلقة بالختان أو الغرلة أو الناموس، بل هي تعتمد على الثقة الكاملة والإتكال على الرب. حيث يقول كاتب رسالة العبرانيين في الاصحاح الحادي العشر: "وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى." (عبرانيين 11: 1).
الفرق بين علاقة الرب مع شعبه في العهد القديم وبين علاقته مع شعبه في العهد الجديد، هو أن العلاقة في العهد القديم كانت تعتمد على الختان أو الغرلة وعلى الناموس والوصايا والشرائع. أما اليوم، في العهد الجديد، فقد صارت العلاقة تعتمد على الإيمان بالرب يسوع والثقة الكاملة به والدخول معه في رباط المحبة السماوي الأبدي.
على الرغم من أهمية الختان في العهد القديم، إلا أن شعب الرب لم ينتفع من الختان حتى يتجه نحو الخلاص الحقيقي الأبدي. حيث أن رؤساء الكهنة اليهود والفريسيين قد صلبوا المسيح يسوع ورفضوه بالرغم من كونهم مختونين ختاناً جسدياً.
أي أن البشرية لم تنجح في إرضاء عدالة الله من خلال الختان الجسدي ومحاولة تطبيق وصايا الناموس.
وهكذا فإننا نرى أن الإيمان بالرب يسوع هو الطريق الوحيد للخليقة الجديدة والخلاص والحياة الأبدية.
ولكن في هذا السياق، علينا أن نطرح سؤالاً وجيهاً:
ما هو الإيمان المسيحي الذي يقود إلى الخلاص والحياة الأبدية؟
هل هو مجرد إيمان عقلي نظري يعتمد على معرفة ذهنية معلوماتية بدون تطبيق أو ممارسة عملية؟
لو كان الإيمان المسيحي كذلك، لما قال يعقوب الرسول كلماته المذكورة أعلاه: "هكَذَا الإِيمَانُ أَيْضًا، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَالٌ، مَيِّتٌ فِي ذَاتِهِ. لكِنْ يَقُولُ قَائِلٌ: «أَنْتَ لَكَ إِيمَانٌ، وَأَنَا لِي أَعْمَالٌ» أَرِنِي إِيمَانَكَ بِدُونِ أَعْمَالِكَ، وَأَنَا أُرِيكَ بِأَعْمَالِي إِيمَانِي. أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ. حَسَنًا تَفْعَلُ. وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ! وَلكِنْ هَلْ تُرِيدُ أَنْ تَعْلَمَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ الْبَاطِلُ أَنَّ الإِيمَانَ بِدُونِ أَعْمَال مَيِّتٌ؟ يعقوب ٢: ١٧-٢٠
من المستحيل أن يكون الإيمان المسيحي إيماناً حقيقياً إلا إذا كان ظاهراً ومقترناً بالأعمال الناتجة عنه.
على مدار عصور طويلة، قامت الكنيسة بالتشديد والتركيز على فكرة الخلاص والتبرير بالإيمان وحده. وهي فكرة كتابية بحتة، لا نقاش فيها ولا لبس فيها.
ولكن يجب التركيز على الجزء الآخر من هذه الفكرة أيضاً: وهو أن الإيمان بدون أعمال هو إيمان ميت، غير مثمر وغير فعال. فهو مشابه لإيمان الشياطين التي تؤمن وتقشعر. (رسالة يعقوب ٢: ١٩).
صحيح أن الكتاب المقدس يعلن بوضوح أن التبرير بالإيمان وأن الخلاص بالنعمة فقط. ولكن على الرغم من أهمية هذا المبدأ ومصداقيته وصدقه، إلا أن كنيسة الله أهملت وتجاهلت جانباً آخر من كلمة الحق في أيامنا هذه، وهو أن الإيمان الحقيقي الذي يمنحنا التبرير والخلاص هو الإيمان العامل بالمحبة، أي الإيمان الفعال المثمر المبني على القداسة، التقديس، التوبة والسلوك المسيحي القويم. فهو ليس مجرد إيماناً نظرياً عقلياً بدون تطبيق أو ممارسة أو بدون أعمال ناتجة عن الإيمان.
وبسبب هذا الإهمال والتجاهل الخطير فإننا نرى مؤمنين كثيرين يسلكون بالجسد ويعيشون حياة الفتور الروحي والتهاون مع الخطية بسبب عدم فهمهم أو عدم إدراكهم لأهمية الجانب الآخر من التعليم الكتابي.
وهذا يؤدي إلى ضعف تأثير خدمات الكنيسة الحالية على العالم المحيط بها.
لذلك ينبغي على كنيسة الله أن تشدّد وتسلّط الضوء في تعليمها على أهمية مفهوم الإيمان المسيحي الحقيقي العامل بالمحبة وأهمية التقديس والتوبة والسلوك بالروح القدس.
في الأصحاح الحادي عشر من رسالته إلى العبرانيين، قام الكاتب بتعريف الإيمان بأنه يتمحور حول الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى." (عبرانيين 11: 1). ففي هذا الأصحاح، يشدد الكاتب على جانب واحد من الإيمان المسيحي:
الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى:
نحن نثق بالرب إلهنا، ونؤمن إيماناً صادقاً قوياً لا يتزعزع بأنه إله كلي الوجود والقدرة والمعرفة. نحن نؤمن أنه قد منحنا الخلاص والفداء من خلال الكفارة في الصليب عندما سالت دمائه الكريمة الطاهرة على خشبة الصليب لأجلنا. نؤمن أنه قادر على حمايتنا ورعايتنا. نؤمن أنه يحبنا، يدبر كل أمورنا ويصنع كل ما هو لخيرنا.
وفي ذات الأصحاح (الحادي عشر) يتابع كاتب رسالة العبرانيين حديثه عن محور الثقة واليقين، حيث يقول أيضاً: "وَلكِنْ بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ، لأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي إِلَى اللهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ يُجَازِي الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ." (عبرانيين 11: 6).
ولكن في الأصحاح الذي يليه - أي الأصحاح الثاني عشر من الرسالة ذاتها - يتحدث الكاتب عن الجانب الآخر من الإيمان، وهو الجانب الذي يظهر في الثمار والقداسة والجهاد الروحي، حيث يقول:
"اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ، وَالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ،" (عبرانيين 12: 14).
في هذه الآية، يشدد بولس الرسول على سمات الجهاد الروحي:
أولاً: علينا أن نتّبع السلام مع الجميع. أي أن نحتمل ضعفات الآخرين وأن نتعامل معهم بمحبة رغم كل العثرات والصعوبات والإختلافات.
ثانياً: علينا أن نعيش حياة القداسة. أي أن نرضي الله إرضاءً كاملاً في سلوكياتنا وأسلوب حياتنا. فإذا كان المؤمن يحب المسيح محبة حقيقية، فإنه يتوجب عليه أن يرفض الحياة الشريرة والأساليب الملتوية المتهاونة مع الخطية، وعليه أن ينشغل بالكامل في إرضاء الرب. أي أن يحب الرب إلهه من كل قلبه، مِنْ كُلِّ نَفْسِه، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِه، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِه، وَأن يحب قَرِيبَه مِثْلَ نفسه. (لوقا ١٠: ٢٧)
القداسة التي يتحدث عنها كاتب رسالة العبرانيين في الأصحاح الثاني عشر، توازي نقاوة القلب التي تحدث عنها السيد المسيح في عظته على الجبل عندما قال: "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (متى 5: 8).
والسلام الذي يتحدث عنه كاتب رسالة العبرانيين في هذا الأصحاح يوازي ما قاله السيد المسيح في عظته على الجبل عندما قال "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعَون" (متى 5: 9).
بدون هذه القداسة المذكورة أعلاه لن يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ. ما المقصود بذلك؟
هنالك بُعدَين لهذه العبارة:
البُعد الأول هو المفهوم السماوي:
عبارة "لن يرى الرب" في المفهوم السماوي الأبدي: تعني أنه لن يتواجد في محضر الرب ولن يستمتع بميراث الملكوت السماوي طالما أنه لا يعيش هذه القداسة ولا يسلك فيها.
أما البُعد الثاني فهو المفهوم الأرضي:
عبارة "لن يرى الرب" في المفهوم الأرضي الزمني، أي المقصود هنا خلال حياته على الأرض: فإنها تعني أنه لن يُدرك محبة الله الفائقة ولن يفرح بأحكام الله ولن يرى قدرة الله اللا-محدودة حتى يتحرر من كل أنواع الخوف والقلق والضعف بالهزيمة في حياته الأرضية الزمنية.
إذن، هكذا نحن نرى أن رسالة العبرانيين التي تُسهِب في الحديث عن الإيمان المسيحي ومفهومه، تتحدث عن الجانبين المذكورين في هذا المقال:
الجانب الأول يتمحور في الثقة واليقين في تعاملاتنا مع الرب. والجانب الآخر هو الجانب العملي السلوكي الأخلاقي الذي يتجلى بالثمار والأعمال والسلوكيات التي من المفروض أن تكون ناتجة عن حياة القداسة، نقاوة القلب، صنع السلام، التوبة وإدراك محبة الله الفائقة المنسوبة في قلوبنا بالروح القدس.
هذا الجانبان يرتبطان ارتباطاً وثيقاً ومباشراً مع بعضهما البعض. هما يكملان أحدهما الآخر. ولا يمكن أن يتم فصلهما عن بعضهما البعض. لا يأتي أحدهما على حساب الآخر، ولا يلغي أحدهما الآخر.
صلاتي لنا جميعاً كمؤمنين بالرب يسوع المسيح أن ندرك أهمية هذين الجانبين بكل أبعادهما الروحية، وألا نكتفي بالإيمان العقلي المعلوماتي، بل أن نبدأ بتطبيق ما نؤمن به ونعيشه ونمارسه حتى يتحول إلى إيمان عملي حي فعال ومثمر يقودنا إلى القداسة العملية السلوكية التي تُرضي قلب الرب.
آمين.