«أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» (يوحنا 18: 34-19: 11).
بعد أن أُلقيَّ القبض على يسوع، مساء يوم الخميس، في بُستان جثسيماني، تعرَّض لمحاكمتين، تحت جنح الظلام، أولهما دينيّة، وثانيهما مدنيّة، وقد شملت كل محاكمة على ثلاث جلسات، فقد عُرِضَ أولًا على حنَّان رئيس الكهنة السابق، الذي لم يسأل يسوع، سوى عَنْ تلاَمِيذِهِ وَعَنْ تَعْلِيمِهِ (يوحنا 18: 12-14، 24)، بعدها أُخِذَ إلى قيافا رئيس الكهنة في ذلك الوقت، وكان صِهرًا لحنَّان، وكانت مهمة قيافا أن يجمع الأدلة التي تدين يسوع، ولأنَّه لم يجد ما يدين يسوع، لجأ إلى شهود زور كثيرين، وأخيرًا وجد واحدًا يدعي على يسوع بأنَّه يستطيع هدم الهيكل وإقامته ثانية في ثلاثة أيام، ثم استحلف قيافا رئيس الكهنة يسوع بأن يُجيب هل هو المسيح ابن الله؟ ولمَّا كانت إجابة يسوع توحي بالموافقة، اتهمه رئيس الكهنة بالتجديف (متى 26: 57-68)، قُدمت هذه التُهم التي ألحقها به قيافا، إلى جلسة ثالثة أمام السنهدرين، والتي كانت جلسةٌ قصيرة جدًا ومستعجلة، لكنَّهم أقرَّوا تلك التُهم، ومن ثم أحالوه للقضاء المدني لاستصدار حكمًا بالموت، وهكذا بدأت المحاكمة المدنيّة ليسوع، والتي تمت في ثلاث جلسات، الأولى أمام بيلاطس الحاكم الروماني (يوحنا 18: 28-38)، والثانية أمام هيرودس (لوقا 23: 6-12)، والجلسة الثالثة والأخيرة، كانت أمام بيلاطس (يوحنا 18: 39-19: 16)، والتي وجد فيها يسوع غير مذنبٍ، لكنَّه خضوعًا لليهود وخوفًا من أن يشتكوه أمام قيصر، سلَّم لهم المسيح، ليُصلب وفقًا للقانون الروماني، وتحت مرأى ومسمع القيادات الدينيّة اليهوديّة.
ومع أنَّ البشير يوحنا لم يُركِز على المحاكمات أمام رئيس الكهنة أو مجمع السنهدرين، نراه يتحدث باستفاضة عما دار في محاكمة يسوع أمام بيلاطس، وبيلاطس في محاكمته ليسوع وجَّه إليه -بحسب البشير يوحنا- سبعة أسئلة تتعلق بهُويَّة ورسالة يسوع المسيح، وهذه الأسئلة هي: 1) «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟»؛ 2) «أُمَّتُكَ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَسْلَمُوكَ إِلَيَّ. مَاذَا فَعَلْتَ؟»؛ 3) «أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟»؛ 4) «مَا هُوَ الْحَقُّ؟»؛ 5) «مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟»؛ 6) «أَمَا تُكَلِّمُنِي؟ 7) أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ لِي سُلْطَاناً أَنْ أَصْلِبَكَ وَسُلْطَاناً أَنْ أُطْلِقَكَ؟» (يوحنا 18: 34-19: 11).
السؤال الأول: «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» (يوحنا 18: 34)؛ كان هذا هو السؤال الأول الذي وجهه بيلاطس للمسيح، حيث كان يقوم بعمله الطبيعي كمحقق عن طريق توجيه التهمة إلى المتهم، باستخدام أسئلة مباشرة تمشيًا مع الإجراءات القانونيّة الرومانيَّة، لكنَّ هذا السؤال كان محوريًا في فكر بيلاطس قبل أن يبدأ محاكمة يسوع، لأنَّه إذا كان يسوع ملكًا بالمفهوم الروماني، فهذا معناه تمردًا وعصيانًا مباشرًا على بيلاطس، والامبراطورية الرومانيّة ذاتها، وإذا كان يسوع ملكًا بالمفهوم اليهودي، فالأمر لا يختص به بيلاطس، ويعود لقادة الدين اليهود، لكنَّ يسوع لم يُجب بيلاطس كما كان مُتوقعًا، بنعم أو لا، وأجابه بطريقة غير مُباشرة، إذ قال له: «أَمِنْ ذَاتِكَ تَقُولُ هَذَا أَمْ آخَرُونَ قَالُوا لَكَ عَنِّي؟»، كانت إجابة يسوع تتعامل مع بيلاطس كإنسانٍ وليس كحاكمٍ روماني، إنَّه سؤال يختبر قلب بيلاطس، هل هو صادقٌ فعلًا في سؤاله، هل يريد معرفة الحقيقة، أم سؤاله مجرد إجراءٍ شكلي؟ لكنّ بيلاطس لم يُدرِك أنَّه أمام شخص لا يتكلَّم فقط في بعدٍ سياسي، بل يريد أن يأخذه لعمقٍ يُغير من مستقبله الروحي. لم يفهم بيلاطس ما يرمي إليه المسيح، وكانت إجابته، «أَلَعَلِّي أَنَا يَهُودِيٌّ؟ أُمَّتُكَ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَسْلَمُوكَ إِلَيَّ». وبهذه العبارة فقد أثبت الذنب على الأمة اليهوديّة، خاصته، التي أحبها يسوع وخَدمها، والتي جاء إليها، لكنَّ للأسف «.. خَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ» (يوحنا 1: 11).
الغريب أنَّ أول سؤال جاء في العهد الجديد، كان له علاقةٍ بسؤال بيلاطس، وقد سأله أيضًا رجالُ مجوسُ أمميون، جاءوا من المشرق، ليسألوا: «أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ ... وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ وَرَأَوُا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَباً وَلُبَاناً وَمُرّاً» (متى 2: 2، 11)؛ قبلوه ملكًا، وسجدوا له، وقد آمن به ملكًا، بعضًا من اليهود، الرعاة، نثنائيل، إذ قال: «يَا مُعَلِّمُ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» (يوحنا 1: 49)، وكذلك جمهور المتعبدين أثناء دخوله الانتصاري، قائلين: «أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» (يوحنا 12: 13)، وها هو رجلٌ أممي أيضًا، يسأل المسيح نفسه «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟»؛ وغالبيّة من اليهود وقادتهم يهتفون: «اصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ!» (يوحنا 19: 6)، وإلى اليوم، هناك مَن عَرِفَ المسيح ملكًا وآمن به، وهناك مَن عَرِفَه، ولم يؤمن به، والسؤال الآن: إلى أي فريقٍ تنتمي؟
السؤال الثاني: «مَاذَا فَعَلْتَ؟» (يوحنا 18: 35)؛ كان هذا هو السؤال الثاني الذي وجهه بيلاطس للمسيح، والسؤال الأول الذي سأله لقادة اليهود، قائلًا: «أَيَّةَ شِكَايَةٍ تُقَدِّمُونَ عَلَى هَذَا الإِنْسَانِ؟» (يوحنا 18: 29)، لكنَّهم بحسب البشير يوحنا، لم يُقدِّموا شكاية واضحة أو تهمة مُحددة، فربما أراد بيلاطس أن يجد لدى المسيح ما يبرر القبض عليه، ومرة ثانية لم يُجب يسوع على سؤال بيلاطس بإجابة مباشرة، لكنَّه بدلًا من ذلك قدَّم إجابة عميقة، كشف فيها عن هُويَّته ورسالته، إذ قال: «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هَذَا الْعَالَمِ لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلَكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا» (يوحنا 18: 36).
لقد أكَّد يسوع على أنَّه فعلًا هو «الملك»، وقد استخدم كلمة «مملكتي» في هذا المقطع ثلاث مرات، لكنَّه لم يترك بيلاطس للشطط، بل كشف عن طبيعة مُلكه وملكوته، قائلًا: «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ»؛ هذا الفكر الذي لم يستوعبه الفكر اليهودي، المتشوق والمنتظر لمجيء المسيا، ملك اليهود بالمعنى العسكري، فيسترد مملكة داود الساقطة، ويُعيد شرف الأمة اليهوديّة، وقد تكلَّم المسيح مرة عن طبيعة ملكوته، إنَّه ملكوت الله (يوحنا 3: 3، 5).
شرح يسوع وأوضح أنَّ ملكوت الله، ملكوتٌ روحي، ليس منطقة جغرافيّة محددة، لذا فمملكته لا تُزاحم روما، وليس لها جنود يحاربون بالسيوف، أو موظفون يجمعون الضرائب. إنَّها مملكةٌ سماوية، جنودها جنود حق لا جنود حربٍ؛ سيفها هو سيف الروح، الذي هو كلمة الله، وكل أسلحة مُحاربتها روحيّة، قادرة بالله على هدم حصون وظنون، وكل علو يرتفع ضد معرفة الله؛ وهي تمارس سلطانها على القلوب لا على الرقاب. ولو كان ملكوت المسيح أرضي، لكان خدَّامه يُجاهدون لكي لا يُسلَّم لليهود، أو كما قال لبطرس: «أَتَظُنُّ أَنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الآنَ أَنْ أَطْلُبَ إِلَى أَبِي فَيُقَدِّمَ لِي أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جَيْشاً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ؟» (متى 26: 53).
إنَّ المسيح لا يعمل وفق الظروف أو الضغوط، لكنَّه يُحقق مشيئة أبيه، ويتكلَّم ويعمل وفق تلك المشيئة، وها هو يُعلن أن ملكوته، ليس من هذا العالم، وقد كشف لنيقوديموس أنَّ الميلاد من فوق، أو الروحي فقط، الذي يكون واسطته الماء والروح، هو الذي يُدْخِل الإنسان لذاك الملكوت، وذلك لأنَّ: «اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ» (يوحنا 3: 6)؛ وهؤلاء هم الذين قبلوه ملكًا على حياتهم، «فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ بَلْ مِنَ اللَّهِ» (يوحنا 1: 12-13)؛ نعم يسوع ملك، لكنَّ مملكته مختلفة، وأعضاء مملكته مختلفون، وهكذا ينبغي أن يكون سلوكهم ومبادئهم، ليس تبعًا للظروف أو الضغوط، بل بحسب ووفق مشيئة الله.
السؤال الثالث: «أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟»؛ من إجابة يسوع على السؤال السابق، أدرك بيلاطس أنَّ يسوع يؤكد على مُلكه، فأراد التحقق مما فهمه، فسأل يسوع، «أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟»؛ وقد أَجَابَ يَسُوعُ: «أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ. لِهَذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا وَلِهَذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي» (يوحنا 18: 37). وهذه إجابة عميقة ومجيدة، تدل على عظمة شخص المسيح، لقد بدأت إجابة يسوع من حيث انتهى بيلاطس، لم يقل يسوع، نعم أيها الحاكم، إني «ملكٌ» ولكن ليس بالمعني الأرضي كما شرحت لكم، لكنَّه قال: «أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ»؛ بمعنى نعم إني «ملكٌ» وها أنت قد «قلتها»؛ وربما أراد المسيح أن يقول لبيلاطس، «هذا هو مصطلحك أنت».
من الواضح أنَّ يسوع بقوله هذا أكَّد وقَبِل وصف بيلاطس أنَّه «ملكٌ»، لكنَّه لم يُرِد الالتزام بهذا اللقب «الملك»، ربما لأنَّه لقبٌ يُساء فهمه في تلك البيئة اليهوديّة الرومانيّة المُعادية، أو لأنّه مصطلحٌ عالمي إلى حدٍ كبير، وليس غريبًا أن يتحفظ المسيح هنا على لقب «ملك»، فقد تحفظ تجاه ألقابٍ أخرى، مثل لقب «المسيح»، في أماكن أخرى من الأناجيل؛ ثم تقدَّم يسوع في إجابته كاشفًا عن هُويَّته، ورسالته، قائلًا: «لِهَذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا»، وفي هذا يتساوى مع بقيّة البشر، فجميعُنا وُلدِنا، لكنَّه لم يكتفِ بهذه العبارة، بل أردف قائلًا: «وَلِهَذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ»؛ فلم يُولد المسيح فقط، كباقي البشر، بل أيضًا أتى إلى العالم، بمعنى أنَّه كان وجوده سابقًا لمولده. فلا يُقال عن أي واحد فينا إنّه أتى إلى العالم، لأننا قبل مولدنا لم نكن موجودين على الإطلاق، أما المسيح فهو الأزلي وجوده سابق لوجود العالم، بل «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ». (يوحنا 1: 1-3)؛ و«اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ وَالَّذِي مِنَ الأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ وَمِنَ الأَرْضِ يَتَكَلَّمُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ» (يوحنا 3: 31)، والمسيح في إجابته هذه، يُشيرُ إلى بشريته التي شاركنا فيها؛ كما يشير أيضًا إلى كينونته السابقة الأزلية، وكذلك يُشير إلى عمله ورسالته، إذ يقول: «أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي».
عَرِفَ المسيح حاجة العالم، ولهذا وُلِدَ، وأتى ليشهد للحق، كان هو نفسه الحق، لكنَّ قليلون هم الذين عَرفِوه وتجاوبوا معه، وآمنوا به، وما زال المسيح عبرَ كلمته وكنيسته يُقدم نفسه الملك الحق، فطوبي لمن يسمع صوته، ويتجاوب معه، ويؤمن به، فيصبح من رعايا مملكته.
السؤال الرابع: قَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: «مَا هُوَ الْحَقُّ؟» (يوحنا 18: 38). كان هذا هو السؤال الرابع الذي سأله بيلاطس للمسيح، وهو السؤال الأول الذي لم يعطِ المسيح عنه إجابة لبيلاطس، ربما لأنَّ بيلاطس لم ينتظر إجابة المسيح، يُسجل يوحنا البشير موقف بيلاطس بعد هذا السؤال، قائلًا: «وَلَمَّا قَالَ هَذَا خَرَجَ أَيْضاً إِلَى الْيَهُودِ وَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً». هل كان سؤال بيلاطس استفساريًا حقيقيًا، أم تعقيبًا فقط على ما تكلَّم به يسوع عن الحق؟ ربما وجَّه بيلاطس هذا السؤال بازدراء، ومن ثم لم يجبه يسوع. لأنَّه لو كان سؤال بيلاطس صادقًا، لكان انتظر إجابة من يسوع، ولكان يسوع قطعًا يُقدَّم له إجابة، ربما كان سؤال بيلاطس ما هو إلا نوعًا من الترف العقلي، ليسأل سؤالًا فلسفيًا اعتاد المثقفون أن يسألوه، وربما اقتنع بيلاطس بإجابة المسيح أنَّ مملكته ليست من هذا العالم، وبالتالي فإنَّه لم يكن ملكًا بالمعنى الذي اتهمه به اليهود؛ أنه لن يُعرِّض الحكومة الرومانيّة للخطر، ولا يُمثل تهديدًا سياسيًا، وبالتالي فهو بريء من التهم المنسوبة إليه، فخرج ليُعلِن لليهود براءة يسوع قائلًا: «أَنَا لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً» (يوحنا 18: 38).
إنَّ سؤال بيلاطس «مَا هُوَ الْحَقُّ؟»؛ ما زال يتردد صداه حتى يومنا هذا، يسأله الكبير والصغير، العالم والجاهل، المؤمن وغير المؤمن، تُرى ما هو الحق؟ كان المسيح، هو الحق مُتجسدًا؛ لكنَّ بيلاطس لم يستطع أن يراه، وهو الأمر ذاته الذي يقع فيه أغلبنا، نبحث عن أمرٍ ما، ويكون أمام عيوننا ولا نراه، ليس الحقّ فكرة ما أو شيء يجب أن نبحث عنه، إنّه شخص. «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي ...» (يوحنا 14: 6). غاية الحياة الوصول إلى الحق، معرفته اقتناؤه. لكن، الله هو الحقّ؟! كيف يكون هذا إذًا؟! ... الله يهبنا أن نعرفه في ابنه الوحيد المولود منه قبل كلّ الدهور بواسطة نعمة الروح القدس، «رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ» (يوحنا 14: 17).
السؤال الخامس: قَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: «مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟» وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمْ يُعْطِهِ جَوَاباً» (يوحنا 19: 9). كان هذا هو السؤال الخامس في سلسلة الأسئلة التي سألها بيلاطس ليسوع، لكن هذا السؤال كان بعد عودة المسيح من محاكمته أمام هيرودس، كما جاء بشارة البشير لوقا (23: 5)، وأمام تعنت اليهود وإصرارهم على صلب يسوع وهو برئ، قرر بيلاطس أن يجلد يسوع، ووضع إكليلًا من الشوك فوق رأسه، وألبسه ثوب أرجوان، وأخرجه لليهود ليُعلِن لهم ثانيّة براءة يسوع، لكنَّهم أصروا هاتفين، «اصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ!» قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاصْلِبُوهُ لأَنِّي لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً». أَجَابَهُ الْيَهُودُ: «لَنَا نَامُوسٌ وَحَسَبَ نَامُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ لأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ابْنَ اللَّهِ». فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاَطُسُ هَذَا الْقَوْلَ ازْدَادَ خَوْفاً» (يوحنا 19: 6-9). لقد سَمِع بيلاطس أنَّ يسوع يدعو نفسه ابن الله، فازداد خوفًا، ودخل خائفًا ليسأل يسوع: «مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟»؛ لم يكن يسأله عن موطنه الأرضي، فقد كان يعرِف أنَّه جليليًا، لكنَّه يسأل عن أصله، وطبيعته، عن حقيقة كونه ابنًا لله، خاصة وأنَّ خلفيّة بيلاطس الرومانيّة اليونانيّة، تؤمن بإمكانيّة تجسد الآلهة، خاصة وأنَّه تلقى تحذيرًا من زوجة بيلاطس، سبق وحذرته قائلة: «إِيَّاكَ وَذَلِكَ الْبَارَّ لأَنِّي تَأَلَّمْتُ الْيَوْمَ كَثِيراً فِي حُلْمٍ مِنْ أَجْلِهِ» (متى 27: 19). وللمرة الثانيّة تجاهل يسوع الإجابة على سؤال بيلاطس، يُسجِل يوحنا «وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمْ يُعْطِهِ جَوَاباً».
بالقطع، كان يسوع يعرف من أين هو؟ وإلى أي مكانٍ سينطلق، وكان قد سبق وصرَّح أمام اليهود وقادتهم، عندما كان يُعلِّم في الهيكل، وسألوه هذا السؤال، فقال لهم: «تَعْرِفُونَنِي وَتَعْرِفُونَ مِنْ أَيْنَ أَنَا وَمِنْ نَفْسِي لَمْ آتِ بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. أَنَا أَعْرِفُهُ لأَنِّي مِنْهُ وَهُوَ أَرْسَلَنِي» (يوحنا 7: 28-29)؛ لكنَّ يسوع اختار في هذا الموقف الصمت، ليس لأنَّه لم يملك الإجابة، لكنَّ الإنسان الذي لا يقبل الحق ولا يؤمن به، لا يستحق أن يُعطى المزيد.
نتعرض للكثير من الأسئلة في حياتنا ومسيرتنا الروحيّة، فكثيرًا ما يسألوننا، لماذا تؤمنون بالمسيح؟ ولماذا المسيح تحديدًا؟ أليس هو كسائر الأنبياء؟ على أي أساس تضعون رجاءكم فيه، وتطمئنون لمستقبلكم الأبدي؟ لماذا تَدَعون أنكم أولاد الله؟ ونجد أحيانًا كثيرة أننا مطالبون بشرح إيماننا، والرد على تساؤلات من حولنا، خاصة وقد أوصانا الكتاب المقدس أن نكون مستعدين لمجاوبة كلُ مَن يسألنا، قائلًا: «قَدِّسُوا الرَّبَّ الإِلَهَ فِي قُلُوبِكُمْ، مُسْتَعِدِّينَ دَائِماً لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ بِوَدَاعَةٍ وَخَوْفٍ» (1بطرس 3: 15)؛ لكنَّ المسيح في حياته، وخدمته، ومحاكمته، قدَّم لنا درسًا هامًا، في معرفة واختيار ما يجب أن نُجيب عنه، والوقت الذي نُجيب فيه، برغم كل الضغوط التي يُمكن أن نتعرض لها، فقد وجَّه له بيلاطس سبعة أسئلة، لكنه لم يُجب إلا على أربعة منها فقط؛ ولم يشعر بضعفٍ، ولا بضرورةِ أن يُجيب عن كل ما وُجه له من أسئلة.
السؤال السادس والسابع: «أَمَا تُكَلِّمُنِي؟ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ لِي سُلْطَاناً أَنْ أَصْلِبَكَ وَسُلْطَاناً أَنْ أُطْلِقَكَ؟»؛ كان هذان السؤالين معًا، السؤال السادس الذي وجَّهه بيلاطس للمسيح، سؤال يُعبِّر عن اليأس والفشل، والكبرياء في آنٍ معًا، فقد كان بيلاطس رجلًا لم يعتد أن يسأل ولا يُجاب على سؤاله، إنَّه الآمر الناهي، وها هو يسأل يسوع الواقف أمامه مُتهمًا، ثلاثة أسئلة مُتتاليّة، ولم يُجبه بشيء، غضب بيلاطس على يسوع لسكوته وامتناعه عن الرد على أسئلته وحسب ذلك توبيخًا له.
كان صمت يسوع تحقيقًا لنبوة إشعياء «ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ» (إشعياء 53: 7). ولمَّا لم يُجب يسوع على كل تلك الأسئلة، أراد بيلاطس أن يُخيفه، فوجَّه له السؤال السابع والأخير في تلك الجلسة الحاسمة، فقال له: «أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ لِي سُلْطَاناً أَنْ أَصْلِبَكَ وَسُلْطَاناً أَنْ أُطْلِقَكَ؟»؛ ومع أنَّ هناك بعض الترجمات تُغير في ترتيب ما نطق به بيلاطس، ليُصبح سؤاله: «أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ لِي سُلْطَاناً أَنْ أُطْلِقَكَ وَسُلْطَاناً أَنْ أَصْلِبَكَ؟»؛ إلَّا أنَّ هذا لا يُغيّر في المعنى كثيرًا، كان سؤال بيلاطس يحمل تهديدًا وإغراءً، لكنَّه في الواقع كان يُظهِرُ ضعفًا وتناقضًا، لقد كرر مرتين كلمة «لي سلطان»، وفي الحقيقة لم يكن لبيلاطس سلطانًا حقيقيًا ليُطلق يسوع، وهو الذي قرر أربع مرات أن يسوع بريئًا، ولا يستحق الموت، لكنَّه خضع لابتزاز اليهود، خوفًا منهم، وخوفًا على مستقبله السياسي، استمر في محاكمة البريء، ولم يجرؤ على إطلاق سراحه، وهنا أَجَابَه يسوع، قائلًا: «لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ الْبَتَّةَ لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ. لِذَلِكَ الَّذِي أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لَهُ خَطِيَّةٌ أَعْظَمُ» (يوحنا 19: 11).
وفي إجابة يسوع، تأكيد على أنَّ الله وحده صاحب السلطان، وهو الذي يمنح من سلطانه للقادة والسلاطين، وهو الذي عيَّن بيلاطس لهذه الوظيفة، وهو الذي وهبه السلطة ليُحقق ما عليه أن يُحققه، وكأني بيسوع يقول لبيلاطس، ليس لك علي سلطان البتة، وأنا واقفٌ هنا موثقاً لا طوعًا لمشيئة وسلطان إنسان، بل طوعًا لقصد الله ومشيئته. فإذاً لا أخاف شيئًا من سلطانك، ولا أرجو منه شيئًا؛ إنها كلمات كاشفة عن ثقة يسوع وخضوعه لسلطان الآب السماوي؛ الغريب أنَّ بيلاطس بسبب هذه الإجابة، لم يتخذ موقفًا مُعاديًا ضد يسوع، بل على العكس، يُسجِل البشير يوحنا أنَّ «مِنْ هَذَا الْوَقْتِ كَانَ بِيلاَطُسُ يَطْلُبُ أَنْ يُطْلِقَهُ وَلَكِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَصْرُخُونَ: «إِنْ أَطْلَقْتَ هَذَا فَلَسْتَ مُحِبّاً لِقَيْصَرَ. كُلُّ مَنْ يَجْعَلُ نَفْسَهُ مَلِكاً يُقَاوِمُ قَيْصَرَ»؛ لكنَّه تحت ضغط قادة اليهود اضطر بيلاطس أن يُسلَّمهم يسوع ليُصلب، فأخذوا يسوع ومضوا به، إلى موضع الجلجلثة، وهو حامل صليبه ليُصلب. (يوحنا 19: 12-17).
رسائل تلغرافيّة
• تم القبض على يسوع تحت جُنح الظلام، وتمت مُحاكمته أيضًا في الليل، حيث الظلام باقٍ، وفي حين لم يقدر تلاميذه أن يسهروا معه ساعة واحدة (متى 26: 40)، فإنَّ أعداءه لم يناموا ساعة واحدة. وهكذا دائمًا، هناك نشاط وغيرة لدى الإنسان لكل ما هو شرير، أكثر بكثير من النشاط لما هو صالح! لذا احذر وتحذر وكُن نشطًا في فعلِ الخير والشهادة لعمل المسيح.
• ليست الأغلبيّة دائمًا على حق، فقد هتفت الجماهير «اصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ!»، ولم يكن صوت الجماهير -الأغلبيّة في ذلك الوقت- هو الحق، بينما كان يسوع الذي يقف مُتهمًا أمام مُحاكميه هو الحق، وكل الحق، ولا شئ سوى الحق. آمن بالحق ولا تخش جلجلة الأغلبيّة.
• لا تَكُن بيلاطس، الرجل القوي الذي يملك السلطة، لكنَّه افتقر للإيمان، ولم يستفد من اللحظة، ولا من تحذيرات زوجته، وبرغم إعلانه براءة يسوع، لكنَّه إعلان افتقر للإيمان، وخسر حياته الأبدية.
• لا تدع المظاهر تخدع، كان على ما يبدو أن بيلاطس يمتلك القوة والسلطة والمجد، لكنَّ يسوع كان بالحقيقة كان مُتجهًا إلى الصليب حيث المجد الأبقى والأسنى.
• في خبايا كل منا يوجد بيلاطس، الذي يحاول التنصل من المسؤوليّة «خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُمْ» (يوحنا 18: 31)؛ أو ألقاء اللوم على الأخرين، أو القيام بالتسويات والمؤامات، لقد جَلدَ يسوع وهو يعلم ببرائته، لعل هذا الأمر يُرضي اليهود فيفرج عنه، ويُطلق سراحه، إنَّ التنازل عن الحق، أو المؤامات لا تُبرئ يسوع، ولا تقود الأخرين للإيمان به؛ أو حتى استخدام العواطف «أَأَصْلِبُ مَلِكَكُمْ؟» (يوحنا 19: 15)؛ ولا تنس أنَّه لا يمكنك التهرب من مسؤولية التعامل مع يسوع، ولا يوجد أنصاف حلول، إما أن تكون مع يسوع أو ضده. لا أحد يستطيع التهرب من اتخاذ قرار شخصي يجب أن يتخذه.
• «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ.»، هكذا أعلَّنها يسوع؛ لكنَّ الخيار النموذجي والسهل للإنسان هو أن تنتمي مملكته إلى هذا العالم. وأن يضع أمله في هذا العالم. هكذا اهتم بطرس بالحفاظ على حياته، وأنكر يسوع أمام جارية، أكثر من التركيز على خطة الله وملكوته.
• من السهل جدًا أن تحيا تُفكِّر في اليوم، من السهل جدًا أن تحيا من أجل هذا العالم. من السهل جدًا أن تحلم وتبني آمالك في هذه الحياة. ولكن مَن الذي يُريد أن يتعمق أكثر ويتعلَّم حقيقة يسوع؟ مَنْ يُريد أن يعيش حياته من أجل الملكوت الأبدي بدلاً من هذا العالم المكسور المؤلم؟ إنَّ ملكوت المسيح ليس من هذا العالم. فكيف تُفكِّر في ملكوت الله؟ وهل تحيا لأجله، وتفرح لامتداده؟
• إنَّ انكار يسوع لا يعني فقط أننا لسنا تلاميذه، لكنَّ انكار يسوع يعني العيش في هذا العالم دون التفكُّر في بناء ملكوته. انكار يسوع هو أن نعتمد على خططنا وليس على خطة الله.
• أسئلة بيلاطس لليهود ويسوع، هي الآن أسئلة ما يجب أن نأخذه في الاعتبار، كما أنَّ كل أسئلة الحياة هي أسئلة إيمان حقًا. ويتضح هذا أكثر عندما نواجه تحديًا من خلال المعاناة والشر والموت. نسأل دائمًا، «لماذا؟» أو «لماذا الآن؟» وننسى أن نتساءل كيف ستتغير حياتنا.
• كن ثابتاً على الحق ولله وارفض المساومة مهما كلفك الأمر.
• إن قوة رسالة يسوع وكلمة الله لا تكمن في بلاغتنا أو قدرتنا على الإقناع أو تميّزنا في طريقة عرض أفكارنا وإيماننا. كما أنَّها ليست في كيفية صياغتها لتناسب الثقافة. تكمن القوة في أنَّها الحقيقة الأبديّة التي يسكنها الروح القدس نفسه.
• لا تدع كبريائك وبرك الذاتي، أو حتى وظيفتك ومكانتك الاجتماعيّة، سببًا في رفض يسوع وعدم الإيمان به.