يتحدث المسيح بوضوح عن ضرورة إنكار النفس، وهو المبدأ الذي يُعدّ المدخل الصحيح لإقامة علاقة صحيحة مع الله. بينما تُعلي معظم كتابات تقدير الذات من قيمة النفس وضرورة تحقيق الذات، فإن الإنجيل يقدم رؤية مغايرة تمامًا، حيث يتمحور حول نكران الذات، وهو تعليم متكرر في العهد الجديد.
في رسالته إلى تيموثاوس الثانية 3: 2، يذكر بولس تحذيرًا بشأن الأشخاص الذين “يحبون أنفسهم”، واضعًا هذه الصفة ضمن قائمة من السلوكيات المنحرفة التي ينبغي لتيموثاوس تجنّبها. هذه القائمة تتضمن صفات مثل الكبرياء، التجديف، النميمة، وحب اللذّات، وكلها — عند التأمل — تتفرع من مركزية الذات. ومن السهل ملاحظة العواقب الخطيرة لمثل هذا التوجه.
من المؤسف أن نجد، حتى في مجتمعاتنا اليوم، أطفالًا يُشجَّعون على إرضاء ذواتهم والشعور بالرضا والثقة بأنفسهم بشكل مبالغ فيه، ما يضعهم على طريق الأنانية، والمفارقة أن هذه النزعة تحديدًا هي ما يحذّر الله منها. ومن هنا كمؤمنين تأتي أهمية أن نُربّي أولادنا ونعلم أنفسنا على إنكار الذات بدلًا من تقديسها.
الرب يسوع نفسه وضع هذا المبدأ عندما قال:
“إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي، لأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا” (متى 16: 24-25).
المقصود هنا ليس الامتناع عن أمر ما، بقدر ما هو مقصود التخلي عن الذات ذاتها — أي أن نقول “لا” لرغباتنا الأنانية. وهذا يقف على النقيض من فلسفة تقدير الذات، التي تدعو إلى تحقيق الذات وإمتاع النفس.
وقد بيّن الرب يسوع هذا التضاد في متى 6، حين فرّق بين أسلوب الحياة الوثني الذي يسعى وراء الأمور المادية، وبين السعي إلى ملكوت الله أولًا. لا مجال للمساومة بين الاتجاهين. فالمسيح يُطالب من يتبعه بالتخلي عن الذات، عن أي محبة زائدة للنفس، بل وحتى حمل الصليب يوميًا — رمز الموت عن النفس — بمعنى أن ننكر كل مصالحنا الذاتية، ونُخضع إرادتنا له.
هذه دعوة قاسية لكنها ضرورية، خاصة في زمن يُمجَّد فيه الإنسان ويُشجَّع على الاهتمام الزائد بنفسه. والمفارقة أن من ينشغل بنفسه يخسرها، أما من يضع المسيح أولًا، ينال الحياة الأبدية.
ويؤكد ربنا هذا المبدأ:
“مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ” (يوحنا 12: 25).
وبالمعنى ذاته، توضح رسالة كورنثوس الثانية:
“وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ الْأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لَا لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ” (2 كورنثوس 5: 15).
إذًا، من يُدعى ليكون تلميذًا للمسيح لا يمكنه أن يعيش بعد لذاته، بل عليه أن يتبع المسيح فوق أي ارتباط دنيوي. ففي لوقا 14: 26-27، يوضح الرب يسوع أن التلميذ الحقيقي يجب أن يقدّم محبته للمسيح فوق كل شخص وعلاقة، وحتى فوق ذاته.
خلاصة القول، إنكار النفس ليس أمرًا ثانويًا أو اختياريًا في حياة المسيحي، بل هو جوهر التلمذة. والمسيح لم يتجاهل أهمية النفس، لكنه أعطى تعليمًا واضحًا بخصوصها: النفس لا تُرفع فوق المسيح، ولا تُستخدم ذريعة لعدم اتباعه.
ويُختتم هذا المعنى في رومية 14: 7-8:
“لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَعِيشُ لِنَفْسِهِ، وَلَا أَحَدٌ يَمُوتُ لِنَفْسِهِ. لِأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ.”
هكذا تتبلور الصورة التي يدعونا إليها الكتاب المقدس:
الحياة للمسيح، لا للذات