بعد ان عرفنا في المقال السابق الصورة الذاتية: المسيح والذات!! كلام المسيح الواضح عن ضرورة إنكار النفس، نكمل الحديث عن الصورة الدقيقة التي ينبغي ان نصل إليها تجاه أنفسنا.
تأتي الوصية بإجراء تقييم أمين للنفس بشكل واضح في رسالة رومية 12: 3، حيث يقول بولس الرسول:
“فَإِنِّي أَقُولُ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي، لِكُلِّ مَنْ هُوَ بَيْنَكُمْ: أَنْ لاَ يَرْتَئِيَ فَوْقَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَئِيَ، بَلْ يَرْتَئِيَ إِلَى التَّعَقُّلِ، كَمَا قَسَمَ اللهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِقْدَارًا مِنَ الإِيمَانِ.”
وهنا مبدأ مهم: فالتعقُّل يعني الحكم السليم المتزن المبني على الأدلة والحقائق، وليس على الشعور أو المقارنات.
توضح الآيات أيضًا أن على كل شخص أن يقيّم نفسه بناءً على أدلة واضحة، وليس لمجرد كونه إنسانًا أو مؤمنًا، فالمسألة تتعلق بتقييم موضوعي.
ولو ترجمنا النص حرفيًا، لوجدنا أن بولس يوصي: “ألا يرتفع أحد في فكره فوق ما ينبغي أن يفكر، بل أن يميل إلى التفكير المتعقل.” وهذا يعكس تكرار بولس استخدام تعبيرات تدور حول الفكر، مما يسلط الضوء على أهمية التفكير المتزن المبني على البراهين.
المثير للاهتمام أن بولس، في تحذيره من التقييم الخاطئ للنفس، لا يذكر خطر التقليل من قيمة الذات، بل يركز فقط على خطر الغرور والمبالغة في تقدير النفس. فالروح القدس، الذي كتب من خلال بولس، يعرف ميل البشر لهذا التوجه. ورغم أن نص رومية قد يبدو كأنه يشجع على احترام الذات، فإن البعض يحرّف معناه ليدعم أفكار تقدير الذات المبالغ فيها. فالنص لا يدعو لأن يرتئي الإنسان بنفسه بشكل عالٍ، بل يحذر من التفاخر والتعالي.
بولس كان قلقًا من ميل المؤمنين لتقدير أنفسهم فوق ما ينبغي. ويشير هوشع 7: 9 إلى هذا التوجه قائلاً:
“أكل الغرباء ثروته وهو لا يعرف، وقد رش عليه الشيب وهو لا يعرف.”
بمعنى أن الإنسان قد يتوهم القوة والمكانة في حين أن الواقع يثبت العكس. لهذا، علينا أن نقيّم أنفسنا بتعقل ووفقًا للحقائق والمعايير الكتابية، لا بمقارنتها بالآخرين. ففي غلاطية 6: 3-4 يقول بولس: “لأنَّهُ إِنْ ظنَّ أحدٌ أنَّه شيءٌ وهو ليس شيئًا، فإنَّه يغشُّ نفسه. ولكن ليمتحنْ كلُّ واحدٍ عمله، وحينئذٍ يكون له الفخرُ من جهة نفسه فقط، لا من جهة غيره.”
إذًا، المعيار ليس تفوقنا على الآخرين، بل مدى توافق أفعالنا مع مقاييس الله. وإذا نجحنا، يكون لنا سبب مشروع للرضا. لا ينبغي أن ينشغل المؤمن بالبحث عن تقدير الذات أو إثبات قيمته الشخصية، بل عليه أن يوجّه اهتمامه إلى أن يكون إنسانًا نافعًا، ممتلئًا بالصلاح، يخدم الآخرين ويثمر في حياته الروحية.
الشعور بالرضا والاكتفاء الداخلي، والفرح الحقيقي، لا يتحقق بالسعي المباشر خلفه. بل هو ثمر طبيعي لحياة روحية صادقة وأمينة ومثمرة. فالمؤمن يقيس قيمة إنجازه بناءً على مقاييس الكتاب المقدس، إنجاز يتم بنعمة الله ومعونته، لا من خلال قدراته الشخصية فقط.
تقوم فلسفة تقدير الذات على فكرة أن للإنسان الحق — بل والواجب — أن يحب نفسه بغض النظر عن سلوكه. وتُروَّج لفكرة أن تغيير الإنسان لسلوكه لا يمكن أن يتحقق إلا بعد أن يشعر بتقدير وقيمة تجاه ذاته.
بينما يعلّم أنصار فكر تقدير الذات أن الخطية تنبع من شعور الإنسان بصغر نفسه وانعدام قيمته، فإن كلمة الله تعلن أن الخطية متأصلة في طبيعة الإنسان الساقطة. فالمشكلة الحقيقية لا تكمن في تدني تقدير الذات، بل في فساد قلب الإنسان وحاجته للتجديد بنعمة الله.
وفي النهاية، التقييم الصحيح للنفس لا يتم بالتأمل الذاتي فقط، بل بقياس الإنجازات الحقيقية على ضوء معايير الكتاب المقدس. فالحديث عن القيمة الذاتية بلا معيار واضح يشبه الحديث في الفراغ.