تختلف وجهات نظر القرّاء إلى المادّة المنشورة بحسب نوع الثقافة وسَعة الإطّلاع وصفاء المزاج؛ هناك مَن يقرأ مع محاولة في رصد خطأ لغويّ ما لدى الكاتب. وهناك من يمرّ على المادّة مرور الكرام، يهمّه جوهر الموضوع ومصداقيّة الكاتب، غير معنيّ بالأخطاء اللغوية، أو أنه قد اعتاد على وجودها لدى “كِبار” الكتّاب فلا يلوم “الصِّغار” منهم. ولقد سمِعت في العراق مثلًا شعبيًّا (الخطّ الأعوج من الثور الكبير) لكني لا أدين أحدًا على أخطائه اللغويّة إنما أتمنى عليه أن يتنبّه إليها باهتمام وجدّيّة؛ منها البسيط الذي يخصّه وحده ومنها الخطير الذي قد ينتشر مثل العدوى ويصبح شائعًا. أفليست مراجعة المادّة قبل نشرها خيرًا من إرسالها مصحوبة بأخطاء، ما يجنّب صاحبها الإعتذار إلى القرّاء. وإلى متى يبقى يعتذر إليهم- إذا ما اعتذر- ولماذا يلتمس العذر بدلًا من توقّع الثناء والإطراء على تقديمه عملًا جيّدًا لا عيب فيه ولا شائبة؟ ولماذا التعجّل في النشر؛ هل ظنّ أحدُ الكتّاب أن مادّته ضروريّة ومُنتظرَة أم غاب عنه أنّ لدى القرّاء مشاغِلَ أخرى ووقتًا ثمينًا يُستثمر في إنجاز عمل ما غير قراءة مادّته؟ لكنهم إذا ما قصدوا قراءة مادّته فالشيء الوحيد المنتظَر هو أن يتذوّق القرّاء ثمرة جيّدة. ألا يستحق القرّاء أن يتعب الكاتب قليلاً من أجْلهم؟ مهما كبُر حجمُ الكاتب فلا يظنّ بمادّته أنها ستُحاط بهالة من القداسة يوماً ما. والجدير ذكره بالمناسبة هو قول السيّد المسيح له المجد: {فكونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم السماوي كامل} - متّى 48:5
الأخطاء النحويّة
لقد ذكر النحويّون معنى النحو؛ نقرأ المنقول عنهم في ويكيپـيديا- بتصرّف من الكاتب: (النحو: علم يبحث في أصول تكوين الجملة وقواعد الإعراب. وسُمِّي العِلمُ بهذا الإسم لقصد المتكلم أن يتكلم مثل العرب، كما يسمى هذا العلم أيضًا بعلم الإعراب. في موضوع هذا العلم تمييز الإسم من الفعل من الحرف، وتمييز المُعْرَب من المَبنيّ، وتمييز المرفوع من المنصوب من المخفوض من المجزوم، مع تحديد العوامل المؤثرة في هذا كله، وقد اٌستُنبط هذا كلّه من كلام العرب بالاستقراء) انتهى. ونقرأ في كتاب “الخصائص” لاٌبن جنّي: (النحو هو انتحاءُ سَمْتِ كلام العرب في تصرّفه من إعراب وغيره؛ كالتثنية والجمع والتحقير والتكسير والإضافة والنسب والتركيب وغير ذلك، ليلحق مَن ليس مِن أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة فينطق بها وإنْ لم يكن منهم، وإنْ شذ بعضُهم عنها رُدّ به إليها... إلخ) انتهى. وأرى المقصود بالتحقير: التصغير؛ كتصغير سَلمى إلى سُليمى. عِلمًا أنّ (السّمْت: الطريق؛ هو يَسْمِتُ سَمْتهُ أي يَنحُو نحْوَه) – قاموس لسان العرب. وفي القاموس المحيط، بتصرّف أيضًا: (النَّحْوُ: الطَّريقُ والجهة والقصْدُ. ج: أنحاء ونُحُوٌّ. يكونُ ظرْفاً واسْمًا. ومنهُ: نحْوُ العَرَبيَّة، ج: نُحُوٌّ كعُتُلٍّ، ونُحِيَّةٌ كدَلْوٍ ودُلِيَّةٍ. ونحَاهُ يَنْحُوهُ ويَنحاهُ: قصَدَه، كانتحاهُ. ورجُلٌ ناحٍ مِن نُحَاةٍ: نَحْوِيٌّ) انتهى
وقد كتب إليّ أحد الأصدقاء؛ قيل لهُ أنّ عليه في العربيّة أن يبدأ الجملة بالفعل فالفاعل فالمفعول أو شبه الجملة (من الجارّ والمجرور أو من المضاف والمضاف إليه) قلت: صحيح ما تعلّمْنا في المدرسة الإبتدائيّة؛ لكل لغة في العالم تصنيف محدد، لكنّ المقياس في لغة العرب هو تراث العرب. ويمكن أن أضيف من ويكيپـيديا، الموسوعة الحُرّة: (صار كلام العرب الأوّل شعرًا ونثرًا هو الحُجّة في تقرير قواعد النحو في صورة ماعُرف بالشواهد اللغوية، وهو ما اٌستشهد به العلماء من كلام العرب لتقرير القواعد) انتهى. وقد ضربتُ من الأمثلة في الشّعر العربي ما للشاعر طرفة بن العبد إذ بدأ معلّقته بجارّ ومجرور: لخولةَ أطلالٌ ببُرْقةِ ثهمدِ... وما للنابغة الذبياني إذ بدأ معلّقته بعلامة النداء: يا دارَ مَيّة بالعلياء فالسّندِ... وفي النثر؛ ألقى قسّ بن ساعدة الإيادي خطبة في سوق عكاظ بدايتها: أيّها الناس اٌسمَعُوا وعُوا... إلخ. وفي الإنجيل: {فِي البَدْءِ كان الكلِمَةُ، وَالكلِمَةُ كان عِنْدَ اللهِ، وكان الكلِمَةُ اللهَ} – يوحنّا 1:1
أمّا رأيي في النحو: يُشبه النحو نظام السّير بما فيه من إشارات ضوئيّة وعلامات مروريّة ومراصد وطرق للمشاة وجسور وأماكن للعبور... إلخ وإنّ الخطأ النحوي يُشبه إخلال الإنسان بنظام السّير، ما قد يؤدّي إلى حوادث مؤلمة، لذا كان أخطر الأخطاء النحوية ذاك الذي أصبح شائعًا. ومن الأخطاء الشائعة التي تنبّه إليها بعض الرّواة قولك «كلّما» مرّتين في جملة واحدة (كلما درست كلما زاد قدرك) والصواب هو بحذف «كلّما» الثانية؛ قال المتنبي: كلّما أنبتَ الزمان قناة – ركّبَ المرءُ للقناةِ سِنانا. وقولك لزوجك (مبروك عيد ميلادك) والصواب: مبارك عيد ميلادك. وقولك (ألف مبروك لها على الترقية في العمل) والصواب: ألف مباركة لها... علماً أن كلمة “مبروك” لا وجود لها في قواميس اللغة؛ قال الأعشى: طَرِفُونَ ولاَّدُون كلَّ مُبَارَكٍ -- أمِرُون لا يَرِثُون سَهْمَ القُعْدُدِ. وقولك (إنّ هكذا مشكلة تسبّب...) والصواب: إنّ مشكلة كهذه (أو كهذي) تسبّب... أو: إنّ مثل هذه المشكلة يُسبّب... وقولك (هَبْ أنّ أخاك مُخطئٌ فهل تسامِحُهُ؟) والصواب: هبْ أخاك مُخطِئًا... بحذف أنّ. قلتُ أخيرًا: رُبّ خطأ واحد حَرَمَ الطبيبَ مِهنتهُ وحرم المُعَلّمَ والقاضيَ والمهندسَ وغيرهم
فرأيت من هذا المنطلق ضرورة مراجعة الكاتب أخطاءً في مادّته قبل إرسالها إلى النشر. فإن لم يستطع رصد أخطائه فيجب عليه الإمتناع من إرسالها. أمّا إذا أحسّ بأهميّة موضوعه وضرورة نشره فما المانع من عرضه أوّلًا على أحد المتخصّصين باللغة؟ فإن اضطُرّ إلى دفع مبلغ من المال فلا بأس، ألا يدفع للمحامي مقابل اٌستشارة قانونية وللطبيب مقابل استشارة صحيّة؟ ولا أقصد ضرورة اهتمام الكاتب بتصحيح الأخطاء اللغوية فحسْبُ، بل عليه أيضاً رصد أخطاء من نوع آخر، كالمصداقية في الطرح والأمانة في النقل (أو الإقتباس) إنّما يجب النقل من مصادر رئيسية أو من أخرى موثوق بها. أمّا التصرّف في نصّ ما (كالإختصار والحذف والإضافة) فيلزمه كاتب متخصص سواء باللغة وبموضوع المادّة. ذلك قطعًا باٌستثناء النصوص المقدّسة؛ لا يجوز التصرّف بها إطلاقًا، بل لا يجوز اقتطاع جملة معيّنة من سياق النصّ- كما يفعل المُفلِسون مِن مُنتقِدي المسيحيّة
من جهة أخرى؛ لا يحتاج الكاتب إلى البحث عن مفردات عربية بديلة تلائم المصطلحات الحديثة؛ لا أحثّه على كتابة “مذياع” بدلًا من راديو و”تلفاز” بدلًا من تلفزيون و”حاسوب” بدلًا من كومبيوتر؛ لأن في اللغة العربية قصورًا واضحاً عن تأمين الكلمة الملائمة لكل مصطلح حديث، ما يُعَدّ بالآلاف من المفردات العلمية إن لم تُعَدّ بعشرات الألوف ومئاتها. فليست العربية صالحة في مجتمع العلوم الحديثة والآداب والفلسفة وغيرها، بل قصّرت الترجمة إلى العربيّة كثيرًا في ميادين مختلفة. ومن الكلمات المترجمة إلى العربية {الإنجيل} عن اليونانية إيوَنگليون أو إيڤانگليون؛ قلنا لا بأس في تعريب الكلمة إلى “إنجيل” وفق أحد معاني كلمة النّجْل في “لسان العرب” إذ (قيل اشتقاقه من النَّجْل الذي هو الأَصل، يقال: هو كريم النَّجْل أَي الأصل والطَّبْع، وهو من الفِعل إِفعِيل) لكنّ هناك مَن وضع الكلمة بصيغة الجمع شأنها شأن إكليل وأكاليل بقوله «أناجيل» وهذا خطأ قد وقع به الجامع لفظًا ومعنى؛ إذ لا يصحّ وضع الكلمات المتشابهة في ميزان صَرفيّ واحد، لا يجوز- مثالًا- جمعُ أسماء العَلَم مثل يسوع وجبرائيل (أو جبريل) وبغداد ولندن وزُحَل والمِرّيخ. هذا من جهة اللفظ؛ أمّا من جهة المعنى فإن معنى الإنجيل: الخبر السّارّ أو المُفرِح، بشّر به أربعة إنجيليّين- نسبة إلى إنجيل- كُلًّا من جهته. يشبه ذلك قيامُ أربعة فلاسفة بالكتابة عن الوجود كُلّاً بحسب رؤيته وثقافته وطريقة تفكيره وأسلوبه، لكنّ الوجود واحد. ويشبهِهُ التقاطُ أربعة مصوّرين صُورًا لبرج إيفل من أربع جهات، لكنّ البرج واحد.
بالمناسبة؛ قلت (لا يجوز- مِثالًا) ولم أقل (مَثَلًا) لأنّ معنى المثال (المقدار وصِفة الشيء وصورته) وجمعُهُ: أمثلة ومُثُل، غير معنى المَثل (الآية والحُجّة والحديث) ج: أمثال. لعلّ من السّهل مراجعة سلسلة «قل... ولا تقل...» في الكتب وعلى الإنترنت، حتى يحين موعد القرّاء الأحبّاء مع النوع الثالث من الأخطاء اللغوية- التي في الشِّعْـر- قريباً، بعَـون الربّ يسوع، مع أطيب الأمنيات