يُخطئ مَن يظنّ بوجود تعريف ثابت للشعر وشكل واحد ولون واحد ومذاق واحد. ويُخطئ مَن يظنّ أنّ لغته الأمّ هي الأحسن والأحلى والأرقى، على غرار مَثل دارج في فلسطين: (القرد في عين أمّه غزال) - شكرًا سارتاه- ويُخطئ مَن يظنّ بخلوّ قصائد شعوب العالم من المعاني الجميلة والذوق الرفيع والموسيقى الداخلية التي تعزفها الأوزان والقوافي والموسيقى الخلفية التي تصنعها الكلمات المؤثرة. فقد وصلني من اليابان في أواخر السبعينيات شريط (كاسيت) غنائي ألحان مقاطعه الشعريّة عذبة وإن لم أفهم معاني الكلمات، لكني استطعت بسهولة تذوّق إحساس المطرب الياباني وإيقاع الوزن ووحدة القافية في كل مقطع. والحالة عينها في سائر الشرائط غير العربيّة التي وصلتني من شعوب الشرق والغرب. أمّا المقاطع الغنائيّة التي أكاد أفهم غالبيّة كلماتها فأخصّ بالذكر اللغات الآراميّة {أي السّريانية ولا سيّما قصائد الملفان مار أفرام السرياني (نصيبين 306 ـ الرها 373 م) المُرنَّمة والكلدانية والآشورية} والإنگـليزية والفرنسية واليونانية. وأكاد أفهم حاليًّا (بدون افتخار) الدنماركية والسويدية والنرويجية
الأخطاء الشِّعريّة والأدبيّة
أمّا العربيّة فقد شدّتني إليها القصائد الفِصاح ولا سيّما المُقفّاة وأطربتني منها المُغنّاة. قضيت لياليَ لا تُنسى مع الشعر القديم ولا سيّما الذي وصلني من زمن المُعَلّقات العَشر والعصور الأمويّة والعبّاسيّة، ذلك في المرحلة المتوسّطة من دراستي، بالإضافة إلى دراستي النحو والصّرف في كتاب “شرح ابن عقيل” على ألفيّة ابن مالك. فطالما نِمْتُ مُتوسِّدًا الكتب. وقد تنبّهت إلى التفعيلة ولم يشغلني طويلًا عِلم العَروض، إذ تعلمتُ أوزان الشّعر خلال بضع ساعات واطّلعتُ على نوعَي الزحاف ونوعي العلّة (وهما مفردتان عَروضيّتان) وعلى العيوب اللاحقة بالقوافي وعلى الجوازات الشعريّة المسمّاة أحيانًا بالضرورات. فأذهلت سعة اطّلاعي جميعَ أساتذتي في اللغة في تلك المرحلة وما تلاها. وقد بدأ حينذاك ميلي إلى كتابة الشعر. ولا أبالغ بالقول أني كتبت قصائد موزونة على جميع البحور بدون استثناء في خلال بضعة أسابيع. والمرّة الأولى التي ألقيتُ فيها إحدى قصائدي كانت في بداية المرحلة الثانويّة وعلى مسرح المدرسة، كانت من بحر الطويل، تشبه قصيدة “قِفا نبكِ...” التي للشاعر اٌمرئ القيس
لكنّ الشعر الحديث قد تحرّر من قيود الوزن والقافية، مكتفيًا صاحبه بالموسيقى الداخليّة في كلّ مقطع ومقتديًا بأسفار الكتاب المقدّس الشعرّية. عِلمًا أنّ أسفاره إذا درسها الباحث بدقة فلن يجد في أدب العالم كلّه نثرًا يرقى إلى بلاغتها ولا شِعرًا يوازي روعتها؛ أخصّ بالذكر قصّة أيّوب وشِعره في سِفر أيّوب ومزاميرَ داود الملك وسِفرَ الأمثال الغنيّ بالحكمة وسِفرَ نشيد الأنشاد المفعم بالمعاني الروحيّة السّامية والسّفران الأخيران مُوحىً بهما على لسان سليمان الملك الحكيم. فنِعْمَ الأدبُ المُستوحى من أسفار الكتاب المقدّس (كما اٌستوحى شعراءُ المُعَلّقات وقد وُلِدوا من قبائل مسيحيّة في شبه الجزيرة العربية) وبئسَ الأدبُ المسروقُ منه المنسوبُ إلى أشخاص آخرين قد باتوا في نظر كثيرين من حثالة المجتمع. أمّا الإقتباس الأدبي (أو النقل) فيقتضي حصر النصّ المُقتبَس (أو المنقول) بين قوسين (أو مزدوجين) مع ذِكر اسم الكاتب المقتبَس منه وعنوان الكتاب وتحديد الجزء والفصل. وتقتضي الضرورة أحيانًا الإشارة إلى دار النشر ورقم الطبعة وتاريخ طبعها
إلّا أنّ بعض الكتّاب الجدد الذين ادّعوا تحرّرهم من قيود الوزن لا يزالون متشبِّثين بالقافية سواء المُطْلقة والمُقيَّدة أو محاصَرين بها، تشبه قصائدُهم سَجْعَ الكهّان وتقترب من فنون الدوَبيت والزجل والموشّح وغيره، منهم من نجح بهذا اللون أو ذاك وأجاد سواء بالفصحى وسائر اللهجات ومنهم من يحاول ارتقاء سلّم النجاح. أمّا رأيي: أمام الشاعر والشاعرة خياران؛ إمّا التحرّر كليًّا مِن قيود العَروض وحِصار القوافي، أو الإلتزام بأصول كتابة الشعر العربيّ. تلزم الخيارين موهبة شعريّة وثقافة واسعة. لكنّ الخيار الثاني صعب نسبيًّا، إذ يلزمه أيضًا التمكّن من علوم اللغة ولا سيّما المعاني والنحو والعَروض. ومن جهة أخرى؛ هنالك من أتقن علوم اللغة وأوزان الشعر والقوافي، لكنّه لم يجرؤ على نظم قصيدة واحدة في حياته، لأنّه افتقر إلى الموهِبة. وهناك كثيرون ممّن أتقنوها لكنّهم اضطُرّوا إلى السكوت متفادين خفافيش النظام المتسلّط. وهناك الشاعر الذي استطاع أن يوهم الناسَ بجنونه خوفًا من الملاحقة؛ كما فعل قيس بن الملوّح “مجنون ليلى” لأنّ ليلى (العامرية وكنيتها أمّ مالك) مسيحيّة قد رفضت الإرتباط به بسبب اختلاف دينه عن دينها. وهناك الموهوب الذي يحتاج إلى مزيد من الدراسة والبحث لصقل موهبته وتطويرها
ذكر العلّامة لويس شيخو: {إنّ عِلم العَروض- بحسب العَروضيّين- صناعة يُعرَف بها صحيح أوزان الشّعر العربي وفاسِدها؛ موضوعُهُ الشعر من حيث صحّة وزنه وسُقمه. وواضِعُهُ على المشهور الخليل بن أحمد الفراهيدي في القرن الثاني من الهجرة (ت 174 هـ،791 م) وكان الشعراء قبله ينظمون القريض على طراز مَن سبقهم أو استنادًا إلى مَلَكتهم الخاصّة. قِيل أنّ الخليل اهتدى إلى وضع هذا الفن بمعرفة علم الأنغام والإيقاع لتقاربهما. وقيل أنه مرّ يومًا بسوق الصفّارين فسمع دقدقة مطارقهم على الطسوت فأدّاه ذلك إلى تقطيع أبيات الشعر وفتح الله عليه بعِلم العَروض. وممّا يخبر أنّ أبا العَتاهية نظم شِعرًا فقيل لهُ: (خرجْتَ فيه عن العَروض) فقال: (سبقتُ أنا العَروض) وكان أبو العتاهية معاصِرًا للخليل تُوفّي بعده بقليل. أمّا البَحْرُ: هو الوزن الخاص الذي على مثاله يجري الناظم. والبحور ستّة عشر. وضع الخليل أصول خمسة عشر منها وزاد عليها الأخفش بحرًا آخر سمّاه المتدارك. ودونك أسماء البحور: الطويل، المديد، البسيط، الوافر، الكامل، الهَزج، الرّجَز، الرّمَل، السّريع، المُنسرِح، الخفيف، المُضارع، المقتضب، المُجتثّ، المتقارب، المتدارك} انتهى
ومن الصعب الآن القيام بطرح خصائص الشّعر الموزون ونظام قوافيه، لكنّي أنصح الموهوب الذي يفكّر (والموهوبة) في كتابة الشعر العربي- على أصوله- بدراسة كتاب «علم الأدب» الجزء الأوّل في علم الإنشاء والعروض، طبعة 1897 المصحّحة، ابتداءً بالقسم الثاني في العَروض والقوافي ص 359 لمؤلّفه الأب اليسوعي لويس شيخو (1859 ماردين- 1927 بيروت) علمًا أنّ الكتاب متوفـر على الإنترنت وأنّ القطعة الموضوعة بين القوسين هي من كتابه هذا ومن الصفحة المذكورة وما تبعها
بقِي أن أشير إلى مفهوم الضرورة الشعريّة التي تجعل من العِبارة الشعريّة أخفّ ثقلاً على لسان القارئ وأخفّ وَطْأً على أذن السامع، لا يجوز اتخاذها ستارًا لأخطاء نحوية وعروضيّة. فقد تنبّه دارسو المعلّقات ودارساته إلى ما فعل أحد شعرائها- الحارث بن حَلّزة- يوم مدح المنذر بن ماء السّماء قائلاً: (فمَلكْنا بذلِكَ الناسَ حتى -- مَلَكَ المُنذِرُ بنُ ماءِ السَّمَاءِ) فهذا البيت يُشبه في تصوّري ذبابة وقفت على لوحة الموناليزا! فمعلوم أنّ حرف رويّ المعلّقة التي مطلعها: (آذنتنا ببَينها أسمَاءُ...) هو الهمزة مضمومة الآخِر ووزن القصيدة من بحر الخفيف وأنّ "السماء" قد وقعت في محلّ جرّ مُضافًا إليه. سُمِّيَ ذلك العيب بالإقواء وهو أحد عيوب القافية، لذا لا يجوز للشاعر (وسائر الكتّاب) أن يرفع اسمًا واقعًا في محل نصب أو يجزم فِعلًا مرفوعًا... إلخ تحت خيمة الضرورة الشعريّة، لأنّ ذلك يجعل القافية (أو أيّة كلمة) في غير محلّها. وأحيانا ما تترك الأخطاء لدى القارئ انطباعاً قد يحطّ من قدر الشاعر، بوَصْفِهِ بالشّوَيْعِر والمغمور والمُبتدِئ
أسعد أخيرًا بقراءة محاولات شعريّة راقية برهافة الإحساس وبلاغة النصّ وحُسن التذوّق، لكن تؤلمني رؤية محاولات أخرى هابطة ببعض مفردات اللغة ومسيئة إلى بعض قواعدها، كأنّ مفردة ما لاصقة بالبيت هنا أو أنّ عِبارة ما دخيلة عليه هناك. قلت متأكّدًا: إنّ مراجعة تراث العرب ولا سيّما المدوّن في زمن المعلّقات وفي العصور المذكورة أعلى ضروريّة لمن أراد كتابة الشعر الفصيح على أصوله. فالمتفق عليه في النقد الأدبي هو أنّ شعراء الحداثة- وشاعراتها- من المشاهير كانوا متمكّنين من الشعر العمودي قبل شروعهم بالكتابة بألوان الشعر الأخرى في أواسط القرن الماضي. مع أطيب المُنى