لقد تأمّلت في قياس حجمَين من الأخطاء أحدهما خيالي والآخر واقعي. في الأوّل رصدٌ دقيق لكمال مهندس الكون؛ لو أن هذا المهندس جعل الأرض في مدار أقرب إلى الشمس من مدارها الحالي أو أبعد، لو أنّ كتلتها زادت أو نقصت، لو أنّ وزنها ثقل أو خفّ، لو أنّ حجمها كبر أو صغر، لو أنّ سمك غلافها الجوّيّ غلظ أو رقّ أو افتقر إلى حماية طبقة الأوزون وغيرها، لو أنّ نظام حركة الأجرام السّماوية اختلّ دقائق معدودة، لحلّت الكارثة على الكون وعلى حياة الكائنات الأرضيّة الحيّة. ولاُنحسرت الحياة على الأرض وفيها أو اٌنعدمت. هذا المهندس العجيب الذي أذهلت هندسته علماءَ الفلك هو {المؤسّسُ الأرضَ على قواعدها فلا تتزعزع أبد الدهور} - سِفر المزامير 5:104 أمّا الثاني فمتعلّق بنظام السّير المذكور في الحلقة الثانية. بَيْدَ أنّ أصعب الأخطاء وأكثرها خطورة هو خطأ الإنسان المقصود، أي الخطأ الذي يعلم فاعله بأنه خطأ- قصدت هنا الخطأ بشكل عام- أيًّا كان نوع الخطأ. فمِن الأخطاء الشائعة ما يُظنّ صوابًا ومن الآراء الصائبة ما يُظَنّ خطأ. وقد ذكرت عددًا من الأخطاء الشائعة في سلسلة المقالة السابقة، كان غيضًا من فيض، لعلّ من المُفيد ذِكر عدد آخر
الأوّل- من جهة الإملاء- فهناك خلط غير مدروس بين التاء المربوطة كما في {دجلة، سارة، مَرأة، عِظة، لغة، ساعة، فتاة، مِرآة، حياة، قضاة، عِكْرِمة، قُتَيبة...} وبين الهاء الأصليّة {كالتي في الأسماء: الله، إله، فقيه، تائه، هذه، مياه... والتي في المصادر: فِقه، انتباه، تنزيه، تنزّه... والتي في الأفعال: فقِهَ، وَجّه، يُنزّهُ، يُنوّه، زهْ، تنبّهْ، لاتنهَ عن فعل الخير، ألْهِ النار، لا تسْهُ...} وبين هاء الضمير المَبنيّة على الضمّ أو المبنيّة على الخفض «أي الكسر» سواء 1 المتصلة بالإسماء في قولك (هذهِ سيرتُهُ) وفي قولك (أصغيتُ إلى عِظتِهِ) وكلاهما وقع في محلّ جرّ مُضافًا إليه. و2 المتصلة بحروف الجرّ: لهُ، فيهِ، عليهِ... و3 المتصلة بالأفعال: رأيتُهُ، يراهُ، خُذهُ، إهْدِهِ... فالهاء المتصلة بكل من هذه الأفعال قد وقعت في محل نصب مفعولًا به، سواء المَبنيّ منها على الضمّ والمبني منها على الخفض. ذلك باستثناء التالي: تُلفظ التاءُ المربوطة هاءً في إحدى حالتين؛ إمّا لتوقّف القارئ عن الكلام فجأة، أو لوقوع الكلمة ذات التاء المربوطة في نهاية الجملة. لكنّ شرط الكتابة يقتضي بقاء الكلمة على تائِها المربوطة وإن لُفِظت بالهاء. أضرب مثالًا: {قرأتُ مَوعِظةَ يسوع على الجبل فما أروع تلك الموعظة} فتلفظ تاء الأولى كما هي ومع الحركة الظاهرة على التاء لأنّ إعرابها: مفعولٌ بهِ منصوبٌ وعلامة نصبهِ الفتحةُ الظاهرة على آخره وهو مُضاف. أمّا الثانية فتلفظ هكذا «المَوعِظهْ» بتسكين الهاء. إذ اعتاد العرب على الوقوف على ساكن، سواء أكانت الكلمة إسمًا أو فعلًا أو حرفا. ويمكن البحث في خصائص أخرى لحرف الهاء في القواميس، كما في التالي: يا أبتاه، واوجعاه، هاهُناه، آهِ، إيّاهُ، أوهُ أو أوهِ... إلخ
وقد عدت إلى همزة "امرئ" فتُكتب في حالة الرفع "امرؤ" وعند النصب "امرأ" فيُقال: هذا اٌمرؤ القيس. إستقبلتْ سلمى اٌمرأَ القيس. أثنى مستشرقان على مُعلّقة اٌمرئ القيس. وبالمناسبة؛ رأيت خلطًا بين الألف المقصورة “ى” وبين الياء، إذ كُتِبَتْ {سلمى، موسى، بُشرى، على- الجارّة} بطريقة مغلوطة «سلمي، موسي، بشري، علي» فشتّان ما بين الطريقتين لفظًا ومعنىً. وهناك من فعل العكس، إذ كتب: {عربي، مصري، الطائي، البحتري} بالغلط: (عربى، مصرى، الطائى، البحترى) وقد سبق لي تنبيه أحد الكتّاب لهذا الغلط لكنّه تجاهل. وهناك أخطاء إملائية ونحوية تُثير التعجّب؛ منها: (رأيتكي ذاهبة أنتي وأخوكي. حمّلني أبوكي رسالة إليكي. سلّمَ عليكي وعلى أخوكي) أمّا الصحيح: {رأيتكِ ذاهبة أنتِ وأخاكِ. حمّلني أبوكِ رسالة إليكِ، سلّمَ عليكِ وعلى أخيكِ} فطُوبى لِمَن يتقبّلُ النقد البنّاء وطوبى لمن تتقبل
والثاني- من جهة القواعد- إذ {شملت قواعدُ اللغة العربية علومَ الصّرف والمعاني والألفاظ والعَروض وغيره، بالإضافة إلى علم النحو الذي يعني نظامَ تركيب الجُمَل في هذه اللغة وقواعد الإعراب. وقد ذكر العلماء خصائصَ تكتسبها كل كلمة بحسب موقعها في الجُملة كالإبتداء والفاعليّة والمفعوليّة والظرفيّة. وأحكامًا كالتقديم والتأخير والبناء والإعراب} - نقلًا بتصرّف من ويكيپـيديا: نحو عربي. فلم تتسع المقالة (في جزئها الثاني) لذكر مواضيع عدّة؛ منها الكتابة عن تلكم الخصائص والأحكام. والتطرّق إلى حالات الشذوذ عن القواعد. واختلاف القبائل القديمة على طريقة كتابة المفردات اللغوية والنطق بها وعلى بنائها وإعرابها. واختلاف المدرستين اللغويّتين البصريّة (نسبة إلى البصرة) والكوفيّة (نسبة إلى الكُوفة) على الفصاحة والقياس والاستشهاد. ذلك لأني آثرت في هذا المبحث التبسيط والإختصار ما أمكن. فلاحظت، ضمن أخطاء عدّة، خلطًا بين واو المتكلم-ة (أنا أسهو) وواو المتكلم-ة عن الغائب-ة (هو يسهو وهي تسهو) وواو المتكلمين والمتكلّمات (نحن نسهو) وواو جمع المذكر السالم المضاف في قولك (جاء مُرنِّمو الكنيسة وعازفو الموسيقى) وبين واو الجماعة المتصلة بالأفعال المنتهية بألف الجماعة كما في التالي: هُمْ سهوا (للماضي) وأولئك لم يسهوا (للمضارع المجزوم سواء بحرف جزم وأداة الشرط الجازمة في قولك: مهما يزرعوا يحصِدوا) وطلبت إلى التلاميذ أن يرسموا أيقونة (للمضارع المنصوب) أمّا أنتم فلا تسهوا (بصيغة الأمر للجماعة المخاطَبَة) فلا تجوز كتابة التالي: “أنا أسهوا ونحن ندنوا” ولا “جاء مُرنِّموا الكنيسة وعازفوا الموسيقى” لأنّ ألف الجماعة التي خلف الواو لا تشمل أسماء الجمع. إذًا كيف يدخل إلى عالم الكتابة ومملكة الشعر خصوصًا مَن يُخطئ في الإملاء والقواعد والإعراب أخطاءً مدرسيّة؟ كأنهُ باقٍ في المرحلة الإبتدائية. لقد كان مقطع الآية التي في سِفر النبي هُوشَع 6:4 (قد هلكَ شعبي مِن عدم المعرفة) يرنّ في أذني كلّما شعرت بحاجة إلى المعرفة
والثالث- من جهة الشعر- حيث أركّز على الخطإ النحوي فيه (تحت غطاء الضرورة الشعريّة) لأنّي ذكرت مرجعًا للأخطاء العروضيّة وعيوب القوافي في الحلقة الثالثة من السلسلة. لقد اعتاد العرب على خفض حرف الرويّ (وهو الحرف الأخير في القافية- وقد تحتوي القافية على حرفين منه أو أزيد) إذا كانت الكلمة فعلًا واقعًا في محل جزم. ذلك للضرورة الشعرية، كقول زهير بن أبي سلمى {يَسْأمِ} في معلقته التي من بحر الطويل: (سَئِمْـتُ تكَالِيْفَ الحَيَاةِ ومَن يَعِـشْ -- ثمانِيـن حَـولاً لا أَبا لكَ يَسـأمِ) لكنّ أبا الطيّب المتنبّي قد نصب ما وجب خفضه بقوله (تصْبِرا) في قصيدة من بحر الكامل مطلعها: (بادٍ هواكَ صَبَرْتَ أمْ لمْ تصبرا – وبُكاك إنْ لم يَجْرِ دمعُكَ أم جرى) وقد تمّ تبرير ذلك الخطأ على أساس أن أصل الكلام: (لمْ تصْبرَنْ) حذف الشاعر نون التوكيد للضرورة الشعرية فبقِيت الفتحة التي على الرّاء فأطلقها بألف الإطلاق لتصبح: تصْبرا. أمّا الشاعر أحمد شوقي فقد فعل العكس، إذ أضاف نون الأفعال الخمسة الى فعل ماضٍ صحيح الآخِر متصل بواو الجماعة (كَذَبُون) وذلك في مسرحيته الشعرية «مصرع كليوپاترا» بقوله على لسان أنطونيو: (كِليُـپَترا! عجَبٌ! أنتِ هُنا! -- لمْ تموتي... هُمْ إذن قد كذبون) – الفصل الثالث ص 79 والبيت مِن بحر الرَّمَل
خلاصة: سأكتب عن تجربتي في الكتابة؛ في ذهني أربع مراحل. أوّلًا: تكوين محور الموضوع مع تحديد النقاط الرئيسية التي تدور حول المحور بأبعاد متساوية تقريبًا. ثانيًا: الكتابة المتأنية مع تهيئة الجوّ الملائم للكتابة ما أمكن. ثالثًا: مراجعة الموضوع أزيد من مرّة وفي أوقات مختلفة، لرصد الأخطاء مع محاولة التعديل بالحذف والإضافة (علمًا أني اختصرت الحلقات الثلاث إلى النصف أو الثلث، حرصًا على استمرارية شدّ القارئ-ة إليها واحترامًا للوقت الثمين. فمثالًا لا حصرًا: قمت بحذف مقطع كامل من الحلقة الثالثة عبّرت فيه عن رأيي في الشعر) رابعًا: النشر بعد توفر قناعة شخصية بأهميّة الموضوع وبضرورة النشر. والأخير أخطر المراحل؛ لأنّ المادّة بعد نشرها تصبح "مُلكًا" للقرّاء، إذ يحقّ لهُمْ- ولهُنّ- إرسال نسخة منها إلى الأحبّاء (بدون إغفال ذكر اسم الكاتب ومكان النشر) ويحقّ تقويمها ونقدها والتعقيب عليها. عِلمًا أنّ مِن الكتّاب- والكاتبات- من احتفظ بثماره لنفسه حتى أجل غير مسمّى. أمّا النشر فمسؤوليّة كبيرة مُلقاة على عاتق كلّ من الكاتب والناشر. فإذا ما أراد الناشر رفع المسؤولية عنه نوّه بأنّ المادّة المنشورة تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن رأيه. وهذا مِن حقه. مع أطيب المنى