ذكرت في مقالتي “الكتاب المُقدَّس والشِّعْر العربي” أن فضل تعليم العرب الكتابة يعود إلى السُّرْيان، استنادًا على بحوث العَلَّـامة لويس شيخو اليسوعي (۱۸٥۹ ماردين- ۱۹۲٧ بيروت) إذ ورد في القسم الثاني من كتابه «النصرانيّة وآدابها بين عرب الجاهليّة» التالي: (أوّل خدمة أدّاها نصارى العرب لقومهم تعليمُهُم الكتابة. وهي قضية يشهد عليها تاريخ الكتابة العربيّة وأصولها... إلخ) وقد أوجز العلّـامة عددًا من الشواهد والأدلّة قمت برصد بعضها في مقالتي المذكورة. كما توصّلت في المقالة ذاتها إلى نتيجة مهمّة هي أنَّ شعراء العرب قد استلهموا موسيقى الشعر التي تدفقت عبر بحوره الستة عشر، أي أوزان الشعر العربي، من موسيقى الشعر السُّرياني الذي رائده القِدِّيس مار أفرام السرياني (نصيبين ۳۰٦ ـ الرَّها ۳٧۳ م) إذ كتب ملايين من الأبيات الشعرية بلغته الأمّ- السُّريانيّة- وقد تمّ ترنيمها في كنائس عدّة. ذلك من خلال اتصالهم المتواصل مع السريان طوال الزمن الذي سبق كتابة أولى المُعَلَّقات. إذ لم يصلنا شيء من الشعر العربي قبل أواسط القرن الخامس الميلادي
شكرًا ثانية وثالثة للعَلَّـامة الأب لويس شيخو اليسوعي على تفضله بالغوص في الأدب العربي وخصوصًا علم العروض (أي أوزان الشعر وقوافيه) وقد نهل من بحوثه التراثية كثيرون- ومنهم الكاتب- وفكر في إنصافه قليلون ولن ينصفه أحد مهما يحاول. لعلّ من حسن الحظ العثور على بعض كنوزه الأدبية عبر الإنترنت. فقد تناول علم العروض بإسهاب وإطناب في الجزء الأوّل من كتابه “علم الأدب” حتى أجاد وأحسن سواء في البيت الشعري بقسميه الشطر والعجز وفي البحر وتقطيعه. والهدف من هذه المقالة هو تبسيط الموضوع لهذا الجيل من شعرائنا- وشاعراتنا- الذين يكتبون شعرًا بإحساس صادق، لكنهم لا يعرفون كيف يكتبون القصيدة، لأنّ علم العروض الذي في الكتب والذي في المناهج المدرسية مشروح بطريقة نظرية تبدو معقدة يدوخ بها الشاعر فيتهرب من الوزن مكتفيًا بالقافية. والقافية وحدها لا تفي القصيدة حقها! والشعر غير الموزون يشوّه منظر القصيدة العربيّة من جهة ولا يرقى إلى أسلوب السَّجْع المعروف بسجع الكهّان من جهة أخرى. لعلِّي أستطيع بهذه المقالة من سلسلة مقالات إعادة ماء وجه الشعر إلى مجاريه لتتألق القصيدة من جديد وتعود كسابق عهدها. فلا يُعقل عجز الإنسان الحديث الناطق بالعربية والكاتب بها مِن
تذوّق موسيقى الشعر التي تذوّقها الإنسان العربيّ القديم وازدهى بها، حتى كتب الشعر بأسلوب رصين جعل المتلقِّي مبتعدًا بإحساسه عن قيود الوزن وعن التكلّف في صياغة الفكرة وعن الإضطراب في حبكة الموضوع
وبالمناسبة؛ نقرأ في التراث أنَّ شاعر النصرانية والمعلَّقات المخضرم زهير بن أبي سلمى (كان ينظم القصيدة في شهر ويُهذِّبها في سنة. فكانت قصائده تسمى الحَوْلِيَّات- ويكيبيديا) ونقرأ أيضًا (حاول ابنه كعب أن ينظم الشعر منذ حداثته فردعه أبوه، مخافة أن يتسفَّل ويأتي بالضعيف فيشوّه مجد الأسرة، وما زال يهذّب لسانه ويجهِّز شاعريته برواية الشعر حتى استقام له النظم) أمّا اليوم فقد حزّ في نفسي أن أرى شاعرًا- أو شاعرة- يكتب بطريقة عبثيَّة لأنّه في شعره يلتزم بالقافية التزامًا واضحًا ولا يلتزم بالوزن، ما يدلّ على أنّ أذنه ليست موسيقية. شعره خالٍ من أيّة منظومة شعريّة. حتى الشعر المترجم عن اللغات الأخرى تصلنا منه موسيقى داخلية علمًا أنهُ خالٍ من قيود الوزن ومن تكلّف القافية. هل تريدان شهادتي أخي العزيز- وأختي العزيزة؟ أستطيع أن أشهد لك بوجود موهبة شعريّة وروحيّة، لكني لا أستطيع إطلاق وصف الشاعر عليك ولا أستطيع الإشادة بخصائص الموهبة الممنوحة لك، لأنها غير مصقولة ولا مسؤولة. حتى الربّ يسوع له المجد حين يفرح بشعرك يحزنه أنك تسيء- بدراية أو جهل- إلى القصيدة العربيّة الجميلة وتاليًا إلى روّاد الشعر الأصيل. نصيحتي المخلِصة هي أنّك إمّا أن تكتب الشعر بالعربيّة على أصوله، أو تكتبه بعيدًا جدًّا عن مظاهر الوزن والقافية. ثِق وثقي بأنّ الرّبّ يسوع لن يطالبكما بوزن ولن يلزمكما بإدخال قافية
أوَّلًـا: بحر الطويل
إن كنت شاعرًا حقًّا فلا شكّ في استمتاعك بأبيات من مُعلَّقة اٌمرئ القيس التي مطلعها
قِفا نَبْكِ مِن ذِكرَى حَبيب ومَنزِلِ -- بسِقطِ اللِّوَى بَيْن الدَّخُولِ فحَوْمَلِ
والتي اخترت منها: وليْلٍ كمَوْجِ البَحْرِ أرْخى سُدُولهُ * * عَليَّ بأنواعِ الهُمُوْمِ لِيَبتلِي
وهي من بحر الطويل الذي تقطيعه
وليْلِنْ- كمَوْجِلبَحْ- رِأرْخى- سُدُولهُوْ * * عَليْيَ- بأنواعِلْ- هُمُوْمِ- لِيَبتلِيْ
تفعيلته: فَعُولُنْ- مَفاعِيْلُنْ- فَعُولُنْ- مَفاعِلُنْ * * فَعُولُنْ- مَفاعِيْلُنْ- فعولن- مَفاعِلُنْ
والدراسة النظرية تنصّ على أنّ له عروضًا واحدة هي مَفاعِلُنْ وثلاثة أضرب هي التامّ “مَفاعِيْلُنْ”
والمقبوض “مَفاعِلُنْ” والمحذوف “مَفاعِي” المنقول إلى فَعُوْلُن
ملاحظات الوزن المشتمِلة على مواقع الحركة والسكون
أوَّلًـا؛ نرى فعُولُنْ في بيت الطويل أربع مرّات، تجوز فيها التفعيلة فَعُوْلُ بدلًـا من فعولن. لاحظ أنّ وزن “عَلَيَّ” التي تقطيعها عَليْيَ هو فعولُ بالضمّ غير منوّن الآخِر، مثلها: هُمُوْمِ. يجوز هذا التبديل (أي فعولُ) في بحر المتقارب مثالًـا ولا يجوز في بحر الوافر، ما سآتي على ذكره في حينه
ثانيًا؛ إنّ الضمّة التي على هاء “سدولهُ” تجعل التفعيلة على وزن مفاعلُ (حيث اللام متحرك بالضمّ) بدلًـا من مفاعلنْ وهذا لا يجوز في الطويل ولا في غيره من البحور. لكنّ الضمّ والخفض (أو الكسر) يثقلان هذا الحرف إلى درجة إمكانية مدّه بالواو أو الياء وتاليًا تصبح التفعيلة مفاعلُن. أمّا تمشية التفعيلة مفاعلُن بعد مدّ فتحة كاف المخاطب-ة أو مدّ كسرته في قولك “كتابك” بالفتح أو الكسر فلا أثر له في الشعر الأصيل بل ضرب من النشاز الذي وقع فيه شعراء اليوم. لا تجوز مفاعلُ عوضًا عن مفاعلُنْ إلّا في القافية المُحَرَّكة الآخِر، كما في “ومنزلِ” التي تقطيعها: ومنزلي. و“فحَوْمَلِ” مثلها
ثالثًـا؛ هناك من الشعراء القدامى الذين اختصروا مَفاعِيْلُنْ إلى مَفاعِلنْ بوضوح، لكن هذا الإختصار غير مستحبّ فلا أنصح بتقليدهم؛ كقول امرئ القيس
تُضِيءُ الظَّلامَ بالعِشَاءِ كأَنَّهَا -- مَنارَةُ مُمْسَى رَاهِبٍ مُتبَتِّلِ
تُضِيئُظْ= فعولن. ظلامَبِلْ= مَفاعِلنْ- والمفروض: مفاعيلنْ. عشاءِ: فعولُ. كأنْنَها: مفاعِلن. منارَ: فعولُ. تُمَمْسارا: مفاعيلنْ. هِبنْمُ: فعولُ. تبَتْتِلِيْ: مفاعِلُن
ملاحظات القافية
أوَّلًـا؛ لاحظنا أنّ قافية القصيدة المذكورة هي مَفاعِلُنْ وحرف الرويّ فيها هو اللام المخفوض. وقافية الطويل على ثلاثة أضرب؛ مفاعلن (كما في القصيدة) ومفاعيلن وفعولن. مثال القافية “مفاعيلن” نجده في قصيدة امرئ القيس التي مطلعها
قِفا نبْكِ مِن ذكرى حبيب وعِرفانِ * * ورَسْمٍ عَفتْ آياتُهُ منذ أزمانِ. ذُؤَزْمانِيْ: مفاعيلُنْ
ومنها: أتتْ حجَجٌ بَعدي عليهِ فأصبَحَتْ * * كخطّ زبُور في مَصَاحِفِ رُهبانِ
أمّا مثال القافية “فعولن” فلنأخذ قصيدة لامرئ القيس أيضًا
لِمَن طللٌ أبْصَرتُهُ فشَجَاني * * كخطّ زبور في عَـسيب يَماني. يَماني: فعولن
لهَا مِزْهَرٌ يَعْلُو الخَمِيسَ بِصَوْتهِ * * أجَشُّ إذا مَا حَرَّكَتْهُ اليَدَانِ
وإن أمس مكروباً فيا رُبَّ غارة * * شَهِدْتُ عَلى أقَبّ رَخْوِ اللَّبَانِ
وهنا يستحبّ عكس ما أسلفت عن فعولن؛ ففي قوله (أجَشُّ إذا مَا حَرّكَتْهُ اليَدَانِ) أجَشُّ: فعولُ- وهذا جائز وخفيف الظلّ. إذاماحَرْ: مفاعيلنْ. رَكَتْهُلْ: فعولُن- وهذا جائز لكن ثقيل! إنما المستحَبُّ في هذا الضرب من بحر الطويل تخفيف فعولن الثانية، أي التي في عجز البيت، إلى فعولُ. كأن يُقال- مثالًـا “أجَشُّ إذا مَا حَرّكَتْهُ يَدَانِ” بعد حذف ألـ التعريف من “اليدانِ” والوضع نفسه مع قوله في عجز البيت التالي والذي فيه أيضًا مفاعلن بدلًـا من مفاعيلنْ. لكن لاحظ خفّة البحر واستقامته في قوله التالي
أجارتنا أن الخطوب تنوبُ * * وأني مقيمٌ ما أقامَ عسِيبُ
أجارتنا إنّا غريبان هاهُنا * * وكلُّ غريب للغريب نسيبُ
فإن تصِلِينا فالقرابة بيننا * * وإن تصْرمِينا فالغريبُ غريبُ
أمّا استقامة الوزن عمومًا فلا تجوز على حساب قواعد اللغة- كما يحصل مع بعض شعراء اليوم حين يرفعون منصوبًا ويخفضون مرفوعًا بذريعة الضرورة الشعريّة. فقد سبق لي التنويه في مقالتي حول الأخطاء في الكتابة إلى أن الضرورة الشعريّة من عوامل جماليّة القصيدة، لا تضطرّ الشاعر إلى استخدامها على حساب القواعد
ثانيًا؛ صحيح أنّ وزن قوله في البداية “ لِيَبتلِيْ” هو مَفاعِلنْ بالتقطيع الشعري أي وفق مواقع الحركة والسكون. لكنّ وزن “ لِيَبتلِي” في الحقيقة هو مُتَفْعِلُنْ التي تختلف عن مفاعِلُنْ بحرف الألف الممدود والواضح في مفاعِلُنْ. ولتوضيح هذه القاعدة، أضرب مثالًـا على تفعيلة مفاعِلُنْ أخرى من بحر الطويل ذاته وحرف الروي المخفوض عينه. كقول عَبيد بن الأبرص
ألِيْنُ إذا لان الغريمُ وألتوي * * إذا اٌشتدّ حتّى يُدركَ الدَّينَ قاتِلي. نَقاتِليْ: مَفاعِلُنْ
وتقطيعه: ألِينُ- إذالانلْ- غريمُ- وألتوي * * إذشْتدْ- دَحَتْتايُدْ- ركَدْدَيْ- نقاتِلي
وأمطُلُهُ العَصرَينِ حتّى يملَّني * * ويرضى ببعض الدَّين في غير نائلِ. رنائلي: مفاعِلُنْ
وتقطيعه: وأمطُ- لُهُلْعَصْرَيْ- نِحتْتى- يَمَلْلني * * ويرضى- ببعضِدْدَيْ- نِفيْغَيْ- رنائلِيْ
فلا يجوز اجتماع مَفاعِلُنْ ومُتفْعِلُنْ في قوافي قصيدة واحدة، أي لا يجوز مثالًـا الجمع بين وائل ونظيرها الذي على وزن فاعل: سائل، حامل، واصل... إلخ وبين منزل ونظيرها الذي على وزن مفعل: مشعل، حَومَل، فيصل... إلخ في قصيدة واحدة. إذ وقع في هذا الخطأ شعراء كثر في هذا القرن والقرن الماضي
أمثلة على بحر الطويل
قصائد امرئ القيس وطرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى التي من المعلَّقات
وقصيدة المتنبي الميميّة التي مطلعها: على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ... إلخ
وداليّته التي مطلعها: لكلّ اٌمرئ مِن دهرِهِ ما تعوّدا... إلخ
ولاميّته الغزلية الجميلة التي مطلعها
عزيز أسىً مَن داؤهُ الحَدَق النجْلُ ** عياءٌ بهِ مات المُحِبُّون مِن قبْلُ
منها: فمَن شاء فلينظرْ إليّ فمنظري * * نذيرٌ إلى مَن ظنّ أنّ الهوى سهْلُ
سَبَتني بدَلٍّ ذاتُ حُسْن يزينُها * * تكحُّلُ عينيها وما لهُما كُحْلُ
وقصيدة أبي فراس الحمداني التي غنتها السيدة أمّ كلثوم والتي مطلعها
أراك عصيَّ الدمعِ شيمتك الصّبْرُ * * أما للهوى نهْيٌ عليكَ ولا أمْرُ
وقصيدة أبي العلاء المعرّي التي مطلعها
ألا فـي سـبيلِ المَجْدِ ما أنا فاعلُ * * عَـفافٌ وإقْـدامٌ وحَـزْمٌ ونائِلُ
منها: ولمّا رأيتُ الجهلَ في الناسِ فاشياً * * تـجاهلْتُ حـتى ظُـنَّ أنِّيَ جاهِلُ
فوا عَجَبًا كمْ يدّعي الفضْلَ ناقصٌ * * ووا أسَفًا كمْ يُظْهِرُ النَّقصَ فاضلُ
وقصيدة بشّار بن بُرْد التي مطلعُها
جفا ودّهُ فازوَرَّ أو مَلَّ صاحبُهْ * * وأزرى بهِ أنْ لا يزال يعاتبُهْ
منها: إذا كنت في كل الأمور معاتباً * * صَديقَكَ لَمْ تَلْقَ الذي لا تُعَاتبُهْ
فعِشْ واحِدًا أو صِلْ أخاك فإنهُ * * مُقارفُ ذنْب مَرَّة ومُجَانِبُهْ
إذا أنت لمْ تشْربْ مِراراً على القذى * * ظمِئْتَ وأيُّ الناس تصفو مَشاربُهْ
أخيرًا؛ إمّا وجد الشاعر صعوبة في تقبّل بحر الطويل فهناك بحور دارجة في أيّامنا هي أسهل منه، يكاد يحتوي كل منها على تفعيلة واحدة؛ هي مجزوءات الوافر والكامل والهزج والرَّجَز والرّمَل والمتقارب والمتدارك، ما سأقبل على شرح كل منها بتبسيط. فأعود لأتمنّى على الأحبّاء الشعراء- من الجنسين- دراسة أساليب كتابة الشِّعر وتقطيع أوزانه والتأمّل في قوافيه جيّدًا. وتحديدًا شعر العصر العباسي؛ لعلّ أبرز شعرائه: المتنبي والبحتري وأبو تمام وأبو فراس وأبو العلاء وبشّار بن بُرْد واٌبن الرومي وأبو نواس. كما أنصح بالإبتعاد عن كتابة الخواطر المُقفّاة فهي وإن كانت شِعرًا بمفهومه الحديث فإنّ القافية وحدها غير كافية لإطلاق صفة القصيدة على أيّة خاطرة. مع خالص المحبّة وفائق التقدير