كُلَّما تأمّلتُ في بحر تذكّرتُ يَنبوعًا هنا وساقية هناك. وكُلّما سمِعتُ خبَرًا ربطتُهُ بآخر حدث هنا قبل فترة وحدث هناك قبل حقبة. وكُلَّما قرأتُ نصًّا أدبيًّا لافتًا، شِعريًّا أو نثريًّا، رغِبتُ في معرفة قائله أو كاتبه. فإذا همّني النصّ بشيء ذهبتُ إلى معرفة خلفيَّاته وأهدافه، سواءٌ أكان مُقدَّسًا أم غير مُقدَّس. حتّى رأيتُ أنّ أسوأ الكُتّاب ذاك الذي اقتطَعَ عبارة من سياقِ نصّ لتوظيفها في مصلحة دينية أو سياسية. والأمثلة كثيرة، لكنّي سأكتفي بنصٍّ مُقدَّس واحد وبآخر غير مُقدّس؛ الأوّل هو قول السيّد المسيح لهُ المجد الذي سبقت الإشارة إليه في معرض بحر الهزج: {ما جئتُ لألقي سلامًا بل سيفًا}- متّى 34:10 والثاني هو قول الفيلسوف الألماني كارل ماركس “الدين أفيون الشعب” قبل تغيير “الشعب” إلى ”شعوب” بحسب مقالة أحد الإخوة اليساريّين إذ تفضّل بالبحث عن النصّ الأصلي لذلك القول فوجده (بالإنگـليزية) في كتاب (ماركس، نحو نقد فلسفة الحق الهيجلية) كتبَه الباحث كما هو (في هامش المقالة) ثمّ ترجمَه إلى العربيّة فظهر أنّ قول ماركس المذكور مُقتطَعَ من سياق نصّ ليست فيه أيّة إساءة إلى الدين بل العكس! فقام الباحث بشرح خلفيّة النصّ وأبعاده بمقالة عنوانها: حقيقة كلمات ماركس الثلاث (الدين أفيون الشعوب) يمكن وضعه في أحد مُحرّكات البحث: غوغل، ياهو،... لتقصّي الحقيقة. فلم أقرأ لماركس ما أساء به إلى المسيحيّة
أمّا قيامي باقتطاف معنى من معاني إحدى المفردات لتوظيفه في إحدى مقالتي فلا يُشبه ما تقدّم؛ لأني أشرت إلى المصدر (مثالًـا: لسان العرب) وإلى وجود مَعانٍ أخرى للمفردة (مثالًـا: ضرب) غير موجودة في هذا القاموس بل في مكان آخر، الهدف من الإشارة زيادة العِلم وليس تحريف أحد المعاني التي طرحها ابن منظور! فنجد في قاموسه المذكور تفاصيلَ عِدّة في باب كلمة “جثث“ لا حاجة إلى ذكرها جميعًا في هذه المقالة، لذا قمت باختصار التفاصيل إلى أقلّ ما يمكن، لدعم المقالة وليس لتحريف معنى الكلمة: [الجَثُّ: القَطْعُ؛ قيل: قطْعُ الشيء من أصله؛ وقيل: انتزاعُ الشجر من أُصوله؛ والاجتثاث أوْحى منه. وشجرة مُجْتَثَّة: ليس لها أصل في الأَرض. ومعنى اٌجْتُثَّ الشيءُ في اللغة: أُخِذَتْ جُثَّتُه بكمالها. وجَثَّهُ: قَلَعَهُ. واجْتَثَّه: اقتَلَعه. والمُجْتَثُّ: ضَرْبٌ من العروض، على التشبيه بذلك، كأَنه اجْتُثَّ من الخفيف أَي قُطِع] ... إلخ. ونقرأ في باب “ضرع” التالي باختصار أيضًا: [المُضارِعُ في العَرُوضِ؛ سُمِّي بذلك لأَنه ضارَعَ المُجْتَثَّ. والمُضارَعةُ: المُشابَهةُ والمُقارَبة] انتهى
* * *
الرابع عشر: بَحْر المُجْتَثّ
أرى المجتثّ أوفر حَظًّا من المُقتضَب لدى الشعراء؛ وزنه مُسْتفعِلُنْ فاعِلاتُنْ مرّتين (بعكس مجزوء الخفيف فاعِلاتُنْ مُسْتفعِلُنْ) لهُ عروض واحدة فاعلاتُنْ جاز فيها الخبْن فَعِلاتُنْ وحَسُن لكنّ الكفّ فاعِلاتُ والشَّكْلَ فَعِلاتُ (المُكوَّن من الخبن والكفّ) لم يُستحسَنا إلّـا في التصريع. ضَرْبُها مِثلها وقد جاز فيه التشعيث (فعْلاتُنْ= مَفعُولُنْ) مثلما جاز في ضَرب الخفيف. أمّا الحَشْوُ مستفعِلُنْ فقد جاز فيه الخَبْن مَفاعِلُنْ وحَسُن، لكنّ الطَّيَّ مُستعِلُنْ= مُفتعِلُنْ والخَبْلَ مَفَعِلُنْ اللذين رأيناهُما في الرَّجَز وغيره قبيحان في المجتثّ! أمّا الكفّ مُسْتفعِلُ فلا يقلّ قباحة
* * *
أمثـلة
بشار بن برد
يا عَبْدَ جَلِّي كُروبي * وأسْعِفي وأثيبي
ياعَبْدَجَلْ- لِيْكُروبي * وأسْعِفي- وأثيبي
مُسْتفعِلُنْ- فاعِلاتُنْ * مَفاعِلُنْ- فَعِلاتُنْ
فقد تطاول هَمِّي * وزفرتي ونحيبي
فقدْتطا- وَلَهَمْمِيْ * وَزَفْرَتِيْ- وَنَحِيبي
مَفاعِلُنْ- فَعِلاتُنْ * مَفاعِلُنْ- فَعِلاتُنْ
* * *
الخليل بن أحمد الفراهيدي
إنْ لَم يَكُنْ لَكَ لَحْمٌ * كَفاكَ خَلُّ وزَيتُ
إنْـلَمْـيَكُنْ- لَكَلَحْمُنْ * كَفاكَخَلْ- لُـنْـوَزَيتُ
مُسْتفعِلُنْ- فَعِلاتُنْ * مَفاعِلُنْ- فاعِلاتُنْ
أوْ لَم يَكُن ذا وهذا * فكِسْرَةٌ وبُيَيْتُ
تظَلُّ فيهِ وتَأوي * حَتّى يَجيئَكَ مَوتُ
هذا عَفافٌ وأمْنٌ * فلا يَغُرَّكَ لَيتُ
* * *
أبو نؤاس
ما لي وللعاذلاتِ - زوَّقنَ لي تُرَّهاتِ
ماليوَلِلْ- عاذلـاتِي * زوْوَقْنَلي- تُرْرَهاتِي
مُسْتفعِلُنْ- فاعِلاتُنْ * مُسْتفعِلُنْ- فاعِلاتُنْ
سعَين مِن كُلِّ فجٍّ - يلُمْن في مولاتي
سَعَـيْنَمِنْ- كُلْلِفَجْجِنْ * يَلُمْنَفِي- مَوْلـاتي
مَفاعِلُنْ- فاعِلاتُنْ * مَفاعِلُنْ- مَفعُولُنْ
* * *
البحتري
لي صاحِبٌ لَيسَ يَخلو * لِسانُهُ مِن جِراحِ
ليصاحِبُنْ- لَيْسَيَخلو * لِسانُهُو- مِنْجِراحِيْ
مُسْتفعِلُنْ- فاعِلاتُنْ * مَفاعِلُنْ- فاعِلاتُنْ
يُجيدُ تَمزيقَ عِرضي * عَلى سَبيلِ المُزاحِ
* * *
ابن الرومي
أبْكيتِني فبكيْتُ * من غير ذنبٍ جنيْتُ
قالت لعلَّ وِصالي * أبيتَ قلتُ أبيتُ
قالتْ ثَكِلْتُ أبي إنْ * فَعَلْتَ إن بالَيْتُ
قالتْثَكِلْ- تُأبيئِنْ * فَعَلْتَئِنْ- بالَيْتُو
مُسْتفعِلُنْ- فعِلاتُنْ * مَفاعِلُنْ- مَفعُولُنْ
فلم تزلْ بيَ حتى * إلى هواها اٌرعَوَيتُ
* * *
المتنبي
قيل أنّ القصيدة التالية (القبيحة بألفاظها ومعانيها) هي السبب وراء قتل المتنبّي، لأنه هجا بها ضَبّة بن يزيد الأسدي (راجع-ي ويكيبيديا: المتنبي) فاقتطفت منها ما أمكن
ما أنصَفَ القومُ ضَبَّهْ * وأُمَّهُ الطُرْطُبَّهْ
وإنّمَا قلتُ ما قلتُ رَحمَةً لا مَحَبَّهْ
وَإنْنَمَا- قُلْتُماقُلْ * تُرَحْمَتَنْ- لـامَحَبْبَهْ
مَفاعِلُنْ- فاعِلاتُنْ * مَفاعِلُنْ- فاعِلاتُنْ
كَذا خُلِقتَ ومَن ذا الّذي يُغالِبُ رَبَّهْ؟
ومَن يُبالي بذَمٍّ * إذا تَعَوَّدَ كَسْبَهْ؟
* * *
شعراء العصر الحديث والمجتثّ
محمود سامي البارودي 1
أغُرَّةٌ تَحْتَ طُرَّهْ * أَمْ نُورُ فَجْر بسُحْرَهْ
وذاكَ فَرْعٌ ونَهْدٌ * أمْ صَولَجَانٌ وأُكْرَهْ
سَمْرَاءُ تَهْفُو بقَدٍّ كَالرُّمْحِ لِينًا وسُمْرَهْ
مَرَّتْ عَلَيَّ تَهَادَى * مِثْلَ المَهَاةِ بشَبْرَهْ
فقُلتُ يا نُورَ عَيني * ما لي على الصَّبْر قُدْرَهْ
- - -
البارودي 2
فعَلتُ خَيْرًا بقوْمٍ * فعَامَلُونِي بضَيْرِ
فلا تَلُمْنِي إذا ما * أصْبَحْتُ ألعَنُ خَيْري
* * *
جميل صدقي الزهاوي
ما وجدت في الشعر الحديث المنظوم على بحر المجتثّ بقدر ما كتب الزهاوي، لذا أدعو من أراد-ت التمرّن على هذا البحر الإطلاع على ديوانه المنشور الكترونيًّا. قال الأديب الألماني غوته: (المعرفة وحدها لا تكفي، لا بدّ أن يصاحبها التطبيق) فلِحُسن الحظّ؛ قام جامع ديوان الزهاوي في “بوابة الشعراء” مشكورًا بوضع الشطر الأوّل من كل قصيدة أو قطعة في جدول قصائد الزهاوي وغيره. وبهذه المناسبة؛ أدعو جميع جامعي الدواوين الورقيّة ومُحقِّقيها إلى وضع اسم البحر أو الشطر الأوّل إلى جانب القافية في فِهْرِس-ت القوافي، ما لم يُضيفوا إلى الفهرس قائمة البحور إلى جانب أرقام الصفحات، إذ لا يستفيد فتى مثلي من تسلسل القوافي في الفهرس وأرقام صفحاتها فقط. وعلى محقق أيّ ديوان التأكد من اسم البحر فلا يكتب لنا السريع بدل المنسرح ولا الوافر بدل الهزج. وقد خطرت في ذهني الآن الطّرفة التالية؛ أخبرتُ يومًا زميلة عمل لبنانية بأن السائق الذي أوصلني إلى المكتب كان فتىً وسيمًا من ضيعتها. قالت مازحة: سجّلت رقم تلفونه؟ أجبتها مازحًا: بل رقم سيّارته
الزهاوي 1
إنَّ اليهودَ أصابوا * مِن التجارةِ مالا
وللنصارى مكانٌ * مِن الرُّقيِّ تعالى
والمُسْلِمون تَراهُمْ * بكُلِّ أرضٍ كُسالى
- - -
الزهاوي 2
سَئِمتُ كلّ قديمٍ * عرفتُهُ في حَياتي
إنْ كان عندَكَ شيءٌ * مِن الجديد فهاتِ
- - -
الزهاوي 3
العِلمُ في الغرب جَمٌّ * العِلمُ في الشَّرق نَزْرُ
للعِلم في الغرب مَدٌّ * للعِلم في الشَّرق جَزْرُ
- - -
الزهاوي 4
اقتطفت التالي من قصيدة متعددة القوافي مطلعها
ما إِنْ يُريدُ حَياةً * في الذُّلِّ إلّـا الجَبانُ
- - -
غنَّتْ حَمامةُ أَيْكٍ * غَنِّي لنا يا حَمَامَهْ
وبعد ذلك طِيري * خَفيفةً بالسَّلامَهْ
البَرقُ يضْحَكُ في جَوِّهِ وتَبكي الغَمامَهْ
أَكُلَمّا قلتُ شِعرًا * قامَتْ عليَّ القيامَهْ؟
نَدِمْتُ مِن كلّ ما قلتُهُ أثيرَ الشَّهامَهْ
نعَمْ ندِمْتُ ولكنْ * ماذا تُفيدُ الندامَهْ
إذا هَجَرتُ بلادي * فما عليَّ مَلامَهْ
* * *
يا عاقد الحاجبَين- الأخطل الصَّغير
ياعاقدَ الحاجبَيْنِ * على الجَبين اللُجَينِ
إنْ كنتَ تقصِدُ قتلي * قتلْتَني مَرَّتين
مـاذا يُريبُكَ مِنّي * وما هَمَمتُ بشَينِ
أصُـفرةٌ في جَبيني * أمْ رَعـشةٌ في اليَدَينِ
تمُرُّ قفْزَ غزالٍ * بين الرّصيف وبيني
وما نصَبْتُ شِباكي * ولا أذِنْتُ لعَيني
تبدو كأنْ لا تراني * ومِلءُ عينكَ عيني... إلخ
هناك مَن كَتبَ على موقعه أن هذه القصيدة من الشعر القديم. وهناك من كتب على يوتيوب أنها من الموشَّحات الأندلسيّة التي تغنّت بها السيّدة فيروز. وهناك مَن جادل صاحب معلومة صحيحة بدون دقيقة تأمّل. فما لهذه الناس لا تقرأ ولا تفكّر ولا تسأل ولا تبحث؟! إذًا آن لهؤلاء أن يعلموا أن القصيدة للشاعر اللبناني بشارة الخوري الملقَّب بالأخطل الصغير. وآن لهُم أن يعلموا أنها أحبّ أغنية فصحى إلى قلب شحرورة العِراق الأديبة عفيفة اسكندر من بين أزْيَد من خمسين قصيدة فصحى غنتها (من مجموع 1500 أغنية) حتى اعتزالها الغناء سنة 1968 والتي أنتِجَ خلالها فيلم بنت الحارس الذي ظهرت فيه صاحبة الصوت الملائكي الرائعة فيروز وهي تغنّي القصيدة لكن بلحن آخر غير الذي غنّته السيدة عفيفة سنة 1962 فلا يوجد عراقي من جيلي لم يتأثّر بأغاني عفيفة اسكندر- أطال الله في عمرها وفي عمر فيروز. عِلمًا أن الأغنية متوفرة اليوم على يوتيوب بصوت السيدة فيروز واللحن المعطى لها وبأصوات أخرى، لكنها غير متوفرة على يوتيوب بصوت السيدة عفيفة ولا على mp3
* * * * *
(Religion is the sigh of the oppressed creature, the heart of a heartless world, and the soul of soulless conditions. It is the opium of the people) Marx, K. 1976. Introduction to A Contribution to the Critique of Hegel’s Philosophy of Right. Collected Works, v. 3. New York
¤ ¤ ¤ ¤ ¤