في البداية؛ تستحِقّ كلّ خطوة خَطاها السَّيِّد المَسِيح على الأرض وقفات تأمليّة، لا وقفة واحدة ولا اثنتين، نظرًا لأهميّة الحدث في كلّ خطوة. وفي مناسبة أسبوع آلام السيد المسيح له المجد اخترت طريق الجلجثة. فأوّلًا؛ هل هي جُمجُمة أم جُلجُثة أم جُلجُلة؟ وهل في اختلاف التسمية تناقض ما بين الأسفار المدوَّنة في الإنجيل؟ فقد دأب المشكِّكون والصيّادون في مياه عكرة وضحلة على التقاط ما ظنّوا به اختلافًا أو تناقضًا، لكنّهم فشلوا جميعًا في العثور على شعرة واحدة في هذا العجين الإلهي العظيم. وهنا الآيات حيثما وردت الكلمة:
ولمّا أتوا إلى موضع يقال له جُلْجُثَة وهو المسمّى موضع الجُمْجُمَة+ مَتّى 33:27
وجاءُوا به إلى موضع جلجثة الذي تفسيره موضع جمجمة+ مَرقُس 22:15
ولَمّا مضوا به إلى الموضع الذي يدعى «جمجمة» صلبوه هناك مع المُذنِبَينِ واحدًا عن يمينه والآخر عن يساره+ لُوقا 33:23
فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يقال له موضع الجمجمة ويقال له بالعبرانية جلجثة+ يُوحَنّا 17:19
فنقرأ في قاموس الكتاب المقدس أنّ كلمة جمجمة [مأخوذة عن اليونانية: كْرَانْيون أي جمجمة وأمّا الجلجثة فهي الجمجمة بالأرامية. وأمّا بالعبرانية: جولجوليث] انتهى.
ونقرأ في المحيط الجامع: [الجمجمة في الآراميّة جلجثة. من هنا في العربيّة: الجلجلة؛ المكان الذي صُلب فيه يسوع (متّى 33:27 ويوحنّا 17:19) ويظنّ بعضُ الشُّرّاح أنّ الأصل هو جل جَوْعَة أي تلّة حجارة في جَوعَة (إرميا 31 :39) لكنْ شُوِّهت الكلمة حين انتقلت إلى اليونانيّة] انتهى. ولم يذكر المؤلِّف من أيّة لغة انتقلت، لكنّي قرأت في تقديم سِفر إرميا بقلم الخوري يوسف داود، أحد مترجمي الكتاب المقدَّس إلى العربيّة، ما معناه أنّ إرميا كتب سِفره بالعبرانية، في أورشليم، قبل جلاء بابل بثلاث وعشرين سنة.
فإذا ما نظرنا إلى الآية التي بحسب متّى نجد تقديم كلمة الجلجثة على كلمة الجمجمة! وهذا التقديم يدلّ، في نظري، على أنّ متّى كتب بِشارَتَه بالآرامية، السُّريانية المسمّاة أيضًا كَلدانيّة، إذ كانت لغة اليهود المحكيّة خلال مجيء الرب يسوع إلى الأرض، حتّى صرخ بها يسوع بصوت عظيم وهو على الصليب قائلًا: {إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَني؟ أَيْ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟}+ متّى 46:27 أو {إيلوئِي، إيلوئِي، لِما شَبَقْتاني}+ مرقس 34:15
وفي ضوء كتابة يوحنّا الإنجيلي بِشارتَهُ باليونانية، يَتّضِحُ تقديمُه الجمجمة، المترجمة عن الأصل اليوناني، على الجلجثة الآرامية، إذا ما قورنت الآية التي بتدوينه مع الآية التي بتدوين متّى أو مع التي بتدوين مرقس. فلا توجد مشكلة في التعبير! إنّما يستطيع كلّ من الباحث والمدقّق أنْ يتأمّل في هذا الكتاب الرّائع جدًّا وأن يغوص في أعماقه.
شهود الصّلب على طريق الجلجثة
والآن؛ كَمْ شاهدٍ حضر مشهد صلب المسيح وكم شاهدةٍ حضرت، ابتداء بساعة القبض عليه ليلًا فمحاكمته ثمّ صَلبه، ممّن ورد ذِكْرُهُم-نّ في الإنجيل، سواء بالإسم كمريم المجدليّة أو بالصِّفة كقائد المئة الرّوماني الذي كان واقفًا مُقابلَ المصلوب واعترف قائلًا: {حَقًّا كانَ هذا الإِنسانُ ابْنَ الله!} فلنتأمّل أوّلًا في خيانة يهوذا الإِسْخَرْيُوطِيّ إذ سَلَّمَ اليهودَ يسوعَ بقُبلة، في تلك الليلة، ثم نَدِم لمّا رَأَى أنّ يسوع قد دِين، فرَدَّ الثّلاثينَ مِنَ الفِضَّةِ إلى رُؤَسَاءِ كَهَنَتهم والشُّيُوخ وانصرف وخنق نفسَه (متّى 27: 3-5) فيهوذا الإسخريوطيّ شاهِد. ولنتأمّل تاليًا في تسخير سِمْعان القَيْرَوانيّ إذ حَمَلَ صَلِيبَ يسوع (مرقس 21:15) فسِمْعانُ القيروانيّ شاهد. وتاليًا في حال بنات أُورُشَلِيمَ {اللَّواتي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضًا ويَنُحْنَ عَلَيْهِ}+ لوقا 27:23 وهُنَّ شواهد. وتاليًا في استهزاء رؤساء كهنة اليهود والكتبة والشيوخ قائلين: {خَلَّصَ آخَرِين وأمّا نفسُه فما يقْدِرُ أنْ يُخلِّصَها. إنْ كان هو ملك اسرائيل فلينزلِ الآن عن الصَّليب فنؤمن به!}+ متّى 42:27 فأولئك كانوا شهودًا. وتاليًا في كثرة النساء اللواتي كنّ يتبعن يسوع ويخدمنه، سواء مِمَّن نظرنَ من بعيد، وممّن وقفن عند صليب يسوع وهُنّ بالأسماء: مَرْيَم أُمّ يسوع وأُخت أُمِّه مَرْيَم زوجة كِلُوبا ومَرْيَم المَجْدَلِيَّة (يوحنّا 25:19) كما تقدّم أعلى. ولنتأمّل في ردّة فعل كلّ من اللصَّين المصلوبَين على جانبَيه، فاللصّان من الشهود أيضًا، سواء هُما وأقاربُ كلّ منهما والأصدقاء من حُضور مشهد الصَّلب، وإنْ لم يَرِدْ أيّ ذِكْر لأقارب أحدٍ منهما والأصدقاء في الإنجيل! لكنّي لمْ آتِ بهذه الإستنتاج من فراغ؛ بل على خلفيّة صُراخ عدد من اليهود في وجه بيلاطُس ليُطلِق سَراحَ باراباس اللِصّ (يوحنّا 40:18) عِوَضًا عَنْ يسوع، ما دلّ على تمتّع باراباس بشعبيّة لافتة. وفي مَثَل دارج: "لا أحَدَ مقطوعٌ مِن شجرة" لذا فقد اعتبرتُ اللّصوص الثّلاثة وأقاربَهُم والرِّفاق والأنصارَ، من الحاضرين، شهودًا على طريق الجلجثة.
وعلى طريق الجلجثة أيضًا؛ حقيقة إنكار بطرس معرفةَ المسيح، كما تنبّأ المسيح قبل الصَّلب (متّى 34:26) وسبَبُ إنكاره في رأيي هو الخوف من عقاب اليهود، في وقت لم يكن الروح القدس حالًّا على التلاميذ وسائر الرّسُل، إذ وعدهم المسيح بحلول الرّوح عليهم بقوله: {لكِنَّكُمْ ستَنالونَ قُوَّةً مَتى حَلَّ الرُّوحُ القُدُسُ عَليْكُمْ، وتَكُونُونَ لي شُهُودًا في أُورُشَلِيمَ وفي كُلِّ اليَهُودِيَّةِ والسَّامِرَةِ وإلى أَقصى الأرض}+ أعمال الرُّسُل 8:1 لكنْ يبقى بطرس من شهود حادثة الصّلب على رغم إنكاره المسيح، عِلمًا أنّ بطرس قد شَهِد بالصَّلب أمام اليهود بعدما امتلأ وسائر الرسل من الروح القدس- في أعمال الرسل 4:2 و23 و36 وفي 10:4
شهود من غير المذكورِين بالإسم
أمّا أعداد الشهود من غير المذكورِين بالإسم فلا أظنّ أحدًا فكّر في إحصائها، لكنْ إذا فكّر فما أظنّه استطاع؛ سَواء أكانوا مِن الذين خدَمَهُم يسوع بأقواله وأفعاله أم من اليهود الذين صرخوا {اصْلِبْهُ} أو {ليُصْلَبْ} أم من الرّومان؛ ولا سيّما العَسكرِي الذي طَعَنَ جَنْبَ يسوع بحَرْبَة وهو مصلوب، والجنود الذين اقتسموا ثيابَهُ مقترِعين عليها، أم من سائر الحُضور. عِلمًا أنّ أحدَ الحُضور ملأ اسفنجة بالخَلّ وسقى يسوع، قُبَيلَما نَكَّسَ رَأْسَهُ وأَسْلَمَ الرُّوح.
لكنْ يسرّني أن أَلْفِت النظر إلى شاهدين اثنين مُهِمَّين، من بين أفواج الشهود على طريق الجلجثة، لم يُذكَرا في الإنجيل بالإسم؛ فالأوّل يوحنّا الإنجيلي إذ كان واقفًا عند الصّليب، بصِفتِه التِّلميذَ الّذي كانَ يسوع يُحِبُّهُ (يوحنّا 26:19) وقد انفرد يوحنّا بذكر هذه الشهادة. والثاني مرقس الإنجيلي إذ كان، في رأي عدد من دارسي الكتاب المقدَّس، الشّابَّ الذي تَبِعَ يسوعَ ليلة القبض عليه (مرقس 51:14) فاٌنفرد مرقس بذكر هذه الشهادة.
شهادات تاريخية على الصَّلب
ويوجد شاهدان رومانيّان تاريخيّان على قدر كبير من الأهمّيّة؛ ذُكِرا في العهد الجديد (أي الإنجيل) بالإسم؛ لعلّ أوَّلَهُما بيلاطس البنطي (ت 37 م) الوالي حاكم اليهودية سنة 29 م الذي اضطُرّ للحكم على يسوع المسيح بالصَّلب تحت ضغط اليهود، عِلمًا أنّ زوجته حَذَّرته بالقول: {إِيَّاكَ وذلِكَ البَارَّ، لأَنّي تَأَلَّمْتُ اليومَ كثيرًا في حُلْمٍ مِنْ أَجْلِهِ}+ متّى 19:27 فيمكن اعتبار هذه السيّدة من الشواهد أيضًا. وثانيهما هيرودس أنتيباس (20 ق.م – 39 م) حاكم الجليل الذي أمر بقطع رأس يوحنّا المعمدان تارة وتنصّل تارة أخرى من الحكم على المسيح بالموت، موكلًا المهمة لبيلاطس. فأنّى قرأت سيرة ذاتيّة لبيلاطس البنطي ولهيرودس أنتيباس في كتاب تأريخي وجدت قصّة صلب المسيح التي شَرَّفتْهُما وشرّفتْ روما بأسرها. ويمكن اعتبار شهادتيهما تأريخيّتين سواء في الكتاب المقدّس وفي كتب التاريخ.
وإليك مِثالًا على إحدى شهادات الصَّلب التأريخية، من خارج الكتاب المقدّس؛ هي شهادة المؤرّخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس، واسمه العِبري يوسف بن ماتيتياهو (ت نحو 100 م) وقد كثر الحديث عن شهادته في المواقع المسيحية فلا بلاغة في التكرار! لكنّ الذي ينوي البحث في تأريخ صَلب المسيح يعثر على معلومات كافية ووافية، لعلّ إحداها قيام المؤرِّخ ثالوس (خلال القرن الميلادي الأوّل) وتاليًا قيام المؤرِّخ يوليوس أفريكانوس (خلال القرن الميلادي الثالث) مقتبِسًا من ثالوس، بتدوين معجزة كونيّة فريدة من نوعها، حدثتْ خلال صلب المسيح، قُبَيلَ موته على الصّليب؛ هي كلّ من كسوف الشمس مدّة ثلاث ساعات، ما أدّى إلى حلول ظلمة على الارض كلِّها، وزلزال تسبّب في اٌنشقاق حِجاب الهيكل مِن وسطه. والمعجزة مدوَّنة في لوقا 23: 44-45 ومتّى 45:27 و51 ومرقس 33:15 و38 فحيّرت كثيرين حتّى دُوِّنت في كتب التأريخ أيضًا.
أخيرًا وبعد كلّ ما تَقدَّم؛ لا مجالَ لنَفْي صَلب المَسِيح بأيّة طريقة وأيّ شكل! لا ينفيه سوى الجاهل ما لم يَكُنْ مَعتُوهًا. وقد تركتُ للباحث-ة مهمّة العثور على عدد المرّات التي ورد فيها الفعل "صلب" في الإنجيل. فإنْ شَدَّ طريقُ الجلجثة حوالي 2,189,341,000 مليار نسمة بموجب إحصائيّات العام 2011 بألم وحُزن عميقين فإنّ بُشرى قيامة المسيح من الموت خيرُ تعزية ومَسَرَّة وبهجة لكلّ مَن آمَن واعتَمَد فخَلَص (مرقس 16:16)
وكاتب هذه المقالة قد آمَن بصَلب المسيح وبموته على الصليب وبقيامته من الموت في اليوم الثالث منتصرًا على الموت. لذا فهو يُهنِّئ أتباعَ المسيحِ بالقول: قام المسيح! وهو في الوقت عينه يُبشِّرُ بقيامته العالمَ أجْمَع.
¤ ¤ ¤