رأينا في المشهد الرابع الأسباب الكامنة وراء قيام رؤساء كهنة اليهود بتسليم المسيح إلى بيلاطس بتهمة سياسية: مقاومة سلطة القيصر، أو تهييج الأمّة ضد القيصر. وعقاب هذه التهمة الإعدام- بحسب القانون الروماني حينذاك. وكما يبدو لي؛ حتى هذا الحاكم، المعروف بقسوته، لم يسمح بتسلل هذه القسوة إلى منطقة المسيح. فما الذي منع بيلاطس من الحكم على المسيح بعد انتهاء المحاكمة الأولى؟
إنّ من الصعب على غير المفكّر وغير السياسي، أن يلبس ثوب حاكم ما أو قاضٍ، إلّا على مسرح أو ستوديو. لكنّ الإنجيل أوحى إليّ بخمس مسائل وراء التساؤل المذكور؛ لعلّ الأولى: إيماني بأنّ كلّ مَن قرأ سيرة السيد المسيح له المجد، بعقل مستنير، خَشَعَ قلبُه وتغيّر تفكيرُه نحو الأفضل وانعكس التغيير على سلوكه. فكم يكون حجم التغيير بحضور المسيح شخصيًّا إلى دار الخاطئ؟ والخاطئ هنا بيلاطس.
والثانية: إنّ من الصعب أيضًا تخيّل موقف إنسان، وهو هنا بيلاطس، وقف قاضيًا وجهًا لوجه أمام هيبة المسيح. وتاليًا ليدينه بشيء ما ثمّ يحكم عليه. في وقت لم يجد بيلاطس عِلَّة واحدة فيه- حاشا- وقد سُبِّقتْ إلى بيلاطس سمعةُ المسيح الفريدة من نوعها وشعبيته المنقطعة النظير. ولَحِقتْهما وداعةُ المسيح وبراءتُه وأجوبته على أسئلة بيلاطس ذات البلاغة والرصانة.
والثالثة: ربّما أحسّ بيلاطس الوالي بوقوف ملك حقيقي أمامه، شأنه شأن القيصر، والقيصر أعلى منصبًا من الوالي. فرأى أنه أقلّ شأنًا من المسيح وأنّه تاليًا أصغر مِن أن يحكُم عليه! ولا سيّما بعد اقتناع بيلاطس ببراءة المسيح من التُّهَم المزيَّفة التي لفّقها رؤساء الكهنة وتلك التي كُلِّف بها شهود الزور.
والرابعة: لقد كان بيلاطس يصعد إلى أورشليم، إلى دار الولاية، فيقضي للشعب هناك (يوحنّا\18) فلديه خبرة مع هذا الشعب وتاليًا مع رؤساء كهنته. فلا شكَّ لديّ في معرفته بدهاء رؤساء الكهنة. لذا أراد أن يكون أدهى منهم، في قضية عظمى، محاولًا تحويل القضية إلى دينية، بدل السياسية، فيترك لرؤساء الكهنة الحكم فيها. لعلّ الشعب يثور عليهم لا عليه.
والخامسة: كان بِيلاَطُسُ مُعتادًا في العِيدِ أَنْ يُطْلِقَ لِلْجَمْعِ أَسِيرًا وَاحِدًا (متّى\27 ومرقس\15) ما لم يكن مضطرًّا (لوقا\23) فطَلَبَ أَنْ يُطْلِقَ يسوعَ بدلًا من إطلاق سراح أيّ مجرم مدان بمقاومة السلطة الرومانية والتي عقوبتها الإعدام. لأنّ يسوعَ لم يقاوم! لكنّ رُؤَسَاءُ الكَهَنةِ اتّهموا يسوع زورًا. فهَيَّجوا الْجَمْعَ لِكَيْ يُطْلِقَ لَهُمْ بِالْحَرِيِّ بَارَابَاسَ الذي اعتُبِر بطلًا قوميًّا في نظر اليهود.
والآن؛ لماذا رفع بيلاطس قضية المسيح إلى هيرودس؟
لعلّ الجواب؛ ربّما أراد بيلاطس أن يُصيبَ عُصفورَينِ بحَجَر واحِد، حينما سَلَّمَ المسيح إلى هيرودس حاكم الجليل- خصمه الذي كانت بينهما عداوة (لوقا\23) لعلّ الأوَّل: غسْل يديه من دم بريء. وربّما أراد في الوقت نفسه أن يمنّ على عامّة الشعب، بإظهار وجه عادل ومتسامح مع عدد قليل من الأبرياء من جهة، فيُطلق العنان لقسوته على كثيرين في الجهة المقابلة. وهذه من صفات الحكّام الجائرين والمتّصفين في عصرنا بالدكتاتورية التي هي- عن ويكيپيديا: مِن أشكال الحكم المطلق، سلطاته محصورة في شخص واحد كالملكية أو في مجموعة ما كالحزب السياسي والجيش. وهي كلمة لاتينية الأصل مشتقّة من الفعل اللاتيني: دكتاتوس.
والثاني: تحويل شغب اليهود والعداء والثورة إلى ساحة هيرودس من خلال قضية المسيح، بعدما عَلِم من كهنة اليهود أنّ الرَّجُلَ جليليّ.
المشهد الخامس- يسوع أمام هِيْرُودُس
هيرودس- فَرِحًا جدًّا بمقابلة يسوع: أردتُ أن أراك مِنْ زمَانٍ طَوِيل، لأنّي سَمِعتُ عَنْكَ أَشْيَاءَ كَثِيرَة (لوقا\23) لعَلّك تُريني الآن آية من آياتك… لماذا تلتزم الصّمت يا ملك اليهود؟
المراقب: وقف المسيح أمامك يا هيرودس ليعطيك فرصة أن تعرف الحق، لم يأتِك لاستعراض آياته، إنما جاء لخلاص النفوس عمومًا (أنظر-ي تفسير القمّص تادرس يعقوب) وقد التزم الصمت ليتمّ فيه قول الكتاب: {ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وكَنَعْجَةٍ صامِتةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفتَحْ فاهُ}+ إشعياء\53 والمسيح من جهة أخرى يعلم أنّك يا هيرودس {ثعلب}+ لوقا\13
هيرودس: ها أنّ رُؤَسَاءَ الكَهَنَةِ والكَتَبَة يَشْتَكُونَ عَلَيْك باشتِدَادٍ، أمَا تُجيب بشيء؟
المراقب: (مثال رائع! يدعو قلوب البشر أن تحتمل الإهانة بروح ثابتة. أُتُّهِمَ الرَّبُّ وصَمَتَ وكان في صَمْته مُحِقًا، لأنه لم يكن في حاجة إلى الدِّفاع عن نفسه)+ القديس أغسطينوس.
هيرودس- محتقِرًا يسوع ومستهزئًا به: ألبِسوه ثوبًا لامِعًا ورُدّوه إلى بيلاطس. بيلاطس أصبح صديقي اعتبارًا من اليوم، لقد انتهت العداوة ما بيني وبينه.
المراقب: لعلّك دَرَيت يا هيرودس بأنّ هذا بمثابة لباس المجد (يُشير إلى أنّ الآلام التي احتملها يسوع ليست عن لوم فيه، إذ هو حَمَلُ الله الذي بلا عيب، إنّما حَمَلَ بمَجدٍ خطايا العالم)+ القديس أمبروسيوس. أمّا الصَّداقة التي صارت بينك وبين بيلاطس فقد أشارت إلى دور المسيح رَئِيس السَّلام (إشعياء 9: 6) في صنع السَّلام بين المختلِفِين. فقد قَبِلَ المسيح جميعَ المؤمنين به أعضاءً في كنيسة العهد الجديد. هذا الذي حكمتم عليه بالموت هو مَن صنع السلام بينكم وأمّا أنتُم واليهود فقد سفكتُم دَمَهُ على الصَّليب.
الناقد: كيف تُعلِّل استهزاء هيرودس بالسيد المسيح- عليه السَّلام- عبر هذا الثوب؟
المراقب: إنّ ارتداء المسيح هذا الثوب يدلّ على اعتراف هيرودس بأنّ المسيح ملك اليهود، سواء أكان مستهزئًا أم جادًّا. ولا أظنّ أنّ هيرودس قصد الاستهزاء بالمسيح شخصيًّا، إذ لا عداوة شخصية بينه وبين المسيح مِن قبْلُ ولا خصومة، لكنه قصد تحقير اليهود، كأنّه أراد أن يقول لهم "هوذا مَلِكُكُم ذليل عندنا" أي عند الرومان.
أمّا قولك "عليه السَّلام" فهو مغلوط لاهوتيًّا وإن دلّ قصدك ظاهريًّا على الاحترام. والصحيح هو: السيد المسيح له المجد كلّ المجد. لأنّ المسيح هو ربّ السَّلام ومانح السَّلام! فمَن ذاك الذي ألقى على المسيح السَّلام؟ إنما المسيح هو مَن ألقى السَّلام على الأرض: {وعلى الأرض السَّلام}+ لوقا\2 {سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنا}+ يوحنّا\14 {وَحِينَ تَدْخُلُونَ الْبَيْتَ سَلِّمُوا عَلَيْهِ+ متّى\10} فالسَّلام الذي يُلقى على أهل البيت هو سلام المسيح! لا سلامي ولا سلامك.
الناقد: السَّلام الذي يُلقى على أهل البيت هو سلام الله! فكيف تقول: سلام المسيح؟
المراقب: لا فرق بين سلام الله وسلام المسيح! لأنّ المسيح هو إبن الله أي الآتي من الله- كما أوضحت في "جذور صلب المسيح – المشهد الثّاني" بإسهاب وإطناب. والمسيح نفسه قد قال حرفيًّا: {أَنا وَالآبُ وَاحِدٌ}+ يوحنّا\10 وقال: {أَنا في الآب والآبَ فِيَّ……. أَنا مَعَكُمْ زَمَانًا هذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: أَرِنا الآبَ؟}+ يوحنّا\14 وقد سبق ليوحنّا الإنجيلي أن أشار بالوحي في الأصحاح الأوّل: {في البَدْءِ كانَ الكَلِمَةُ، والكَلِمَةُ كانَ عِنْدَ الله، وكانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذا كَانَ فِي البَدْءِ عِنْدَ الله. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كان، وبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كان……. اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ} وهذه الآيات وغيرها دلّت على أنّ المسيح هو الذي كشف عن جوهر الله إذ تجسَّدَ بشخص المسيح. فلا تفسير آخر لقوّة سلطان المسيح في عمل المعجزات وفي إعطاء السلطان نفسِهِ تلاميذَهُ ورُسُلَه. مثالًا بطرس؛ ففي أعقاب تأسيس الكنيسة يوم الخمسين، أي يوم حلول الروح القدس، بدأ خدمته ومنها: شفاء رَجُل أَعْرَج مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ عند باب الهيكل الجَمِيل (أعمال الرسل\3) وشفاء إِينِيَاس في مدينة لُدَّةَ والذي كانَ مَفْلُوجًا مُنذُ ثَمَاني سِنِين وإقامة طابيثا بعد موتها في يافا (أعمال الرسل\9) كذلك بولس الرسول وغيره.
الناقد: رأينا أنّ بيلاطس أرسل السيد المسيح إلى هيرودس الذي بدوره أمر بإعادته إلى بيلاطس، ألا يدلّ ما جرى على خوف كلّ منهما على نفسه من أتباع المسيح من جهة وتاليًا على سلطته من عواقب الحكم على المسيح بالموت من جهة أخرى؟
المراقب: جميع الاحتمالات واردة؛ منها الخوف الذي تفضّلت به. ومنها الدهاء، فكلٌّ مِن رئيس كهنة اليهود وبيلاطس وهيرودس كان أدهى من الآخر؛ كان الحاكمان الرومانيّان يعلمان بوزن هذا الشخص المقدّم إليهما، يعلمان ببراءته من التُّهم السياسية الموجّهة إليه، يعلمان أنّ القضية دينية وليست سياسية، لذا فاليهود هم المُلزَمون بالقضاء فيها! لكنّ اليهود أرادوا تحويلها إلى قضية سياسية لكي يتنصّلوا من مسؤوليَّة العقوبة ويتَمَلّصوا من تبعاتها، خوفًا من الشعب. ففاز في النهاية دهاء اليهود.
الناقد: إنّي أعتبر الحُكّام الرومان، الذين كانوا في الغالب وثنيّين، أرحم من أتباع الشريعة التوراتية، في قضيّة المسيح على الأقلّ وبما لا يقبل الشّكّ.
المراقب: دعني أقُلْ لك أوّلًا؛ لا تنسَ أن الرومان كانوا محتلِّين المنطقة اليهودية وليس العكس! فما موقع رحمة الرومان من الإعراب؟ فاليهود كانوا منتظرين ثائرًا مخلِّصًا من حكم الرومان، لم يجدوه في المسيح! بل اعتبروه عقبة خطيرة أمامهم ضد الشريعة وتعاليمهم وضد التحريض على الثورة.
ثانيًا: قلّما وجدتُ سياسيًّا شريفًا وآخر في قلبه حد أدنى من الرحمة على حساب مصلحة شخصية! وتحديدًا في السياسة الوثنية المتّسمة بالرّجاسة والعنف. وفي السياسة المستندة على شريعة دينية ما. وفي السياسة المتَّخِذة من الدِّين غطاءً. لذا بالمناسبة؛ وَجَبَ فصلُ الدين عن السياسة والدولة، لأنّ تفسير الدين مختلف بين أبناء الطائفة الواحدة فكيف يكون حال التفسير بين طوائف؟
أخيرًا؛ إذا نظرت إلى قضيّة يسوع، فإنّ يسوع قد استطاع تحويل قلوب حجرية كثيرة إلى لحميّة. ولهذا لم يحكمْ أيّ من الحاكِمَين الرومانيَّين عليه بالصلب لولا تعرّضه لضغط شديد من رؤساء اليهود. أضف أنّ يسوع قد شمل الرومان بالتبشير وصنع المعجزات، شأنهم شأن جميع الأمم (متّى\28 ومرقس\16) فمثالًا: شفاء خادم قائد المئة الروماني (متّى\8 ولوقا\7) وأمّا مِن جهة رؤساء اليهود فطالما وَبَّخَهم يسوع لقساوة قلوبهم، منذ القدم، فمثالًا: {قالَ لَهُمْ: إِنَّ مُوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ. وَلكِنْ مِنَ الْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هكَذا}+متّى\19 ومرقس\10 لكنّهم ظنّوا أنّ يسوع ليس المَسِيّا الذي انتظروا. وما تزال غالبية اليهود تنتظره إلى اليوم، لكي يُعِيد أمجاد داود الملك-النبي وابنه سليمان الملك الحكيم والتي كانت في أوْجِ عَظَمَتِها. لذا قَدَّموا يسوعَ لبيلاَطُس {كَمَنْ يُفْسِدُ الشَّعْبَ} وظنّوا أنهم بقتله يقدِّمون خدمة لله! وقد سبق لقَيافا رئيس الكهنة أنْ {أشارَ على اليَهودِ فقالَ: أنْ يَموتَ رَجُلٌ واحدٌ فِدى الشَّعب خَيرٌ لكُمْ}+ يوحنّا\18 حتّى أنّ يسوع ذكر هذه الحقيقة مسبقًا بقوله للتلاميذ: {بَلْ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً ِلله}+ يوحنّا\16 فباتَ المعلِّم أوّل الضحايا. والجدير ذكره بالمناسبة؛ لولا مجيء المسيح في الوقت المناسب لكان حال الدنيا أسوأ بكثير ممّا كانت عليه وممّا هي عليه اليوم.
¤ ¤ ¤