لقد آثَرَ قيسُ بن المُلوَّح العُزْلة، في براري الشام حينًا وحينًا في نجد وحينًا في الحجاز، بعدما يئِس من تحقيق حُلمه، إذ اختارت ليلى رجلًا آخر زوجًا لها. فلم يطاوع قلب قيس التفكير في فتاة أخرى إلى أن فارق الحياة. وهو قطعًا لم يكن مجنونًا؛ لا يمكن أن يقول أيّ مجنون شعرًا في مستوى الشعر الذي وصلنا من قيس. أمّا ادّعاء الجنون عليه فقد جنّبه الالتزام بمشاغل الحياة وهمومها ومنها طقوس الإسلام وفرائضه. ولا أستبعد احتماليّة تعلّق قيس بخيط رفيع من أمل الفوز بليلى في النهاية، بعقليّة ذلك الزمان وبعقليّة هذا الزمان أيضًا، استنادًا على نظريّة الاحتمال. لكني قلت: يا ليت الجنون اقتصر على الجوانب العاطفية من حياة الإنسان. فقد تعدّى إلى الدِّين والسياسة والاقتصاد في عصرنا، بالإضافة إلى المجتمع. مثالًا: جنون السرعة والقمار والانتقام.
فإن اعتُبِر حُبُّ قيس جنونيًّا فمرحبًا بهذا الجنون! إذ أثمر الصِّدق ورهافة الإحساس والوفاء والإيثار. مَنْ ذا يلوم قيس بشيء؟ ومن ذا له حقّ الاعتراض على قيس وهو صاحب القرار باختيار نمط الحياة الخاصّ به وتقرير المصير؟ هذا في ضوء وثيقة حقوق الإنسان التي نصّت على احترام الحُرِّية الشخصيّة ما لم تضرّ بالمجتمع. في وقت كانت ليلى شخصيّة حقيقيّة ومعروفة لدى قيس. أمّا لو كانت ليلى شخصيّة وهميّة فمن حقّ قيس أيضًا التعلّق بها كما يشاء! وليس من حقّ أحد، أيًّا كان، الاعتراض على قيس ولومه وذّمّه واحتقاره.
حقّ الانتظار
في ضوء ما تقدّم؛ ليس من حقّ أحد نقد الإخوة، من اليهود المتديِّنين، على انتظارهم المَسِيّا الذي تنبّأت به كتبهم- بحسب تصوّرهم شخصيّة المَسِيّا المنتظر. عِلمًا أنّ اليهوديّة ليست تبشيريّة. وسبط يهوذا في الأقلّ، وهو المُزمَع أن يأتي المَسِيّا من نسله، يرفض الاختلاط مع الغرباء. لذا فالقول الذي في القرآن بأنّ إرضاء اليهود يتمّ باتّباع المِلّة اليهوديّة غير دقيق: (ولَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ…)- البقرة 120 وفي تفسير الطبري: "يا محمد؛ لا سبيلَ لكَ إلى إرضائهم إلّا أنْ تكون يهوديًّا نصرانيًّا" ما قد ينسجم مع النصرانية حرفيًّا لأنها تبشيرية، إلّا أنّه لا ينسجم مع اليهوديّة- كما أسلفت. عِلمًا أنّ المسيحيّين لم يشتكوا يومًا من رفض فلان ديانتهم ولم يُعبِّروا يومًا عن سُخط تجاهه ولم يُسيئوا معاملة أحد لرفضه خلاصَ المسيح. والنتيجة: قولُ القرآن المذكور محضُ افتراء على أهل الكتاب، إمّا عمدًا أو جهلًا. فقوله هذا، في نظري، أحد أقواله التي لا محلّ لها من الإعراب.
ليس من حقّ أحد نقد الإخوة، من المسيحيّين المتديِّنين، على انتظارهم مجيء المسيح مرة ثانية وأخيرة- بحسب ما دُوِّن في الإنجيل. ومعلوم أنّ عدد الشخصيّات التي دوَّنت الوحي الإلهي الذي في العهد الجديد (الإنجيل) ثمانية. ثمانية أقلام، لا واحد ولا اثنان ولا أربعة، قد كَمَّلَ بعضُها بعضًا وشهد بعضها لبعض. وفي الوقت الذي قام رسل المسيح وخدّامه بتبشير المسكونة كلّها، لم يُجبروا النّاس على اتّباع المسيح ولا اعتناق الأفكار المسيحيّة. فمن حقّ المبشِّر أن يُبشِّر إلى درجة الاستشهاد {فوَيْلٌ لي إِنْ كُنْتُ لا أُبَشِّرُ}+ كورنثوس الأولى 16:9 وفي المقابل؛ من حقّ المتلقّي أن يرفض التبشير المسيحي بلا حرج ولا خجل، لكنْ بأدب واحترام، مثلما تقبّل الغربيّون تبشير عدد من الطوائف الإسلاميّة في بلدانهم.
ليس من حقّ أحد نقد الإخوة، من طائفة الشِّيعة الإثني عشريّة، على انتظار الإمام الحُجّة- المَهْدِيّ المُنتظَر- بعد غيبته الكبرى. فالمَثَل يقول: (إنّ الغائب حجّته معه) وفي رأيي أنّ انتظار إمام غائب خيرٌ من خليفة حاضر جائر سالب ناهب. وأنّ انتظار إمام (يملأ الدنيا قِسطًا وعدلًا) يدلّ على نوايا حَسَنة وطيّبة لدى المنتظرين والمنتظرات. لذا أدعو معهم-نّ بالقول: عَجَّلَ اللهُ فَرَجَه.
عِلمًا أنّ أئمّة الشيعة ابتداءً بالإمام الرابع (زين العابدين) حتّى الإمام الثاني عشر (المهدي المنتظر) لم يشارك أيّ منهم في أيّة معركة عسكرية. فيسرّني بالمناسبة أن أشير إلى قصيدة الفرزدق- مِن كِبار شعراء بني أُميّة ومن مادحيهم- في مدح زين العابدين. في وقت لم أعثر على قصيدة واحدة قيلت في مدح رسول الإسلام، مِن فم شاعر كبير مثل الفرزدق؛ كالأخطل وجرير ثمّ أبي تمّام والبحتري والمتنبّي. علمًا أنّ المتنبي وضع منزلته فوق منازل الخَلْق بقوله- على وزن بحر البسيط:
سيَعْلَمُ الجَمْعُ مِمَّنْ ضَمَّ مَجْلِسُنا - بأنّني خيرُ مَن تسعى بهِ قَدَمُ
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي - وأسمَعَتْ كلِماتي مَن بهِ صَمَمُ
أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِها - فيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاها ويخْتَصِمُ
فقد روى العلاّمة المجلسيّّ في «بحار الأنوار» عن «الأغاني» وغيره- باختصار: [أنّ الخليفة هشام بن عبد الملك حَجَّ فلم يقدر علی الاستلام من الزّحام. فنُصِب له منبر فجلس علیه وأحاط به أهل الشام. فبينما هو كذلك إذ أقبل عليّ بن الحُسَين (زين العابدين)… فإذا بلغ إلی موضع الحجر تنحّى الناس حتّى يستلمه هيبة له. فقال شاميّ: مَنْ هذا يا أَمِيرَ المُؤمِنِين؟ فنكِرَهُ هشام وقال: لا أَعرِفُه، لئلّا يرغب فيه أهلُ الشّام. فقال الفرزدق إذْ كان حاضرًا: لكنّي أنا أعرفه. فقال الشّاميّ: مَن هو يا أبا فراس؟ فأنشأ القصيدة… والمزيد في ويكيبيديا: علي بن الحسين السجاد] ومطلعها التالي- على بحر البسيط أيضًا والقافية نفسها:
هذا الذي تَعرِفُ البَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ - والبَيْتُ يَعْـرِفُهُ والحِلُّ والحَرَمُ
إلى أنْ قال:
وَلَيْسَ قَوْلُكَ: مَن هذا؟ بضَائرِه - العُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ والعَجَمُ
…….
مَنْ هم أئمّة الشِّيعة؟
هناك مَن لا يعرفون أئمّة الطائفة الشيعيّة وتاريخ نشوء الطائفة وتطوّرها. لكنّ مواقع الكترونية تكفّلت بنقل معلومات كثيرة عنهم، قد يحتاج إليها المتصفّح والباحث. فيمكن العثور على أسمائهم وألقابهم وسيرة كل منهم في غوغل وويكيبيديا وغيرها. وقد تفضّل الأخ رشيد وضيفه الأستاذ مجدي خليل بالتعريف عن النواصب (السُّنَّة) وعن الروافض (الشِّيعَة) وعن حقيقة الصِّراع بينهما عبر التاريخ، بتفصيل وتبسيط، بحلقة مهمّة رقمها 405 في سلسلة برنامج سؤال جريء- نواصب وروافض:
https://www.youtube.com/watch?v=4qsRXwZdMQo
…..
خلفيّات الغَيبة لدى الشِّيعة
إنّ للغَيبتَين، الصُّغرى منهما والكبرى، جذورًا في التّراث الشيعي ما قبل غَيْبَتَي الإمام المهدي المنتظر. فقد وُجِدتْ فرقة من الشيعة، تدعى الكيسانيّة أو المختاريّة، آمنت بعودة محمد بن الحنفيّة بعد غيبته. وهو ابن علي بن أبي طالب من زوجته السيدة خولة بنت جعفر الحنفية. وكان الشاعر الأموي كُثَيِّر عَزّة، الذي اشتهر بحُبّه عَزّة الكنانية، من أتباع هذه الفرقة. عن ويكيبيديا: كيسانية
تلتها في ما بعد فرقة أخرى من الشيعة سُمِّيت بـ السّبعيّة قد آمنت بأنّ محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصادق هو الإمام السّابع والغائب، أي المهدي الذي سيظهر يومًا ليُقيم الدعوة. كان في نظرها آخر الأئمة فما اعترفت بإمام بعده؛ غاب غيبتين صغرى وكبرى. وهي العقيدة التي أوصلت إلى ظهور القرامطة لاحقًا. بينما قبلت فئةٌ منهم موتَ الإمام محمد بن إسماعيل واتّصال الإمامة بنسله وهُمْ مَن شكَّلوا نواة الفاطميّين. إلّا أنّ تيار السبعية انتهى من العالم مبكرًا وانضوى أتباعه تحت فرق إسماعيلية أخرى. فاليوم لا يؤمن أحد بهذه العقيدة. علمًا أنّ جعفر الصادق هو الإمام السادس لدى الشيعة الإمامية (الإثني عشرية) والخامس عند الإسماعيلية. عن ويكيبيديا: إسماعيلية.
بينما وقفت فرقة الواقفة، التي انقرضت أيضًا، على موسى الكاظم، أي الإمام السابع. فما قالت بإمامة من بعده؛ إذ زعمت إنّ موسى الكاظم لم يمُت وإنه حيّ، وإنها تنتظر خروجه بعد دخوله في غيبة. فقد سمعت روايات عن الإمام جعفر الصادق قائلًا: إبني هذا- يعني موسى الكاظم- هو القائم وهو من المحتوم، وهو الذي يملأ الدنيا قِسطًا وعَدلًا كما مُلِئت ظُلمًا وجَورًا. عن ويكيبيديا: واقفية.
أخيرًا فإنّ غالبيّة الشيعة (وتحديدًا 90% منهم) ينتهجون الآن مفهوم الانتظار. فيعتقدون أنّ على الإنسان أنْ يكون مستعدًّا دائمًا لظهور الإمام؛ بالبعد عن المعاصي، وترقية النفس عن الدنيا، والحفاظ على الصلوات والصيام، ونشر علوم أهل البيت. وأنْ يَدعُوَ الله دائمًا بتعجيل الفَرَج وخُصُوصًا حين يرى الظلم قد اٌستشرى أو فسادًا. عن ويكيبيديا: محمد بن الحسن المهدي.
.…...
والتكملة: في ضوء الإمامة، في ضوء ولادة الإمام مع تطوّر المذهب الشيعي-
في الجزء الرابع وهو الأخير- قريبًا
¤ ¤ ¤