يؤسِفني تهجّم مُلحد على الكتاب المقدَّس لقلّة استيعابه، أو لأنّه ناقم على كاهن رعيّته لسبب ما، فترك الدِّين والتزاماته. وتؤسفني حال تلك الصبيّة التي تركت الكنيسة وحقدت عليها، لأنّها ظنّتْ أنّ صوتها عذب وأنّ طبقاته يجب أنْ تُدَرَّس، لكنّ المايسترو لم يلتفت إليها ولم يُعطِها فرصة الأداء الانفرادي. ويؤسفني انصراف الشباب عن الكنيسة وعن الدين في أوقات الفراغ وأيّام العطل لينشغل كليًّا بالحفلات والتقنيات الحديثة ووسائل اللهو. ويؤسفني استياء مسيحي من دِينه لأنّه لم يحصل في ظلّ طائفته على غذاء روحي كافٍ، وطائفته محسوبة على المسيحيّين، شأنها شأن طوائف بروتستانتية كثيرة تعدّت المئات، منها الطائفة الأميركية (المشيخية) التي اعترفت بزواج المثليّين القبيح. أمّا الكتابُ المقدَّس فبَرِيءٌ مِن أفعال الطوائف المنحرفة عن تعاليمه السّامِية وبريء في الوقت عينه من الهفوات المخزية التي سقط فيها عدد ما من رجال الدين من طائفة ما، سواء أكانت تابعة لكنيسة رسوليّة أم غيرها.
وفي المقابل؛ يوجد مساكين عقل وسُذّج في المجتمعَين الشرقي والغربي؛ تفكير الواحد منهم لا يكاد يمتدّ إلى أبعد من أنفه. وتبدو لي مساحة عقليّته أضيق ممّا لعصفور، إذ لا خيالَ واسعًا فيها ولا بُعدَ نظر ولا قدرة على التّمييز والتأمّل والتّحليل، ولا سيّما عقليّة ذات بعد واحد ما تزال متخلِّفة في باكورة الألفيّة الثالثة بعد المسيح وفي فضاء الأبعاد الأربعة: ثلاثة منها مكانية والرابع زماني. أمّا العقليّة الأخطر على المجتمع فهي التي فسَّرتِ الكتاب المقدَّس تفسيرًا حرفيًّا، لكي تجذب إليها عددًا من المساكين، في وقت التزمت التفسير الروحي والمعنوي في مناسبات أخرى. وهي نفسها التي احتقرت تراث الكنيسة في مناسبة، واحترمته في مناسبة أخرى إذ سَخَّرتْهُ لمصلحتها.
مِن شجون التفسير الحرفي
رأيت طائفة ما، لا أعرف اسمها، تأخذ الكتاب المقدَّس بحَرفيّة مؤذية، إلى درجة أنَّ أعضاءها يريدون إيجاد عبارة في الإنجيل تنصّ على أنّ يسوع قال للفنّان الفلاني "تعال ارسمني أو انحت لي تمثالًا" لكي يعتبروا الصور محلَّلة في الكتاب المقدّس وكي يعتبروا صور يسوع والعذراء وسائر القديسات والقديسين المنتشرة بأشكال مختلفة في أنحاء العالم مشروعة. فشأنهم شأن المعترض الذي سأل: (أين قال يسوع أنا الله فاعبدوني) وهو لم يدرك معنى بداية إنجيل يوحنّا: {في الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ} بل تجاهل قول يسوع لليَهُود: {أنا والآبُ واحِدٌ}+ يوحنّا\10 وتهرَّب من قول يسوع لفِيلُبُّسَ: {اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ}+ يوحنّا\14 وشأنهم شأن مَن كتب تعليقًا ساذجًا على الفيسبوك محاولًا تحريف المعنى: [المسيح جاء بالسيف لقوله: {مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا}+ متّى\10 وجاء بالانقسام لقوله: {أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ؟ كَلّا، أَقُولُ لَكُمْ: بَلِ انْقِسَامًا}+ لوقا\12] وقصد المعترض أيضًا أنّ المعنى بين الآيتين مختلف وإلّا لكتب لوقا مثلما كتب متّى حرفيًّا وبالضبط. وتاليًا كأنّ المسيح وتلاميذه ورسله خرجوا بسيوف حديدية أمام العالم وجاهدوا لتقسيم العالم! وتاليًا كأنّ على المسيحيّين رفض إنجيل لوقا لأنه اختلف عن إنجيل غيره. هذه هي عقلية أحد المعترضين في القرن الحادي والعشرين! لكنْ ثبت لي أن المعترض قد تلوَّث فكره بإحدى الثقافات الغريبة عن الكتاب المقدَّس، فنقل الآيتين من أحد المواقع المسيئة، مقتطَعَة من سياق النَّصّ. ولم تُلهِمْهُ عقليّتُه البدائيّة ولا ضميرُه الوَضِيع بالتفكير في الرجوع إلى الإنجيل لقراءة الأصحاح كاملًا، ولا بالتفكير في اللجوء إلى أيّ تفسير مسيحي في أيّ موقع الكتروني مسيحي، لكي يفهم معنى كلام المسيح بالضبط ومعنى الإزائية بين الإنجيليّين الثلاثة (متّى ومرقس ولوقا) أي شهادة إنجيل هذا لصحّة إنجيل ذاك حَرفيًّا وضِمنيًّا، في وقت دَوَّن كلّ منهم الإنجيل بمعزل عن الآخر وفي ظرف مختلف. لكنّ الأرجح أنّ المعترض قصد الطعن في رسالة الإنجيل الخالدة وحاول إسقاط شبهة التحريف عليه. وقد فاته أنّ مِليارَي مسيحي قد فهموا متّى\10 ولوقا\12 أحسن الفهم.
فلعلّ خير ما أختم به هذا الباب أنّ يسوع {دَعَا الْجَمْعَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ ويَتْبَعْني}+ مرقس 8: 34 ومتّى 16: 24 فإنْ يُفهَم قولُ يسوع حَرفيًّا فيجب على المؤمن أن ينحت صليبًا خشبيًّا ليحمله ماشيًا في الشارع ومخاطِبًا الناس: "أنا نَكِرة، أريد أن أتبع يسوع" فالفهم الحَرفيّ ساذج ومَقِيت ومُمِيت.
رأي في تصوير يسوع
بهذه المناسبة؛ لا أستبعد من نظريّة الاحتمال كون صور يسوع، المنشورة في وسائل الإعلام القديمة منها والحديثة، منسوخة بشكل تقريبي عن صورة أصليّة، واحدة أو أزيد، رَسَمَها فنّان يهودي أو روماني أو أحد الرُّسُل أو أحد العامّة ممّن شاهدوا يسوع شخصيًّا في مناسبة ما، محبّة واعتزازًا، لأنّ يسوع زار أماكن كثيرة خلال كرازته، أي خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة من حياته على الأرض. وفي تقديري؛ لا تخلو أيّة مملكة على الأرض من وجود فنّانين وفنّانات ومعجَبين ومعجَبات. وإنّي على يقين بأنّ يسوع قد ظَهَرَ بأجمل صورة بين الجنس البشري كلّه، يُشبِه النّاس كلّها ولا أَحَدَ يُشبهُه! وفي رأيي تاليًا؛ أنّ قول الله بصيغة الجمع الدّالّة، في نظري، على الأقانيم الثلاثة: {نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا}+ تكوين 26:1 معناه: "نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صورة يسوع المسيح" لأنّ الآب {لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ}+ يوحنّا 18:1 وأنّ الرّوح القدس فوق قدرة الإنسان على التصوير المرئي.
أمّا رسّام إيقونة الأقانيم الثلاثة فقد رسم الأقنوم الواحد كالآخر، مستوحِيًا مِن إحدى صور المسيح، للدلالة على أنّ الثلاثة واحد في الجوهر. عِلمًا أنّ رسم الإيقونة عمل صعب ودقيق؛ كُلّ شيء مرسوم فيها مقصودٌ لمعنىً لاهوتيّ معيَّن. فرَسّام الإيقونة فنّان أكاديمي ومِن دارسي اللاهوت.
رأي في صورة لوقا الإنجيلي
أمّا صورة سيِّدتي المطوَّبة مريم العذراء حاملة الطفل يسوع، المنسوبة للوقا الإنجيلي منذ عام 50 م تقريبًا والتي ما تزال باقية في دير مار مرقس بأورشليم، فإنّي واثق من صحّة نسبها للوقا لِسَبَبَين؛ لعلّ الأوّل: ثقتي بتقليد الكنيسة، أي الذين نُقِل عنهم صحّة هذا العمل، إذ ليس الكذب من تعاليم الكتاب المقدّس- حاشا- ولا مِن شِيَم المسيحيّين: {لِذلِكَ اطْرَحُوا عَنْكُمُ الْكَذِبَ، وتَكَلَّمُوا بِالصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِه}+ أفسُس 25:4 ولا مصلحة لهم في المبالغة في الإيمان وهو على أشُدِّه، حتّى وصل إلى درجة الاستشهاد. ولماذا أقبل بالتقليد من جهة وأرفضه من أخرى، هل انتهت بي الحال إلى النِّفاق؟! فمعلومٌ أنّ الإنجيل لو دَوَّن الأخبار، ممّا صَنَعَ يسوعُ وحده، لَمَا وَسِع العالَمُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَة (يوحنّا\21) فكيف يَسَعُ ما عَلَّم به تلاميذُه والرُّسُل وسائرُ آباء الكنيسة باٌسم المسيح ويسع تدوين ما صَنَعوا في الشعوب من كنائس وفضائل ومعجزات؟
أمّا الثّاني فتكفي تسمية سِفرَين باٌسم لوقا (إنجيل لوقا وأعمال الرُّسُل) شرفًا له. فما احتاج إلى أزيَدَ مِن هذا الشَّرَف. ومن البديهي أنّ أيًّا من الإنجيليّين لم يطلب شرفًا لنفسه ولا مجدًا على حساب مجد سيِّده المسيح له وحده المجد. وقد نقل التقليد أنّ لوقا كان طبيبًا ورسّامًا قبلما بشَّرَهُ بولسُ الرَّسول. وأنّ لوقا حَظِيَ بلقاء مع السَّيِّدة العذراء وسَمِعَ مِن فمها الطّاهر أخبار ولادة يسوع العذراويّة. والطُّبُّ والرسم مهنتان دقيقتان، ما اٌنعكس على سلوك لوقا وعلى تدوينه الإنجيلَ بإرشاد الرُّوح القدس. ففي بداية إنجيله: {… رَأَيْتُ أَنا أَيْضًا إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدقِيق، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ، لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ}+ لوقا\1
ما أعظمك يا يسوع وما أجملك!
ما قال يسوعُ لأحد "تعال اسجد لي" لكنّ الناس سَجَدَتْ له! مِثالًا: الذي كان أعمى منذ ولادته فشفاه يسوع: {فقَالَ: أُومِنُ يَا سَيِّدُ! وسَجَدَ لَهُ}+ يوحنّا\9 إنّما قال للأبرص الذي طَهَّره: {لا تَقُلْ لأَحَدٍ شَيْئًا} لكنّ الّذي كان أبرص {خَرَجَ وابْتَدَأَ يُنَادِي كَثِيرًا وَيُذِيعُ الْخَبَرَ}+ مرقس\1 ومتّى\8 كذلك قال للّذي كان أعمى في مرقس\8 ومَن ذا ينسى قصّة المرأة السّامرية في إنجيل يوحنّا\4 التي {تَرَكَت جَرَّتَهَا وَمَضَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ وقَالَتْ لِلنَّاس: هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَانًا قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هذا هُوَ الْمَسِيحُ؟} فما أعظمَكَ يا يسوع! وتاليًا لم يَقُلْ يسوعُ لأيّ فنّان "تعال ارسمني" لكنّ الفنّانين رسموا صورته بلوحات كثيرة جدًّا وتفنّنوا في رسم الإيقونات وفي نحت التماثيل ونجحوا في إنتاج أفلام يسوعيّة كثيرة بلغات مختلفة. فما أجمَلَكَ يا يسوع!
¤ ¤ ¤