إنّ أساليب عبادة الله وتسبيحه قد اختلفت بين الشعوب الموحِّدة، بحسب تقاليدها أي تراثها. فلا يحقّ للمسيحي انتقاد أسلوب اليهودي وبالعكس. ولا يحق للبروتستانتي انتقاد طريقة الأرثوذوكسي وبالعكس. هاءنذا في بيتي أصلّي كما أريد واقفًا وجالسًا وساجدًا وراكعًا، شاكرًا كلّ مَن علَّمني الثقافة المسيحية. لكنّي بعد بلوغ سنّ الرُّشد، ما كان لأحد أن يلزمني بالوقوف والجلوس والسجود والركوع، إلّا ما اقتضى طقسُ الكنيسة احترامًا وتأدّبًا. أمّا خارج بيتي فالقانون والواجب الأخلاقي يحتّمان عليّ أن أحترم غيري فلا أستفزّ أحدًا بأسلوب عبادتي ولا أزعجه بصوتي ولا أضايقه بصيامي. هذا لأنّ المهمّ عند الله القلب والنِّيَّة وليس المظهر ولا الأسلوب. فإنّ الله وحده عالم بالقلوب وبالنّيّات ووحده الذي يُحاسِب ويَدين. ولا يوجد دليل واحد على أنّ الله كلّف فئة بمحاسبة فئة أخرى. بل تقتضي الضرورة تذكّر كلام السَّيِّد المسيح بهذه المناسبة والعمل به: {لِمَاذا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْني أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ؟ يَامُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ!}+ متّى\7 ولوقا\6
2 الفنون الأدائيّة في الكتاب المقدّس
ذكرت في ج1 أنّها الفنون التي تؤدَّى أمام الجمهور، كالرَّقص والموسيقى. ومعلوم أنّ داود النبي قد ترنّم بصوته وبالموسيقى ورقص أمام الرب حتّى احتقرته زوجته (مِيكَالُ بِنْتُ شَاوُلَ) في قلبها، لكنه قال لها: {إنَّمَا أَمَامَ الرَّبّ الَّذِي اخْتارني دُونَ أبِيكِ ودُونَ كُلَّ بَيْتِهِ لِيُقِيمَني رَئِيسًا عَلَى شَعْب الرَّبّ إِسْرَائِيلَ، فلَعِبْتُ أَمَامَ الرَّبّ. وإنِّي أتصَاغَرُ دُونَ ذلِكَ وأكُونُ وَضِيعًا في عَيْنَيْ نَفسِي، وأَمَّا عِندَ الإِمَاءِ الَّتِي ذَكَرتِ فأَتَمَجَّد}+ صموئيل الثاني\6
وفي المزامير: {لِيُسَبِّحُوا اسْمَهُ بِرَقْصٍ. بِدُفّ وعُودٍ لِيُرَنِّمُوا لَهُ}+ مز 3:149
وإليك المزمور الـ 150 كاملًا:
{هَلِّلُويَا. سَبِّحُوا اللهَ فِي قُدْسِهِ. سَبِّحُوهُ فِي فَلَكِ قُوَّتِهِ. سَبِّحُوهُ عَلَى قُوَّاتِهِ. سَبِّحُوهُ حَسَبَ كَثْرَةِ عَظَمَتِه. سَبِّحُوهُ بِصَوْتِ الصُّور. سَبِّحُوهُ بِرَبَابٍ وعُود. سَبِّحُوهُ بِدُفّ ورَقْص. سَبِّحُوهُ بأَوتارٍ ومِزمَار. سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ التَّصْوِيت. سَبِّحُوهُ بصُنُوجِ الْهُتَاف. كُلُّ نَسَمَةٍ فلْتُسَبِّحِ الرَّبَّ. هَلِّلُويَا}+ آمين. وواضح أنّ في هذا المزمور عددًا من الآلات الموسيقية التي تعتبر اليوم بدائيّة.
وقد ورد الرقص في أسفار أخرى، بالإضافة إلى المزامير، منها التالي:
{فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ النَّبِيَّةُ أُخْتُ هَارُونَ الدُّفَّ بِيَدِهَا، وخَرَجَتْ جَمِيعُ النِّسَاءِ وَرَاءَهَا بِدُفُوفٍ وَرَقْصٍ. وأَجَابَتْهُمْ مَرْيَمُ: رَنِّمُوا لِلرَّبِّ فَإِنَّهُ قَدْ تَعَظَّمَ. الْفَرَسَ وَرَاكِبَهُ طَرَحَهُمَا فِي الْبَحْر}+ خروج\15
{لِلْبُكَاءِ وَقْتٌ وَلِلضَّحْكِ وَقْتٌ. لِلنَّوْحِ وَقْتٌ وَلِلرَّقْصِ وَقْتٌ}+ الجامعة\3
{سَأَبْنِيكِ بَعْدُ، فَتُبْنَيْنَ يَا عَذْرَاءَ إِسْرَائِيلَ. تَتَزَيَّنِينَ بَعْدُ بِدُفُوفِكِ، وَتَخْرُجِينَ فِي رَقْصِ اللاَّعِبِين}+ إرميا\31
والصلوات مع الـترانيم والموسيقى على قدم وساق خلال القدّاس الإلهي في جميع الكنائس. أمّا الرقص المألوف في بعض الطقوس الأفريقية والغربية فلم أشاهده في الطقوس السريانية-الكلدانية-الآشورية ولا القبطية ولا اللاتينية ولا البيزنطية. ولم أشاهده في الكنائس الغربية الرسمية، من غير الكاثوليكية، التي هي كنائس إنجيلية، لكنّها قريبة طقسيًّا من الكنائس الكاثوليكية. علمًا أنّ كاتب هذه السطور قد زار كنائس كثيرة في جهات أوروپا الأربع وفي وسطها وتحديدًا النمسا وتشيكيا.
الترانيم
الترنيمة، ج: ترانيم وترنيمات، أي (نشيد يُتغنَّى به في الكنائس المسيحيَّة أثناء القُدَّاس. وموضوعه الابتهالُ إلى الله وحده وشُكرُه على نِعَمِه وقد يُصاحَب بالموسيقى على آلات خاصّة) وتوجد لها لازِمة (تتألَّف من أربعة مقاطع أو أزيد لعدد من المغنِّين، أو ينضم الجمهور للمغنِّي الأصلي، أو تكون تكرارًا لجملة الافتتاح)- وشكرًا لمعجم المعاني الجامع.
وإليك عددًا من الإشارات إلى الترنّم في الكتاب المقدَّس وقد زاد على 100 إشارة:
{حِينَئِذٍ تَرَنَّمَ إِسْرَائِيلُ بِهذَا النَّشِيدِ: «اِصْعَدِي أَيَّتُهَا الْبِئْرُ! أَجِيبُوا لَهَا. بِئْرٌ حَفَرَهَا رُؤَسَاءُ، حَفَرَهَا شُرَفَاءُ الشَّعْبِ، بِصَوْلَجَانٍ، بِعِصِيِّهِمْ}+ العدد\21
{ثابتٌ قَلْبِي يَا اَللهُ، ثابِتٌ قَلْبِي. أُغَنِّي وأُرَنِّمُ… أَحْمَدُكَ بَيْنَ الشُّعُوبِ يَا رَبُّ. أُرَنِّمُ لَكَ بَيْنَ الأُمَمِ}+ مزمور\57
{اِهْتِفِي لِلرَّبِّ يَا كُلَّ الأَرْضِ. اعْبُدُوا الرَّبَّ بِفَرَحٍ. ادْخُلُوا إِلَى حَضْرَتِهِ بتَرَنُّم}+ مزمور\100
{تَفْرَحُ الْبَرِّيَّةُ وَالأَرْضُ الْيَابِسَةُ، وَيَبْتَهِجُ الْقَفْرُ وَيُزْهِرُ كَالنَّرْجِسِ. يُزْهِرُ إِزْهَارًا وَيَبْتَهِجُ ابْتِهَاجًا وَيُرَنِّمُ. يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَجْدُ لُبْنَانَ. بَهَاءُ كَرْمَلَ وَشَارُونَ. هُمْ يَرَوْنَ مَجْدَ الرَّبِّ، بَهَاءَ إِلهِنَا}+ إشَعياء\37
{هُوَذا عَبِيدِي يَتَرَنَّمُونَ مِنْ طِيبَةِ الْقَلْبِ وَأَنْتُمْ تَصْرُخُونَ مِنْ كآبَةِ الْقَلْبِ، ومِنِ انْكِسَارِ الرُّوحِ تُوَلْوِلُون}+ إشعياء\65
{فقالَتْ مَرْيَمُ: تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وتَبْتَهِجُ رُوحِي باللهِ مُخَلِّصِي…}+ لوقا\1
{مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بمَزامِيرَ وتَسَابِيحَ وأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، مُتَرَنِّمِينَ ومُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ}+ أفسُس\5
الترانيم في سِيرة شخصية
أمّا التالي فأكتبه بالمناسبة؛ شهادة وليس افتخارًا، كي يعلم القارئ-ة أنّ ما تقدّم وما يلحق مكتوبان عن فهم وعن تجارب شخصية، ليسا نقلًا عن فلان ولا سمعًا مِن علّان. فما يزال كاتب هذه السطور يترنّم بما تعلّم في الكنائس السريانية والكلدانية في العراق. وفي كنائس الأردنّ اللاتينية. وفي كنائس الطقس البيزنطي العريق في الأردنّ ثم لبنان والتي تترنّم بالعربية وباليونانية معًا والمميَّزة بالترانيم البيزنطية المسمّاة طروپاريات (1) منذ عهد القديس يوحنّا الذهبيّ الفم وبالألحان البيزنطية الثمانية التي أتقنها الكاتب بسرعة قياسية منذ أوائل التسعينيّات في أحد أديرة الأردنّ.
وقد رفض الكاتب دعوة، من أزيد من أسقف، للرسامة الكهنوتية أواسط التسعينيّات، خلال فترة إقامته المؤقّتة في كلّ من الأردنّ ولبنان وخلال زيارته كلًّا من دمشق وحمص، مكتفيًا بالترهّب وخدمة النّاس والقدّاس، ومقتديًا بالقدّيس مار أفرام السُّرياني ܡܪܝ ܐܦܪܝܡ ܣܘܪܝܝܐ (نصيبين 306 - الرَّها 373 م) وهو أحد آباء الكنيسة ومعلِّمِيها الذي أجمعتْ على قداسته جميع الطوائف المسيحية الرسولية. ويُعَدّ في الشرق المسيحي أعظم كتّاب القصيدة الروحيّة والترنيمة الدينية. وهو الملقّب بقيثارة الروح القدس وبشمس السُّريان. رفض مهامّ الكهنوت تواضُعًا. فانخرط في السلك الرهباني وأسّس مدرسة لاهوتية في نصيبين واختار البقاء في رتبة الشمامسة حتى انتقاله إلى السماء. فيرجع إليه فضل تطوير الموسيقى الكنسية السريانية المستخدمة في القداديس السريانية.
وفي المقابل؛ ألَّف القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (347- 407 م) بطريرك القسطنطينية ترنيمات كثيرة ورتّبها. وفتح دورات احتفالية بالصلبان حول الكنائس، دافعًا احتيالات الآريوسيّين (2) الذين كانوا ينشدون أناشيد ذات نغمات خليعة في اجتماعاتهم وحفلاتهم الكنسية لجذب الشعب. لكنّ ترنيمات الكنيسة الأرثوذوكسية الروحية مع فصاحة الذهبيّ الفم أخلت هياكل الآريوسيّين، فوفد الشعب إلى الكنيسة أفواجًا. علمًا أنّ يوحنّا الذهبيّ الفم أنطاكيّ الأصل وقدِّيس لدى جميع الطوائف المسيحية الرسولية واسمه باليونانية
Ἰωάννης ὁ Χρυσόστομος =Johannes Khrysostomos
والمزيد في عدد من المواقع المسيحية: طروبارية، موسيقى مسيحية، أفرام السرياني، يوحنّا الذهبيّ الفم أو يوحنّا فم الذهب.
ومن الطرائف المتبقّية في ذاكرتي اثنتان؛ الأولى حدثت خلال زيارتي أثينا سنة 1996 فذهبت إلى محل عمل أحد أشقّائي. وربّ العمل الذي يدعى گريگوري، إذا أسعفتني الذّاكرة، كان يونانيًّا كهلًا، أي جاوز سنّ الشَّباب ولم يصل سنّ الشّيخوخة، وكان يظنّ أنّ الدنيا هي اليونان وأنّ الله يوناني. وقد أخبرني الشقيق شيئًا عن طباعه ولا سيّما عصبيّة المزاج، لكنّه رحّب بي ثمّ انصرف إلى عمله داخل المحلّ. فرنّمت لشقيقي ترنيمة "المسيح قام من بين الأموات" باليونانية على مسمع گريگوري. فلفت نظر شقيقي أنّ گريگوري نظر إليّ بدهشة. قال الشقيق: غريب! هذا الرجل لا يلتفت إلى شيء ولا يهزّه شيء. فتقدّم گريگوري صوبنا بلهفة قائلًا: أنتما بلا شك يونانيان.
والثانية حصلت سنة 2001 يوم اضطررت للعبور إلى اليونان بحرًا، بعدما سُرِق جواز سفري ونقودي في أحد قطارات إيطاليا الليلية إذ غلبني النوم. عِلمًا أني حصلت صباح اليوم التالي على تقرير عن السرقة من شرطة روما. فسافرت ظهيرة اليوم الثالث إلى جنوبيّ إيطاليا قاصدًا المرفأ الذي تبحر منه البواخر التجارية والسياحية إلى اليونان. فوصلت إلى محلّ قطع التذاكر قرب المرفأ، قلت لعلّ أحد موظّفيه يساعدني في الصعود إلى الباخرة، لأنّي مسافر بدون جواز، فأجاب الموظّف بالنفي. وقد بدأ الظلام يخيّم على المرفأ. فتوجّهت إلى الباخرة والتذكرة في يدي. لكنّ مساعد القبطان اليوناني رفض طلب صعودي إلى الباخرة في البداية، لأني قادم إليها بدون جواز سفر. فقلت له إني عراقي وتحت ظروف قاسية فتحنّن قلبه قليلًا. وكان على المرفأ ثلاثة بائعي أحذية من الإخوة المغاربة. فتقدّم المساعد نحوهم سائلًا عن لهجتي وعن هويّتي العراقيّة؛ إذ أبقى لصوص المافيا عليها وعلى أربع قطع ذهبيّة، مهداة من أشقّائي المقيمين في أوروبا: صليب وخارطة العراق مربوطَان بسلسلة متدلية من عنقي وخاتم كبير في الإصبع. نجحت في بيعها جميعًا في أحد محلّات روما، لشراء تذكرة السفر وتغطية بعض تكاليفه. فأجاب المغاربة مشكورين: نعم، هذا عراقي. وفي هذه الأثناء، تقدّم شرطي يسألني بالإيطالية عن جواز سفري والمساعد إلى جانبه. فقلت له بالانگليزية: لا أفهم. فسألني بالانگليزية فأجبته. ثمّ رنّمت الترنيمة البيزنطية عينها أمامه وأمام المساعد الذي سُرّ بسماعها بلغته الأمّ. فلوّح بيده اليمنى في النهاية: تعال! فكانت الترنيمة تأشيرة دخولي إلى اليونان من جديد.
أخيرًا؛ يعلم غير المسيحيّ أنّ المسيحيّ عمومًا صادق وأمين، اقتداءً بسيِّده الأمين والصادق، السيد المسيح له المجد كلّ المجد.
طروپارية τροπαριου 1
عن اليونانية أي ترنيمة؛ مشتقّة من تروپوس أي أسلوب لحن. وقيل أنها مشتقّة من تروپايون أي النصر. فيكون معناها تسبيحة النصر؛ لأنها تُبَيِّن انتصار السّيّد على الموت والجحيم، وانتصار القدِّيسِين على أعداء الخلاص. وبحسب المعنى الأول، تُطلق "طروپارية" على كلّ ترنيمة وجيزة- ج3 من معجم المصطلحات الكنسية للراهب أثناسيوس المقاري.
2 الآريوسية: مذهب مسيحي لطائفة لم يعد لها وجود. منسوبة إلى آريوس (250- 336 م) أحد كهنة الإسكندرية. وقد اعتُبِر آريوس هرطوقيًّا في مجمع نيقية الذي عقده الإمبراطور قسطنطين في الـ 20 من مايو 325 م ونتج عنه قانون الإيمان المسيحي… والمزيد في ويكيپيديا: آريوسية، مجمع نيقية.
¤ ¤ ¤