إنّ هذا القسم من المقالة يُجيب على تساؤلين؛ الأوّل: هل حرَّم الله الصور والمنحوتات أم حلَّلها؟ والثاني: هل تصوير السيد المسيح حلال أم حرام؟
فالجواب على التساؤل الأوَّل مقترن بجملة شَرطيّة جازمة؛ أولًا: حرام إمّا كُرِّست لعبادة آلهة أخرى، كما في وصيّة الله الشهيرة في سِفر الخروج والمؤكَّد عليها في سِفر التثنية: {أنا الرَّبُّ إِلهُكَ… لا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أمَامِي! لا تصنعْ لَكَ تمثالًا منحوتًا ولا صورة ما ... لا تسجُدْ لهُنّ ولا تعبُدهُنّ، لأَنِّي أَنا الرَّبَّ إِلهَكَ إِلهٌ غَيُور…}+ خروج 20: 2-5 وتثنية 5: 6-9 وهذا لا خلاف عليه.
وثانيًا: حلال إمّا كان الهدف منها التقرّب إلى الله وتسبيحه وتمجيده وتقريبه لأذهان الأطفال وأذهان غير المؤمنين، كما تفعل الكلمات المكتوبة والمسموعة. والمثل الصيني يقول: (رُبّ صورة أغنت عن ألف كلمة) فلماذا تصبح الكلمات محلّلة بينما الصور محرَّمة، هل هذا المنطق سليم؟ وهل في منطق التّحريم بدعة أم دلالة على ضعف القدرة على التفكير والتأمّل والتحليل؟ لا يستحقّ هذا المنطق في نظري تسمية بدعة، لأنّ المُبدع قد يقدّم ما هو نافع ومفيد. فرُبَّما شَكَتْ بعض العقول المخالِفة في داخلها مشكلة حبّ الظهور بشيء ما ولا تعرف كيف تظهر، فتختار أيّة وسيلة وكيفما اتّفق، حتّى على حساب المنطق والتقليد والدين والمبادئ. وهناك من لديه استعداد التضحية بالأخلاق لكي يُظهر للناس أهميّته حينًا وحينًا يجعل مكانته أعلى. وفي العراق مَثَل يقول: (يُحبّ العلوّ ولو على خازوق) والآن سأثبت صحّة ما تقدَّم والجواب من الكتاب.
3 الفنون التشكيليَّة في الكتاب المقدّس
لقد سبق تعريف الفنون التشكيليَّة في ج1 من المقالة بأنّها فنون مرئيّة، كالرَّسم والتّصوير والنّحت، لكنْ إليك أوّلًا الأخبار التالية:
الأوّل: كنت صيفيّة العام 2010 على وشك أن أدفع لأحد الرسّامين الواقفين على جسر تشارلز (1) الأشهر في العاصمة التشيكية براغ وفي أوروبا الوسطى، 20 أو 25 يورو لكي يرسم صورتي، فتراجعت إذ قلت في نفسي: تكفيني اللوحة التي رسمها أحد المحترفين من أصدقائي العراقيّين مجّانًا، نقلًا عن صورة شخصية لي فوتوغرافية، وما زلت معتزًّا بها لأنها تمثّل عزّ الشباب آنذاك ولأنها ذكرى تعب محبّة الصديق.
والثاني: لا يخفى على مُتذوّق-ة الشِّعر العربي الأصيل أنّ قيس بن الملوَّح قد رسم صورة ليلى بالكلمات. وما لبث أن صوّر ليلى عددٌ من الفنّانين العرب بريشته، في ضوء الشِّعر الذي قرأ. وهناك مَن صوّر ملوكًا وملكات وشعراء وفلاسفة وعلماء… بدون أن يرى أحدُهم وجه الشخص المعني. وهناك أعمى البصر الذي كان يعشق بأذنه ويرسم بشعره. لعلّ بشّارَ بن بُرْد خيرُ مثال وهو قائل القصيدة التي منها التالي- على بحر البسيط:
وذاتِ دَلٍّ كأنَّ البدرَ صُورتُها – باتت تغنِّي عَمِيدَ القلب سكرانا
إِنَّ العيونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ – قَتَلْنَنا ثُمَّ لمْ يُحييْنَ قتلانا
ياقومِ أذْنِي لِبْعضِ الحَيِّ عاشقةٌ – والأُذْنُ تَعْشَقُ قبل العَين أحيانا
والتالي صورة شِعريّة رسمها امرؤ القيس الكِندي، أشهر شعراء العربيّة، لسَلمى محبوبته، من خلال تجواله في بلاد العرب وترحاله في بلاد الروم- على بحر الطويل:
حِجَـازيَّـةُ العَينين مَكيَّةُ الحَشَا – عِرَاقِيَّةُ الأطـرَافِ رُومِيَّةُ الكَفَلْ
تِهَـامِيَّةُ الأبدانِ عَبْسِيَّةُ اللَمَى – خُـزَاعِيَّةُ الأسنانِ دُرِّيَّة القُبَلْ
والثالث: لقد توصّل القضاء إلى فنّ الرسم الجنائي مستوحًى مِن وصف ضحيّة من ضحايا عمل إجرامي أو إرهابي، أو مِن وصف شاهد عيان، اعتمادًا على ذاكرة كلٍّ من الضحيّة والشاهد، لتخطيط وجه مجرم هارب. وتمّ لاحقًا استخدام برامج التصميم بالكومبيوتر لهذا الغرض. ومعلوم أنّ الهدف من هذا الفنّ: تقريب صورة المجرم، أو المشتبه به، إلى أذهان العامّة لتسهيل التعرّف عليه فإخبار االشرطة عن مكانه، وإلى ذهن المحقِّق القضائي المكلَّف بتعقّب المجرم لتسهيل العثور عليه.
والرابع، لعلّه خير ما أختم به هذه الأخبار: شهادة باري شوورتز، العالِم اليهودي والمصوِّر، لصورة السيد المسيح الظاهرة على كفن تورينو: (أمضيت 32 عامًا من حياتي وأنا أدرس كفن تورينو وأنا مقتنع بأنّه حقيقي. إنّه ليس للمسيحيّين فحَسْبُ، بل للعالم أجمع! لذا أدعو الناس الى التأمّل في هذه الصورة المـُبهرة بل الفريدة من نوعها في العالم) وفي خبر تناقلته مواقع الكترونية عدّة: (يعود مصدر الصورة الى إشعاع غير عادي منبثق من جسد عانى تعذيبًا يُشبه تمامًا التعذيب الذي عاناه المسيح، مثلما وصفه الإنجيليون والدراسات التي أجمعت على حقيقة هذه الصورة) وما زالت هذه الصورة محيِّرة علماء وسائر المهتمّين.
أمّا النحت وما يلحقه مِن نقش (أي إزالة جزء من المادة) ومن تشكيل (أي إضافة موادّ) فهو فنّ قديم كالرّسم ما لم يكن أقدم. كان علامة مميَّزة وفارقة في الحضارات القديمة، منها السومريّة والبابلية والآشورية والفرعونية والهندية والصينية، وفي ثقافات مختلفة كالمتوسطيّة القديمة والأفريقية، وفي ثقافات أميركا الجنوبيّة. وقد تميّز دينيًّا في التعبير عن آلهة وثنيّة مختلفة. ثمّ سخّره الفنّانون المسيحيّون لتمثيل شخصيّات مسيحيّة وأحداث إنجيليّة. وتاليًا استُخدِم فنّ النّحت في العصور الأخيرة أنموذجًا من نماذج الإبداع الفني ووسيلة في الوقت عينه لتوصيل رسالة ما الى الجمهور، كما عزّز هذا الفنّ حضوره في عالم المسابقات الفنّيّة. والمزيد في ويكيبيديا: نحت.
لا تحريم للصور الإيجابيّة في الكتاب المقدّس
في الكتاب المقدّس نوعان من الصور، أي الرسم والنحت، سأعتبر الأوّل منهما إيجابيًّا، لأنّه مكرَّس لله وبأمره؛ مثالًا: أنّ الله أمَرَ موسى النّبيّ، بعد ضربة الحَيَّاتِ المُحْرِقَة، قائلًا له: {اصْنَعْ لَكَ حَيَّةً مُحْرِقَةً وضَعْهَا عَلَى رَايَة، فكُلُّ مَنْ لُدِغَ ونَظَرَ إِلَيْهَا يَحيَا)+ العدد 8:21 فصنع موسى حَيَّةً مِنْ نُحَاسٍ كما أمره الله. عِلمًا أنّ ما صنع موسى كان رمزًا للصليب! إذ قال المسيح: (كَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّة)+ يوحنّا 3: 14-15 ويشمل النوع الإيجابي الصور التي يحتاج إليها الإنسان في العلم والفنّ وسائر حاجاته وفي خدمة أخيه الإنسان، لأن الله أوصى وصيّتين: {تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ... وتُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ}+ متّى\22 أمّا النوع الثاني من الصور فقد اعتبرتُهُ حِياديًّا أو سَلبيًّا، لأنه كُرِّس لعبادة آلهة مادِّيَّة أو خُرافيّة، وهذا قد حَرَّمَه الله، كما مَرّ أعلى، لأنّه إِلهٌ غَيُور.
وأمّا بعد؛ فإنّ غالبيّة المسيحيّين ولا سيّما الأرثوذوكس والكاثوليك متّفقة على أنّ الصور والايقونات في حياة الناس قد أباح الله صنعها ما لم تكن من الوسائل المستخدمة لعبادة آلهة أخرى. والمزيد في باب الصور والأيقونات (2) لقداسة البابا شنودة الثالث. لأنّ التكرار عندي ليس من البلاغة. فلطفًا قراءة الباب الذي وضعت عنوانه في هامش المقالة قبل التفكير في نقد ما تقدّم.
حُرّيّة التعبير
لقد سبق لي أنْ رأيت أنّ صاحب-ة الموهبة، مَن أراد بها أن يعبّر عن إحساسه لمجد الرب وأن يمجّد اسمه القدّوس بأسلوبه وأن يتقرّب إليه بطريقته، قد استعان بتفكيره وبموهبته وبالأداة المتوفّرة لديه، في وقت ترك الرب يسوع للإنسان حرّيّة العبادة وحُرّيّة التعبير. فمِن البداية وأساسًا؛ لم يُلزمْ يسوعُ أحدًا باٌتِّباعه ولا باٌعتناق المسيحيّة، بل قال: {مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ ويَتْبَعْني}+ مرقس 8: 34 ومتّى 16: 24 ولم يفرض على أحد طريقة ما، لا في الصَّلاة ولا الصِّيام ولا غيره. فمثالًا قول يسوع في الصَّلاة: {مَتَى صَلَّيْتَ فلا تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ، فإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الخَفَاء. فأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلانِيَةً... وحِينَمَا تُصَلُّونَ لا تُكَرِّرُوا الْكَلاَمَ بَاطِلاً كَالأُمَمِ… فصَلُّوا أَنْتُمْ هكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ…}+ مَتّى\6 وهو القائل: {حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ}+ مَتّى 18: 20
لذا فالكاتب استعان بقلمه والرسّام بريشته وهكذا النحّات والمرنّم والعازف وغيره. فمَن ذا الذي له الحقّ في منعي مِن رسم صورة ليسوع بالكلمات؟ بينما رسمها ليوناردو دافنشي بريشته وصوّرها ميكيلانجيلو بيده منحوتة. فهنا نَقْش وزخرفة وهناك مَن أنتج صورًا متحركة أو فيلمًا تلفزيونيًّا أو سينمائيًّا. فالحواسّ نعمة إلهيّة والخيال ما له حدود ولكلّ عمل هدف ما. فالقصيدة والخاطرة والصورة والمنحوتة وغيرها مستوحًى كل منها من الكتاب المقدّس وهي بالتأكيد صور رمزية وتعليميّة. بل من المستحيل أن يرسم فنّان صورة ما ليسوع طبق الأصل وإن منحته لجنة أدبية ما لقبًا من ألقاب الشَّرف كأمير الشعراء، أو منحته لجنة فنية ما لقب عظيم الفنّانين.
1 أنظر-ي ويكيبيديا: جسر تشارلز Charles Bridge
2 كتاب اللاهوت المقارن (1) لقداسة البابا شنودة الثالث- 90 الصور والأيقونات.
…..
في ج4 والأخير: صورة يسوع وصورة العذراء المنسوبة للوقا الإنجيلي.