توقفت هذه المرة عند محطة جديدة ما بين الكتاب المقدَّس وبين القرآن. وهذه الوقفة، وغيرها كثير، حصلت لسبَبَين: 1. إصرار المسلمين على الزعم بأن إله القرآن هو إله الكتاب المقدَّس ذاته، على رغم وجود صفات منسوبة لله في القرآن خالفت صفاته التي في الكتاب المقدَّس. مثالًا في هذه الوقفة: القَسَم الإلهي؛ هل يجوز أن يُقْسِمَ اللهُ بغير ذاته؟
2. اختلاف القرآن عن الكتاب المقدَّس بكثير ولا سيّما التعاليم السماوية وقصص الأنبياء والتاريخ ودقة الحدث ووضوح الرؤية والنبوءات. وسأضرب أمثلة دقيقة خلال وقفات لاحقة.
في وقت اعترض أحد الإخوة، على فيسبوك موقع لينغا، على عنوان القسم الأول من المقالة لاعتبارها القرآن كتابًا مقدَّسًا أيضًا. قلت جوابًا على اعتراضه: إنّ الأوّل مقدَّس عند الإخوة اليهود بعهده القديم ومقدَّس عندنا بعهدَيه الجديد والقديم. وأمّا الثاني فهو مقدَّس عند الإخوة المسلمين، وإن لم يعتبر بعضُ المسلمين غيرَهُم إخوةً بالإنسانية، وإن لم يحترم بعضُهُم مقدَّسات غيرهم.
1. القَسَم الإلهي في الكتاب المقدَّس
إنّ كلّ مَن قرأ الكتاب المقدَّس وَجَدَ أنّ الله أقسم، أو حَلَفَ، بذاته فقط. ولم يجدِ الخالق نازلًا إلى مستوى المخلوق ليحلف به. لأنّ الخالق بالتأكيد أسمى مستوى من المخلوق بالشأن وبكلّ شيء. والمزيد في مقالتي: إشارات إلى العهد القديم– ثالثا. أمّا هنا فسأضرب مِثالين من كلا العهدَين، بالإضافة إلى ما ضربت في مقالتي المذكورة؛ إذ ورد في العهد القديم (مثالًا: سِفر أشعياء\ الأصحاح 45) أنّ الله أقْسَمَ بذاته، وأنّ كلّ لِسان يجب أنْ يَحلِف بالله، لا غير الله:
22 تعالَوا إليَّ تَخلُصوا يا جميعَ شُعوبِ الأرض! فأنا أنا اللهُ ولا آخَرُ. 23 بذاتي أقسَمتُ صادِقًا، فمِنْ فَمي يخرُج الصِّدْقُ، وكلِمَةٌ مِنهُ لا ترجعُ: سَتَنحَني لي كُلُّ ركبَة، وبي سيَحلِفُ كُلُّ لِسان.
وورد في سِفر إرميا\ الأصحاح 49 تأكيد على أنّ الله أقسَمَ بذاته فقط:
12 وقالَ الرّبُّ: الذينَ لا يَستَحِقُّونَ أنْ يَشرَبوا كأسَ العِقابِ شَرِبوها الآنَ، فلِماذا أُبَرِّئُكَ أنتَ يا أدومُ؟ لا أُبرِّئك، بل تَشرَبُها أنتَ أيضًا، 13 لأنِّي بذاتي أقسَمْتُ، يقولُ الرّبُّ...
أمّا العهد الجديد فقد ورد فيه أنّ رئيس كهنة اليهود استحلف يسوع المسيح بالله الحيّ ولم يستحلفه بغير الله: {وأَمَّا يَسُوعُ فكَانَ سَاكِتًا. فأَجَابَ رَئِيسُ الكَهَنةِ وقالَ لَهُ: أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لنا: هَلْ أَنتَ المَسِيحُ ابْنُ الله؟}+ متّى 26: 63
وورد فيه أنّ الشيطان، حتّى الشيطان، استحلف يسوع بالله: {وصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيم وقال: مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللهِ العَلِيِّ؟ أَسْتَحلِفُكَ بِاللهِ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي! لأَنَّهُ قالَ لَهُ: اخْرُجْ مِنَ الإِنسَانِ يَا أَيُّهَا الرُّوحُ النَّجِس...}+ مرقس 5: 7-8
وورد فيه أنّ يعقوب الرسول نهى إخوتَه، والعالَمَ كلَّه ضمنيًّا، عن الحَلِف قائلًا بالوحي الإلهي في رسالته: {ولكِنْ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ يَا إِخْوَتِي، لاَ تَحْلِفُوا، لا بالسَّمَاءِ، ولا بِالأَرْض، ولا بِقَسَمٍ آخَرَ. بَلْ لِتَكُنْ نَعَمْكُمْ نَعَمْ، ولاَكُمْ لاَ، لِئَلاَّ تَقَعُوا تَحْتَ دَينونة}+ يعقوب 5: 12 وقد اقتبس الرسول هذه الوصيّة حَرفيًّا مِن عِظة السيد المسيح على الجبل في الإنجيل بتدوين متّى\ الأصحاح الخامس.
وقد يتفق كثيرون على أنّ الصادق، أو الموثوق به، لا يحتاج إلى القسم إذا تكلّم. أمّا الكذّاب، أو المشكوك في أخلاقه، فيصعب على النّاس تصديقه مهما أقسم.
2. قَسَم جديد منسوب إلى الله
قرأت في القرآن، كتاب الإسلام الذي ظهر بعد انتشار الكتاب المقدَّس بقرون عدّة، قَسَمًا منسوبًا إلى الله في عدد من السُّوَر القرآنية؛ ومنها التالية، بحسب تسلسلها في المصحف العثماني:- الطور: (والطُّورِ، وكِتَابٍ مَّسْطُور) والنجم: (والنَّجْمِ إِذا هَوَى) والقلم: (ن والقَلَمِ ومَا يَسْطُرُونَ) والمُرسَلات: (والمُرْسَلاتِ عُرْفًا، فالعَاصِفاتِ عَصْفًا...) والتكوير (واللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ، والصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) والبروج: (والسَّمَاء ذاتِ البُروج، واليومِ المَوعود) والفجر: (والفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ...) والشمس: (والشَّمْسِ وضُحَاها، والقَمَرِ إِذا تَلاها...) وسورة التين: (والتِّينِ والزَّيْتُونِ...) وغيرها. وهذا مرور سريع على بدايات هذه السُّوَر، القِصار نسبيًّا، ولم أبحث عن وجود قَسَم مماثل في بطون السُّوَر الطِّوال.
فمعلوم أنَّ الواو، أمام كل كلمة ممّا تقدّم، حرفُ جرّ، واٌسمُهُ: واو القَسَم، حيث القَسَمُ من معاني هذا الحرف، والكلمة ما بعده مجرورة وعلامة جرِّها الكَسْر أو الخفض. لذا واصلتُ البحث عن أوَّل قَسَم ممّا وَرَدَ في القرآن، ولم يكن البحث سهلًا، لأنّ ترتيب سُوَر مصحف عثمان قد اختلف عن ترتيبها الموافق وقتَ "نزول" كلّ سورة منها، بغضّ النظر عن نزولها كاملة في الوقت عينه أو متفرّقة ما بين مكّة والمدينة. فمثالًا؛ رُتبة سورة الفاتحة في هذا المصحف: الأولى، لكنّ أربع سُوَر "نزلت" قبلها، فرتبتها الخامسة حسب أسبقيّة النزول أو التنزيل. تليها سورة البقرة المرقمة 2 في المصحف لكنّ رقمها 87 في ترتيب النزول. وإليك سورة التكوير أيضًا؛ رقمها: 81 لكنّه 7 حسب الأسبقيّة المذكورة. والمزيد على مواقع الانترنت. فقلتُ متسائلًا: كيف ينسجمُ اختلافٌ ما، بين هذين الترتيبَين، مع المدوَّن في "اللوح المحفوظ" المذكور في آخِر سورة البروج؟
أمّا بعد فإليك ما اقتطفت من تفسير سورة القلم التي رقمها 68 في المصحف، بينما احتلّت المرتبة الثانية بحسب أسبقيّة النزول، ما يعني أنّ القَسَم المذكور قد ورد فيها أوَّلًا. وقد اخترتُ تفسير الطبري؛ نظرًا لثِقتي به ولقربه نسبيًّا من صدر الإسلام ولاعتماد كثيرين عليه، سواء أكانوا من المفسِّرين أم من الدارسين. فاقتطفتُ من تفسيره ثلاث نقاط: [1... وقال آخرون: (ن): قَسَمٌ أقسَمَ اللهُ به 2... والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان فصيحتان بأيَّتهما قرأ القارئ أصاب، غير أنّ إظهار النون أفصح وأشهر، فهو أعجب إليّ 3. وأمّا القلم فهو القلم المعروف، غير أنّ الذي أقسم به ربُّنا من الأقلام: القلمُ الذي خلقه الله تعالى ذكره، فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة...] انتهى.
فالإمام الطبري قد اعترف بأنَّ ربّه أقسم بالقلم. واعترف غيره بالقسم بـ ن.
وإليك دليلًا ثانيًا من تفسيره سورة التكوير: 17 [القول في تأويل قوله تعالى: واللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) أقسم ربُّنا جلّ ثناؤه بالليل إذا عسعس...] انتهى.
فاعترف الطبري كذلك بأنّ ربّه أقسم بالليل. فاكتفيت بهذين الدليلَين.
وقد ورد معنى القَسَم في معجم المعاني الجامع مستشهدًا صاحبه بالقرآن: [حلَف الشَّخصُ بالمصحف/ على المصحف: أقسَم. حَلَف المتّهمُ يمينًا أنّه بريء ممّا نسب إليه- (ذلِكَ كَفّارَةُ أَيمَانِكُمْ إذا حَلَفتُمْ)- من المائدة: 89 – (يَحلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرضُوكُمْ)- من التوبة: 62 ...] انتهى.
كلمة أخيرة
لا يقولَنّ أحد إنّ مصدر هذين الكتابين واحد! فما تقدّم، بالإضافة إلى محطّات المقالة السابقة وما يلحق من مثلها، من الأدلّة القاطعة بأنّ الذي أوحى بالقرآن غَيْر الذي أوحى بالكتاب المقدَّس. لكنّ المسيحيّين يحترمون إخوتهم بالإنسانية فلا يحتقرون غير المسيحيّين ولا يسبّون ولا يَصِفُون بصفات قاتلة ومؤذية ومشينة، كالكفر والنجاسة وإخوة القردة والخنازير. إنّما اقتدوا بمعلِّمهم الأوَّل إذ قال: {فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوا أَعمَالَكُمُ الحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَات}+ متّى 5: 16
وإذ حَذَّر قائلًا: {إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُستَوجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قالَ لأَخِيه: رَقَا، يَكُونُ مُستَوجِبَ المَجْمَعِ، وَمَنْ قالَ: يَا أَحمَقُ، يَكُونُ مُستَوجِبَ نارِ جَهَنَّمَ}+ متّى 5: 22 آمين.
ومعنى رَقا- عن الآراميّة: فارغ الرأس، بلا عقل. والمزيد من موعظة الجبل في الإنجيل بتدوين متّى\ الأصحاح 5 وفي الإنجيل أيضًا بتدوين لوقا\6
• تمّت في الخامس من سبتمبر-أيلول 2015
¤ ¤ ¤