شكرًا لجميع القرّاء الأحبّاء على متابعة هذه السلسلة، سواء لمن تفضل بالضغط على علامة الإعجاب (لايك) ومن تفضل بالتعليق على أية فقرة من محتوياتها. وقد وصلت إلى الأصحاح الثامن من الإنجيل، بتدوين متّى، وفيه عدد من الآيات (العجائب) التي صنع يسوع، مباشرة بعد نزوله من الجبل الذي ألقى عليه موعظته الشهيرة. وهنا علّق القدّيس جيروم قائلًا: (بعد إلقاء عظته وتعليمه، سنحت الفرصة لعمل معجزة، بها يثبّت العظة التي سُمِعت توًّا) والآيات هي إبراء كلّ من: أبرص وخادم قائد مئة وحماة بطرس واثنين من المجانين.
ـــ ـــ ـــ
الإشارة الأولى
هي في قصة الأبرص إذ {قد جاء وسجد له، قائلا: يا سيّد إنْ أردتَ تقدِر أن تطهّرني. فمَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ ولَمَسَهُ قائِلا: أُرِيدُ، فاطْهُر! ولِلوقتِ طَهُرَ بَرَصُهُ} وقد دوّنها أيضًا كلّ من مرقس 1: 40 ولوقا 5: 12 وقد سبق لي أن كتبت عن دلالة السجود المذكور في مقالة سابقة. وباختصار شديد؛ دلّ هذا السجود، أمام السيد المسيح، على وجود طبيعة إلهية في المسيح، بالإضافة إلى طبيعته الإنسانية، ما عدا الخطيئة.
أمّا بعد فقد رأى القدّيس أمبروسيوس في تطهير هذا الأبرص صورة رمزيّة حيّة لتطهير كل إنسان قادم إلى كلمة الله الحيّ، لينال منه تطهيرًا عن خطاياه (أنظر-ي تفسير تادرس يعقوب) لهذا يقول القدّيس: [في هذه الحادثة لم يعيّن البشير (مَتّى) اسم المكان الذي تمّت فيه المعجزة، مشيرًا إلى أنّ الذي شُفي لا ينتمي إلى مدينة معيّنة، وإنما لشعوب العالم أجمع... لم يُطهِّر الرَّبُّ أبرصًا واحدًا فحسب، إنّما طهَّر الكُلَّ قائلا: {أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلّمتكم به}+ يوحنّا 15: 3 فإنْ كان شفاء البَرَص يتم بواسطة كلمة الرب، فإن احتقار كلمة الرب هو البَرَص الذي يصيب الروح] وقال القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لم يقل فقط وإنما تبع القول العمل في الحال] آمين.
وبعدما طهر الأبرص {قالَ لَهُ يَسُوعُ: انْظُرْ أَنْ لا تَقُولَ لأَحَد. بَلِ اذْهَبْ أَرِ نفْسَكَ لِلكَاهِن، وقَدِّمِ القُربانَ الَّذِي أَمَرَ بهِ مُوسَى شَهَادَةً لَهُمْ} وفي قوله هذا إشارة إلى الوارد في التوراة: { وكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قائِلا: هذِهِ تَكُونُ شَرِيعَةَ الأَبْرَص: يَوْمَ طُهْرِهِ، يُؤْتَى بِهِ إِلَى الكاهِن...} سفر اللاويّين\ بداية الأصحاح الرابع عشر. وهنا علّق القدّيس كيرلّس الكبير بصيغة السؤال: [لماذا أمر يسوع ألّا يقول الأبرص لأحد؟ حتى يتعلّم الذين ينالون من الله موهبة الشفاء ألّا يطلبوا مديحًا ممّن يشفونهم ومجدًا من الآخرين، لئلا يسقطوا في الكبرياء...] وقال القدّيس أمبروسيوس: [عندما يراه الكاهن (اليهودي) يتحقّق من أنه لم ينل الشفاء حسب الناموس، لكن أبرَأَتْهُ نعمةُ الله التي تفوق الناموس] والأقوال كثيرة، لم اقتطف سوى قليل منها. فشكرًا بالمناسبة لآباء الكنيسة وخدّامها، سواء القدامى منهم والجدد.
ـــ ـــ ـــ
الإشارة الثانية
هي من خلال صنع يسوع معجزات لمجانين كثيرين ومرضى (متّى 8: 16) فأردف البشير: {لكي يتمّ ما قيل بأشعياء النبي: هو أخذ أمراضنا. وحمل أوجاعنا} وتحديدًا أشعياء 53: 4 (وفي ترجمة فان دايك: هُوَ أَخَذَ أَسْقامَنا) والمعنى واحد. فقد ذكر البشير اسم النبيّ (أشعياء) كما جرت العادة، بدون ذكر رقم الأصحاح وتاليًا رقم الآية. لكنّ دارس الكتاب المقدَّس يعرف الإشارة جيّدًا. والجدير ذكره هنا ما ورد في تفسير القمّص تادرس المذكور أعلى- بتصرّف: [يذكر معلّمنا متّى البشير أن السيّد المسيح، بعد عبوره إلى البرّ، شفى مجنونَين بكورة الجرجسيّين، بينما يذكر معلّمنا مرقس (5: 1) ومعلّمنا لوقا (8: 26) أنه شفى مجنونًا واحدًا بكورة الجدريّين، فهل هما حدث واحد أم أزيد؟ فإذْ كتب متّى لليهود ذكر "كورة الجرجسيّين" محدّدًا المدينة "جرجسة" التي تقع على الشاطئ الشرقي لبحر الجليل... أمّا القدّيسان مرقس ولوقا، إذْ كتبا للأمم، لم يهتمّا بالبلدة وإنما باٌسم المقاطعة كلها "كورة الجدريّين" ويبدو أن أحد المجنونَين كان شخصيّة معروفة هناك، وأن جنونه كان شديدًا بطريقة واضحة، فاهتم به القدّيسان لوقا ومرقس متجاهلَين المجنون الآخر] انتهى.
وتاليًا ردّ القمّص على صاحب الانتقاد القائل: (لماذا سمح الله للشيّاطين أن تذهب إلى قطيع الخنازير؟ ما ذنب هذه الخليقة؟ وما ذنب أصحابها؟) فمَن يريد معرفة الجواب، المدوَّن في معرض تفسير القمّص بأربع نقاط، فمِن السهل تصفّحه على الانترنت: تفسير تادرس يعقوب.
والآن؛ إذا رجعنا إلى نصّ قصّة المجنونَين: {ولَمَّا جَاءَ إِلَى الْعَبْرِ إِلَى كُورَةِ الجِرْجَسِيِّينَ، اسْتَقْبَلَهُ مَجْنُونانِ خارِجانِ مِنَ القُبُورِ هائِجانِ جِدًّا، حَتَّى لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقْدِرُ أنْ يَجْتازَ مِنْ تِلكَ الطَّرِيق. وإِذا هُمَا قد صَرَخا قائِلَينِ: «مَا لَنا ولَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللهِ؟ أَجِئتَ إِلى هُنا قَبلَ الوَقتِ لِتُعَذِّبَنا؟» وكانَ بَعِيدًا مِنْهُمْ قَطِيعُ خَنازِيرَ كَثِيرَةٍ تَرْعَى. فالشَّيَاطِينُ طَلَبُوا إِلَيْهِ قائِلِينَ: «إِنْ كُنْتَ تُخْرِجُنا، فأْذَنْ لنا أَنْ نذهَبَ إِلَى قَطِيعِ الخَنازِير» فقَالَ لَهُمُ: «امْضُوا» فخَرَجُوا ومَضَوا إِلَى قَطِيعِ الخنازِير، وإِذا قَطِيعُ الخَنازِيرِ كُلُّهُ قدِ اندَفَعَ مِنْ على الجُرُفِ إِلى البحر، وماتَ في المِيَاه. أَمَّا الرُّعَاةُ فهَرَبُوا ومَضَوا إِلَى المَدِينة، وأَخْبَرُوا عَنْ كُلِّ شَيءٍ، وعَنْ أَمْرِ المَجْنُونَيْن...}+ متّى 8: 28-33 نتعلّم دروسًا كثيرة. وقد نستنتج ما سبق لمفسِّري الكتاب المقدَّس رصده والتأمّل فيه وتحليله، لكن ما يهمّني الآن هو التالي:
1. لعلّ من الواضح أنّ الشياطين عرفوا يسوع جيّدًا، وظنّوا- بحسب القدّيس جيروم (أنّه جاء إليهم في ذلك الوقت ليحاكمهم) ولهذا صرخوا قائلين له {أَجِئْتَ إِلى هُنا قَبْلَ الوَقتِ لِتُعَذِّبَنا؟} ويوم المحاكمة (العقاب، الدينونة، القيامة) لم يحِنْ بعد. وفي هذا دلالة على أن الشياطين يعرفون أن المسيح هو الديّان الذي سيدين العالم المنظور والعالم الآخر غير المنظور، لأنّ الله الآبَ لن يدين أحدًا، إنّما أعطى الدينونة كلّها للإبن أي المسيح (يوحنّا 5: 22) آمين.
2. لعلّ من الواضح أيضًا أن المسيح، بطبيعته الإلهية، كان يرى الشياطين بعينيه ويسمع صراخهم. وهذا ما لم يظهر للناس المحيطة بالمجنونَين.
3. لم يقل المسيح للشياطين آمِرًا سوى كلمة واحدة «امْضُوا» فلم يحاكمهم على تنجيس الإنسان ولم يشتم ولم يلعن ولم يَرمِ شيطانًا منهم بحصاة ولم يرجم بحجر. إنّما أفعال المسيح أرقى من أفعال البشر بكثير وما يزال سلطانه أعظم سلطان وسيبقى إلى الأبد.
4. كان هدف يسوع شفاء المرضى الذين وفدوا إليه ومنهم المجانين. وقد حصلوا على نعمة الشفاء من يسوع مجّانًا. وقد أكّد يسوع، ممّا أكّد عليه، أن للإنسان قيمة مهمّة عند الله وأنّها أعلى من قيمة الخنازير ومن قيمة الشياطين. عِلمًا أنّ الشياطين بالمناسبة، وبالنسبة للمؤمنين بوجودها في عالم غير مرئي؛ قوى روحيّة شرّيرة ونشيطة، ذكرها الكتاب المقدّس في مناسبات عدّة بأنها- مثالًا- تحاول إبعاد الإنسان عن الله والحيود عن طريقه. لعل أبرز مناسبات ذِكرها في العهد القديم: تجربة أيّوب البارّ، وفي العهد الجديد: تجربة يسوع المسيح بصفته ابن الإنسان. وهي ما تزال تحاول تعثير الإنسان وإضلاله إلى يوم القيامة.
وقد خطرت في ذهني مسألة التقليد الإسلامي المسمّى "سُنّة" برجم الشيطان بالحجارة، على أنّ هذا الرجم (أو رمي الجمرات) بحسب موقع إسلام ويب- بتصرف: [يمارسه الحجّاج اقتداء برجم إبراهيم الشيطانَ، إذ (أنّ جبريل ذهب بإبراهيم إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ... إلخ)- مسند أحمد، من قصّة مرفوعة إلى رسول الإسلام وموقوفة على ابن عباس. لذلك قال ابن عباس، في رواية البيهقي، بعد أن ذكر القصة: (الشيطان ترجمون، ومِلّة أبيكم إبراهيم تتبعون) وقال الشيخ الشنقيطي (1905 - 1974) في تفسيره- أضواء البيان: فكان الرمي رمزًا وإشارة إلى عداوة الشيطان التي أمرنا الله تعالى بها في قوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّا...)- سورة فاطر:6] انتهى.
وتعليقي: 1. كان الرجم بحسب الشريعة الموسوية يُمارَس ضد الإنسان، أي ضدّ كائن مادّيّ حيّ ومرئيّ (أكَانَ إِنْسَانًا أَمْ بَهِيمَة- الخروج 19: 13) وليس ضدّ كائن روحيّ غير مرئي، عقابًا له على تجديفه على اسم الله تارة وعلى الزّنا تارة وغيره. فالشياطين ليسوا من الكائنات المادّيّة ولا المرئيّة ليصيروا أهدافًا للرّجم.
2. لا يوجد نصّ واحد في الكتاب المقدَّس لرجم الشيطان إطلاقًا.
3. إن قصّة إبراهيم القرآنية، المبعثرة في عدد من سور القرآن، مقتبسة عمومًا من أساطير يهوديّة، تمكن باحثون محايدون من كشف النقاب عنها، حتّى أنّ إبراهيم الخليل لم يصل يومًا إلى مكّة! فلا يوجد دليل تاريخي واحد على سفر إبراهيم إلى مكة وتاليًا بناء قواعد الكعبة مع ابنه إسماعيل. والبحوث متيسّرة على الانترنت.
والمهمّ عندي أن القصّة القرآنية المنسوبة إلى إبراهيم الخليل مختلفة كثيرًا عن قصّته المُنَظَّمة تاريخيًّا في الكتاب المقدَّس، وتحديدًا التوراة- سِفر التكوين. لذا لم أستغرب ما قرأتُ في ويكيبيديا- جمرة- عن سُنّة رمي الجمرات الثلاث طوال أيام الحجّ، على الشيطان القابع إلى أجل غير مسمّى، في مِنى، شرقيّ مكة. والجَمْرَةُ في معجم المعاني الجامع: الحَصَاةُ الصَّغيرة. ومجموعُ الحَصَى سبعون، أو تسع وأربعون حَصاةً لمَن تَعَجَّل (فمَن تَعَجَّل في يومين فلا إثم عليه ومَن تأخّر فلا إثم عليه لمن اتقى...)- البقرة:203 على أن يُكبِّر الحاجّ مع كل حصاة (الله أكبر) والحجّاج يُعَدُّون سنويًّا بالملايين.
* تمّت كتابتها في السابع من أكتوبر 2015.