يتضمّن الأصحاح الثاني عشر، في الإنجيل بتدوين متّى، خمس نقاط رئيسية؛ 1 إلقاء المسيح ضوءً على روح الشريعة أمام الفَرِّيسِيِّينَ حينما قالوا له إن تلاميذه قطفوا سنابل وأكلوا، ما لا يحلّ عمله يوم السبت 10 إبراء المسيح رَجُلًا يابس اليد في السبت 22 إبراؤه مجنونًا أخرس وأعمى فتكلّم وأبصر 38 جوابه على سؤال الكتبة والفريسيين إذْ طلبوا إليه أن يريهم آية- معجزة 50 ألّا تَحُول تعلّقات الطبيعة دون خدمة الله! فكلّ مَن يعمل مشيئة الله هو أخو المسيح وهي أخته وهي أمّه. وتاليًا توجد في هذا الأصحاح خمس إشارات إلى العهد القديم، هي التالي:
ـــ ـــ ـــ
الإشارة الأولى
في قول المسيح: {أمَا قَرَأْتُمْ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ جَاعَ هُوَ والَّذِينَ مَعَهُ؟ كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللهِ وأَكَلَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ الَّذِي لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لَهُ ولاَ لِلَّذِينَ مَعَهُ، بَلْ لِلكَهَنَةِ فقطْ}+متّى 12: 3-4 مشيرًا إلى سِفر صموئيل الأوّل 21: 6 وإلى سِفر اللاويين 24: 5-9 عِلمًا أنّ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ هو الإثنا عشر رغيفًا الموضوعة قدّام قدس الأقداس في هيكل الله.
الإشارة الثانية
في قول المسيح: {أَوَمَا قَرَأْتُمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ الْكَهَنَةَ فِي السَّبْتِ فِي الْهَيْكَلِ يُدَنِّسُونَ السَّبتَ وهُمْ أَبْرِيَاء؟}+متّى 12: 5 ومعنى قوله أبرياء: لا خطيئة محسوبة عليهم مِن جرّاء هذا العمل. والإشارة إلى سِفر العدد 28: 9
الإشارة الثالثة
في قول المسيح: {فلَوْ عَلِمْتُمْ مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحةً، لَمَا حَكَمْتُمْ عَلَى الأَبرِيَاء!}+متّى 12: 7 والإشارة إلى سِفر صموئيل الأوّل 15: 22 وسِفر هوشع 6: 6 وسِفر الجامعة 4: 17 وهذه (أي آية الجامعة 4: 17) موجودة في بعض ترجمات الكتاب المقدَّس المنشورة على الانترنت، كالمشتركة والكاثوليكية، بينما لم تدوَّن في ترجمة فاندايك المنشورة على الانترنت ولا في كتاب الحياة، ولا أدري السبب. عِلمًا أنها الآية الأخيرة في هذا الأصحاح. لذا اقتضى التنويه.
الإشارة الرابعة
في قول المسيح: {أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ يَكُونُ لَهُ خَرُوفٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ سَقَطَ هذا فِي السَّبْتِ فِي حُفْرَةٍ، أَفَمَا يُمْسِكُهُ وَيُقِيمُهُ؟ فالإِنسَانُ كَمْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْخَرُوفِ! إِذًا يَحِلُّ فِعْلُ الخَيرِ في السُّبُوت}+ متّى 12: 11-12 والإشارة إلى التثنية 22: 4
أمّا بعد فقد اقتطفت من تفسير القمّص تادرس يعقوب ما معناه: [لقد سمح السيّد المسيح لتلاميذه بأن يقطفوا سنابل للأكل في السبت، ما أثار حفيظة الفرّيسيّين (1) فهُمْ لم يعترضوا على قطف سنابل الغير، لأنّ الشريعة في التثنية 23: 25 قد سمحت به محبة ورحمة، لكنهم اعتبروا هذا نوعًا من الحصاد والتذرية (2) الممنوعَين يوم السبت. لذا أراد السيّد أن يرتفع بالفرّيسيّين إلى ما فوق مفهوم السبت الحرفي، كاشفًا لهم أنّ الله، حتى في السبت، قد سمح بأفعال المحبة والرحمة والخير التي تبدو في حَرفيّتها محرَّمة. كذا داود النبي والملك؛ ما كان متهاونًا بالوصيّة ولا متراخيًا، لكن لم يكن أمامه طريق آخر! فلم يُحسب بأكلِه من ذلك الخبز كاسرًا الوصيّة سواء هو ومَن معه. عِلمًا أنّ السيّد المسيح قدَّسَ السبت بقوله عن نفسه، في الآية التالية مباشرة، إنه رَبُّ السَّبْت] انتهى.
ولم ينشغل السيد عن عمل الخير، على رغم اعتراض الفرّيسيّين! فنقرأ في الآية التالية مباشرة أيضًا: {ثُمَّ قالَ لِلإِنسَان: مُدَّ يَدَك. فمَدَّها. فعَادَتْ صَحِيحَةً كالأُخرى} آمين.
الإشارة الخامسة
نقرأ تاليًا في الآية 14 من الأصحاح وما بعدها: {فلَمَّا خَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ تَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ، فعَلِمَ يَسُوعُ وانصَرَفَ مِنْ هُناك. وتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ فَشَفَاهُمْ جَمِيعًا. وأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُظْهِرُوهُ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعياءَ النَّبيّ القائِل: هُوَذا فَتايَ الَّذِي اخْتَرتُهُ، حَبيبي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفسِي. أَضَعُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْبِرُ الأُمَمَ بالْحَقّ...} وقول إشعياء النَّبيّ مدوَّن في سِفره، وتحديدًا بداية الأصحاح 42
أمّا بعد فقد تخطر في ذهن القارئ-ة الأسئلة الأربعة التالية عمّا تقدَّم:
1. لماذا أراد الفريسيون قتل السيد المسيح؟
والجواب: حسدًا! لأن حجّة السيد كانت أقوى من حجّتهم، كما جرت العادة، وتعليمه أسمى من تعليمهم. فقد نظر السيد في أعماق الشريعة، مبيِّنًا معناها الجوهري وهدفها السّامي. أمّا هم فلم ينظروا إلى أعمق ممّا على سطحها وتقيَّدوا بالحرف واهتمّوا بالمعنى الظاهري. وهنا؛ قال القمّص تادرس في تفسيره: [لمّا حسد إخوة يوسف أخاهم تمجّد هو، أمّا هم ففقدوا سلامَهمْ] وقد أضاف إلى تفسيره قول القدّيس يوحنّا الذهبي الفم في الحسد: [إنك لا تضر مَن تحسده وإنما تضرب داخلك بالسيف] وأضاف أيضًا قول القدّيس باسيليوس الكبير: [كما يُفسِد الصدأ الحديد، هكذا يبدّد الحسد النفس التي يسكنها ويهلكها تمامًا. فالحسد ألمٌ ينبع عن نجاح الغير، لذا فإنّ الحاسد لن يعيش بغير ألم ولا تفارقه كآبة الذهن] انتهى
2. كيف عَلِم يسوع بما تشاور الفريسيّون؟
والجواب: لأنّ يسوع ربّ! أنْ {ليس أحد يَقْدِرُ أن يقول "يسوع رب" إلّا بالروح القدس}+1كورنثوس 12: 3 والرب {هُوَ الفاحِصُ الكُلَى والقُلُوب}+رؤيا 2: 23 لذا عَلِم ما في قلوبهم في أزيد من مناسبة وسَمِع تشاورهم، ما لم يخطر في بال أحد منهم.
3. لماذا انصرف يسوع من هناك؟
والجواب: لأسباب عدّة؛ منها أوّلًا: {لَمْ يُرْسِلِ اللهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ}+يوحنّا 3: 17 ثانيًا: أن ساعته، أي ساعة تسليمه لليهود، لم تأتِ بعد. ثالثًا: لم ينصرف عنهم خوفًا- حاشا- لأنّ سلطانه عظيم (3) رابعًا: لتعليم السيد المسيح أتباعه عرض الخدّ الآخر في الخصام (لوقا 6: 29) خدّ المحبة مجبولًا بالوداعة والتسامح والعفو عند المقدرة، فهو القائل: {اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ}+ متّى 11: 29 خامسًا: لكي يعلِّم أتباعه ألّا يقاموا الشّرّ، بل الانصراف عنه والابتعاد والهرب. ومعلوم أن العائلة المقدَّسة قد هربت إلى مصر لأَنَّ هِيرُودُسَ المَلِك كان مُزْمِعًا أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ (متّى 2: 13) فمكتوب: {ليَ النَّقْمَةُ أَنا أُجَازِي يقول الرب}+رومية 12: 19 في العهد الجديد والتثنية 32: 35 في العهد القديم.
والسؤال الرابع والأخير: لماذا أوصى ألّا يُظْهِرُوهُ؟
والجواب بقلم هنري أ. أيرونسايد: [تبعَتْ يسوعَ جماهيرُ غفيرة من عامّة الشعب. كثيرون منهم كانوا مرضى، شفاهم جميعًا. لكنّه أوصاهم ألا يُذيعوا أنباء قدرته المذهلة والعجيبة. فهو لم يأتِ لكي يُثير دهشة في أذهان الناس بقدرته على صنع المعجزات، بل جاء ليُظهِر تلك الوداعة والتواضع اللذين كان أشعياء النبي قد تنبأ بأنّهما سيتجلَّيان في المَسِيّا عندما يظهر] انتهى.