هذه الوقفة تخصّ البقرة. يوجد للبقرة، الحمراء تحديدًا، ذِكرٌ خاصّ بها في التوراة، ممّا يرمز إلى ذبيحة فداء السيد المسيح على الصليب. وذِكر مشترك لها مع الغنم والمعزى في سلسلة ذبائح الشكر المقدَّمة لله في العهد القديم وذبائح التكفير عن الخطيئة. أمّا في القرآن فتوجد سورة كاملة باٌسمها، هي أطول سُوَره، وإن كان المتعلِّق بها سبع جُمَل، أو عبارات أو فقرات، من بين 286 جملة. فإذا حسبت نسبة الجُمَل السبع إلى المجموع فإنها حوالي 2,5% عِلمًا أنّ أسماء السور القرآنية (التي اضطربت أقوال الرواة فيها)- بحسب "الشخصية المحمدية" للرصافي - وُضِعتْ بتوقيف مؤلّف القرآن عليها، والمزيد في كتاب الرصافي المذكور (1) وإذا ما سألتني: لماذا لا تسمّي جملة القرآن "آية" قلت: لأنّ من معاني الآية المعجزة، ولا إعجازَ في القرآن إلّا في ظنون الجهلة باللغة العربيّة وآدابها ما قبل الإسلام، وقطعًا لا معجزة لمؤلِّفه إلّا في روايات موضوعة وضعيفة ومزيَّفة.
وقد ذكرت في ج7 من هذه السلسلة أنّ علينا تفتيش الكتب، بحسب وصيّة السيد المسيح (يوحنّا 5: 39) وعلينا أيضًا الاستعداد لمجاوبة السائلين بوَدَاعَةٍ وَخَوف (بطرس الأولى 3: 15-16) فوجدتُ بعد التفتيش، ممّا في ج6 من السلسلة، اختلاف رواية القرآن عن رواية ولادة المسيح الإنجيلية، في قسمه الأوّل. واختلاف رواية القرآن عن رواية معجزة المسيح الإنجيلية بتكثير الخمسة أرغفة والسمكتين، في قسمه الثاني. حتّى أنّ المائدة، المسمّاة سورة طويلة بها، لا وجود لها في معجزة المسيح. فالنتيجة النهائية هي أن روايات القرآن قد اختلفت عن أصولها التي في الكتاب المقدَّس المفصَّلة بترتيب تاريخي ووضوح. لهذا السبب استحال تطابق مصدر الكتاب المقدَّس مع مصدر الوحي القرآني، في وقت عَلِم بمصادر القرآن عددٌ من أقطاب المعرفة وأعلام البحث. وما بات اعتبار مصدر الكتابين واحدًا إلّا ضَربًا مِن تمنّي بعض المسلمين وعلامة جهل معجون بالسفاهة أحيانًا.
رواية البقرة الحمراء في التوراة
وجدت رواية في سفر اللاويّين منها، شملت البقرة والغنم والمِعزى، كما تقدَّم، بينما وجد تأكيد على البقرة الحمراء في سفر العدد منها. والمهمّ هو ما حملت البقرة، وسائر الذبائح الحيوانية، من رموز إلى العهد الجديد، وتحديدًا فداء المسيح الذي حقّقه بنجاح تامّ على الصَّليب، مانحًا الخلاص لكلّ من يؤمن به فاديًا ومخلِّصًا، وثمرة الخلاص الحياة الأبدية.
الرواية الأولى:
{مَتَى وُلِدَ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ أَوْ مِعزًى يَكُونُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ تَحْتَ أُمِّه، ثُمَّ مِنَ الْيَوْمِ الثَّامِنِ فصَاعِدًا يُرْضَى بِهِ قُرْبَانَ وَقُودٍ لِلرَّبّ. وَأَمَّا الْبَقَرَةُ أَوِ الشَّاةُ فلاَ تَذبَحُوهَا وابنَها في يَوْمٍ وَاحِد. ومَتى ذبَحتُمْ ذبيحَةَ شُكرٍ لِلرَّبّ، فلِلرِّضَا عَنْكُمْ تَذبَحُونها}+سِفر اللاويّين 22: 27-29
وإليك تفسير القمّص تادرس يعقوب باختصار وتصرّف بسيط، عِلمًا أنّك لن تجد اختلافًا جوهريًّا عن تفسيره في أيّ كتاب تفسير آخر: [في دراستنا للذبائح؛ رأينا التزام المؤمن بتقديم الذبيحة صحيحة بلا عيب، وغنيّ عن البيان أن الله لا يطلب كثرة الذبائح بل نوعيتها، إذ هي تمثل السيد المسيح نفسه الذي بلا عيب، القادر وحده أن يرُدّنا إلى أبيه لينزع كل عيب فينا، واهبًا إيانا الحياة المقدسة فيه. هذا وقد اشترط ألّا يقدَّم حيوان كذبيحة ما لم تكن ماضية عليه سبعة أيام تحت أمّه راضعًا، فمن اليوم الثامن فصاعدًا يمكن تقديمه قربانًا للرب. ولعل الحكمة من ذلك أن كثيرًا من الحيوانات تحزن بمرارة إمّا نُزع رضيعها في الأيام الأولى، كأنّ الله يرفق حتى بالحيوان الأمّ فلا يحزنها خلال تقديم قربان له.
هذا وكان اليهود يعتقدون أنّ لحم الحيوانات الرضيعة لا تصلح للأكل في أسبوع ولادتها الأول، فما لا يصلح للإنسان لا يقدَّم ذبيحة لله! أخيرًا فإن في بقاء الرضيع سبعة أيام، ليذبح في اليوم الثامن فصاعدًا، إشارة إلى تقديسه، إذ يمرّ عليه سبت فيتقدَّس.
طالبهم أيضًا ألا يقدِّموا حيوانًا وأمّه في يوم واحد. فلعلّ الحكمة من هذا أنه أراد لهم أن يكونوا مترفقين بالحيوانات؛ فقد جاء في سفر الأمثال 12: 10 {الصِّدِّيق يُراعي نفس بَهِيمتِه} ولعلَّه أراد أن يحثّهم على الإهتمام بالروابط الدموية حتى بتقديم الذبائح بين الحيوانات] انتهى
الرواية الثانية:
{وقال الرَّبُّ لِمُوسَى وَهَارُونَ: هذِهِ فرِيضَةُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أَمَرَ بها الرَّبُّ قائِلا: كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَأْخُذُوا إِلَيْكَ بَقَرَةً حَمْرَاءَ صَحِيحَةً لاَ عَيْبَ فِيهَا، وَلَمْ يَعْلُ عَلَيْهَا نِيرٌ، فتُعطُونها لأَلِعازارَ الكاهِن، فتُخْرَجُ إلى خارِجِ المَحَلَّةِ وتُذبَحُ قُدَّامَه}+العدد 19: 2-3
وفي تفسير تادرس يعقوب أيضًا وباختصار: [أوّلًا: البقرةُ المقدَّمةُ كذبيحةِ خطيّةٍ حمراءُ، إشارة إلى السيد المسيح الذي قدّم دَمَهُ كفّارة عن خطايانا، هذا الذي يتحدَّث عنه إشعياء النبي قائلًا: {مَن ذا الآتي من أدوم، بثيابٍ حُمر مِن بُصرة؟ هذا البهيّ بملابسه، المتعظّم بكثرة قوته. "أنا المتكلِّم بالبِرّ العظيم للخلاص" ما بالُ لباسِك مُحمَرّ، وثيابك كدائس المعصرة؟ قَد دُستُ المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد...}+إشعياء 63: 1-3 هذا هو السيد المسيح الذي دخل الآلام بإرادته، واجتاز معصرة الغضب الإلهي عنّا، فحَمَل في جسده أجرة خطايانا، مقدِّمًا لنا خلاصًا هذا مقداره!
ثانيًا: {صحيحة لا عيب فيها ولم يعلُ عليها نير} فإنّ ربَّنا يسوع المسيح هو وحده بلا خطيّة، ليس فيه عيب ولم يسقط تحت نير خطيّة ما. لقد وبَّخ اليهود قائلًا: {مَن مِنكم يبكّتني على خطيّة؟}+يوحنّا 8: 46 ويقول الرسول بولس {لأنه جَعَلَ الذي لم يعرف خطيّة، خطيّة لأجلنا، لنصير نحن بِرَّ الله فيه}+كورنثوس الثانية 5: 21 ... إلخ] انتهى
رواية البقرة في القرآن
إليك ما تعلّق بالبقرة في سورة البقرة. ومعاني بعض الكلمات ما قد يصعب فهمه؛ قمت باستخراجها من معاجم عربية إسلامية، موفّرًا على القرّاء عناء البحث والوقت. ثمّ محور التفسير الإسلامي. وتاليًا تعليقي المتواضع.
أوّلًا؛ النصّ المتعلق بالبقرة، ابتداء بجملتين ممّا سبقه، كي لا يُقال إنّ الكاتب اقتطع نَصًّا مِن سياقه، إنما هذا من أفعال منتقدي الكتاب المقدَّس فإنّهُمْ لَمُفلِسون:
65 ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قِرَدة خاسئين.
66 فجعلناها نَكالًا لِما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين.
67 وإذْ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتّخذُنا هُزُوًا قال أعوذ بالله أنْ أكون مِنَ الجاهِلِين.
68 قالوا ادعُ لنا رَبَّكَ يُبَيِّن لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارِضٌ ولا بِكْرٌ عَوَانٌ بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون.
69 قالوا ادعُ لنا رَبَّكَ يُبَيِّن لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقِعٌ لونها تَسُرُّ الناظرين.
70 قالوا ادع لنا رَبَّكَ يُبَيِّن لنا ما هِيَ إِنَّ البَقَرَ تشابَهَ علينا وإنّا إنْ شاء الله لَمُهتدون.
71 قال إنه يقول إنها بقرة لا ذَلُولٌ تثير الأرضَ ولا تسقي الحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون.
72 وإذْ قتلتُمْ نفسًا فادَّارأْتُمْ فيها والله مُخرِجٌ ما كنتم تكتمون.
73 فقُلنا اضربوه ببعضها كذلك يُحيي الله الموتى ويُريكم آياته لعلكم تعقلون.
ثانيًا؛ المعاني:
[النَّكَالُ : العقاب أو النازلة]- المعجم الوسيط.
[هُزُوًا: هُزْءً، مَهْزَأة. بَقرَةٌ فارِضة: كبيرةُ السِّنّ. عَوان: ما كان في منتصف السِّنّ من كُلِّ شيء. ج: عُون]- اللغة العربية المعاصر.
[الفاقِعُ: اللونُ الصافي الناصِع، وغَلَبَ في الأصفر]- المعاني الجامع.
[جَوادٌ ذَلولٌ: سَهْلُ الاِنقياد]- المعجم: الغني.
[تُثير الأرض: تقلب الأرض للزّراعة]- المعجم: كلمات القرآن.
[مُسَلَّمَة: خالية من العيوب. الشِّيَة: العلامة. سوادٌ فى بياض، أو بياضٌ في سواد. كلُّ ما خالف اللَّون في جميع الجسد وفي جميع الدوابّ]- المعاني الجامع
[ادَّارأ القومُ اختلفوا وتدافعوا في الخصومةِ ونحوِها]- عربي عامة واللغة العربية المعاصر.
ثالثًا؛ التفسير الإسلامي:
روايات البقرة المقصودة في السورة مختلفة، كما جرت العادة لدى المفسِّرين (2) لكن محور الروايات يكاد يكون واحدًا. هو بحسب فهمي وباختصار شديد: تلقّى موسى النبي أمرًا من الله بذبح بقرة، فدية عن شخص مقتول، فاعتبر بنو إسرائيل موسى مستهزئًا بهم، إلى أن ذكر لهم مواصفاتها فاقتنعوا فذبحوها.
رابعًا؛ تعليقي:
لا أدري من أيّ كتاب، أو مُحدِّث يهودي، أتى مؤلِّف القرآن برواية البقرة الصفراء حتّى جعلها من الوحي المنسوب إلى الله. لذا أدعو القرّاء الكرام، ممّن يجيدون اللغة العبريّة، البحث عن رواية موسى والبقرة الصفراء في التلمود תלמוד والمِشناه במשנה وكتابة المصدر (اسم الكتاب والفصل ورقم الصفحة) في هامش التعليق على هذه المقالة لطفًا. وفي المقابل؛ لا أدري من أين أتى أهل التفسير الإسلامي برواياتهم، لم يُذكَر في "البقرة" سببُ أمرِ الله نبيَّه موسى بأن يذبح بنو إسرائيل بقرة. ولم يُقِمْ موسى القتيلَ من الموت إلى الحياة لكي يتعرّف إلى قاتله، ثمّ عودة القتيل إلى الموت- حسب إحدى الروايات- بل لا توجد في أرشيف موسى النبي معجزة إحياء ميت- حسب الكتاب المقدَّس.
أمّا في مواصفات البقرة الصحيحة (أي التي لا عيب فيها) فرمز إلى كمال السيد المسيح، بطبيعته الإنسانية المنزَّهة عن أيّة خطيئة. وأمّا تقديم البقرة للذبح فيرمز إلى تقديم المسيح ذبيحة إلهية على الصَّليب، كفّارة عن خطايا البشر أجمع، حتّى تحققت فيه النبوءة القائلة: {ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْح، وكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جازِّيهَا فَلَمْ يَفتَحْ فاه}+إشعياء 53: 7
والجدير ذِكره أنّ في لون البقرة الأحمر رمزًا إلى لون دم الإنسان. وتحديدًا الدم الذي تخضّب به جسد السيد المسيح في طريقه إلى الجلجثة وعلى الصَّليب؛ سواء بجَلده وبوضع إكليل مِن شوك على رأسه وبطعنه بحَربة. ومعنى تَخَضَّبَ بالدَّم: تَلَطَّخَ به. لهذا السبب أَمَرَ الرَّبُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَأْخُذُوا إِلى موسى النبي بَقرَةً حَمْرَاء. فلم تكن البقرة بلون أصفر فاقع! ولا غيره سوى الأحمر.
أخيرًا، رأيت أنّ مؤلِّف القرآن قد حشر قرآنه في ما لا يعنيه بشيء، لا من قريب ولا من بعيد؛ كرواياته عن ولادة يسوع المسيح في "مريم" وفي "آل عمران" وعن معجزة تكثير الخمسة أرغفة والسمكتين في "المائدة" حتّى جعل المفسِّرون العدد سبعة أرغفة وسبعة أحوات (أي حيتان) وعمّا أشارت إليه ذبائح العهد القديم في "البقرة" فلا بُدَّ يومًا من ظهور الحقّ وزُهوق الباطل أنْ {لَيْسَ خَفِيٌّ لاَ يُظْهَرُ، وَلاَ مَكْتُومٌ لاَ يُعْلَمُ وَيُعلَن}+لوقا 8: 17
قلت في النهاية، في ضوء احترامي حقوق الإنسان: ليت مؤلِّف القرآن اكتفى بتقديم دين جديد لأتباعه، بدون التعرّض لمقدَّسات الآخَرين بسوء، وبدون الاعتداء عليهم لمبرِّرات دينية، سواء أكانوا موحِّدِين أم مشركين أم ملحِدين، مثلما تركوه ليجاهر بدينه آمِنًا، في وقت عجز من الرّدّ على معارضيه بغير الترهيب والاغتيال.