تكلمنا في المقال السابق عن الإيمان والان سنتناول التوبة بشرح مركز مع أمثلة.
يقول هارولد فرليك في كتابه ( أعمدة الخلاص الثمانية ): ( إن التوبة هي أن يتحقق الفرد من خطيّته ويرجع عنها باعترافه بها إلى الله مؤمنا بالمسيح ).
التّوبة ليست النّدامة. وليست الحزن على خطايانا والبقاء فيها. يمكننا أن نشعر بالخطيّة دون أن نعمل على تركها. والفرق بين النّدامة والتّوبة ظاهر في قصة الغني ولعازر. صرخ الغنيّ في جهنّم من أجل الرّحمة (راجع قصته في لوقا 16). كان نادما على ما فعل ولكن كان قد فات وقت التّوبة. والّذين لا يتوبون اليوم سيكون لهم حتما يوم ندم ولا توبة. سيتمنّون أن تقع الصّخور عليهم فتغطّيهم لأنّهم لم يرجعوا عن خطياياهم ولم يتوبوا.
التّوبة تعني تغيير الفكر وهي على نوعين كما يقول سبرجن: ( شرعيّة وهي الخوف من الدينونة وإنجيليّة وهي الخوف من الخطيّة. الأولى هي خوف من غضب الله والثانية هي خوف من الخطيّة الّتي تسبب غضب الله ).
الرّبّ يدعونا كي نؤمن ونتوب وفي تلبيتنا الدعوة الإلهيّة نجد خيرنا وسعادتنا وحياتنا. وها هو متى العشّار يلبّي الدّعوة ويتبع يسوع ويقتفي خطواته. " وبعد هذا خرج فنظر عشّارا اسمه لاوي جالسا عند مكان الجّباية فقال له اتبعني فترك كلّ شيء وقام وتبعه " )لو 5 : 27 (. فالخاطئ يسلك طريق الشّرّ مقتفيا خطوات إبليس ونهايته كما قال الكتاب : " من يتبع الشّرّ فإلى موته ") أم 11 : 19(. والتّائب يسلك طريق الخير طريق الرّبّ يسوع ويتبعه ونهايته الحياة الأبديّة.
التوبة ليست كلاما نكرره حتى يصبح لغوا لا قيمة له. بل تعني أن نترك الظّلمة ظلمة الخطيّة ونسلك في النّور " أيّة شركة للنّور مع الظّلمة "
( 2 كو 6 : 14 ). قبلا كنّا في ظلمة ( أف 5 : 8 ) كنّا لا نعرف الحقيقة لا عن أنفسنا ولاعن مصيرنا ولا عن السماء. وبعد توبتنا ورجوعنا إلى راعي الخراف العظيم ( عب 13 : 20 ) صرنا في نور الرّبّ الّذي أنار لنا خفايا الظّلام وهو القائل له كلّ المجد : " أنا هو نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة " )يو 8 : 11(. كنا نتمرد على الله رغم الصوت الداخلي فينا الّذي كان يحذّرنا وينبّهنا. كنا نفعل ذلك تحت تأثير إبليس رئيس سلطان الهواء ( أف 2 : 2) الّذي استعبدنا ودفعنا في طريق الخطيّة والشّر " كلّ من يعمل الخطية فهو عبد للخطيّة " )يو 8 : 34 (. غير أنّنا بعد توبتنا وإيماننا شرعنا نسلك طريقا آخر تحت تأثير وإرشاد الرّوح القدس. وصار بإمكاننا أن نشهد أنّ المسيح أعتقنا من عبوديّة إبليس والخطيّة لن تسود علينا فيما بعد " فإن حرّركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارا " )يو 8 : 36 (.
..علينا أن نحسب حساب النّفقة قبل أن نبدأ السّير في هذا الطّريق. منتبهين إلى ضرورة لجم الجسد والانقياد للرّوح. علينا أن نفكّر وننظر في أيّ طريق نحن سائرون. أفي طريق الخير أم في طريق الشّرّ؟ هل نخطئ من وقت لآخر ونقول :الله غفور رحيم ؟ أين توبتنا إذاً ؟ هل يوجد في السّماء غير التّائبين ؟ ما هي أعمالنا وما هي ثمارنا ؟ لأنّه " من ثمارهم تعرفونهم " )مت 7 ؛ 16 (. علينا أن نحكّم عقولنا ونحن نبني بيتنا الأبديّ. وأن نؤسّسه على الصّخر. صخر الدّهور الّذي هو الرّبّ يسوع المسيح لا على رمال البشر وتعاليمهم. وهذا ما نحصل عليه بالإيمان بمن أحبّنا أوّلا واشترانا بدمه ليجعل من جميع المؤمنين شعبا مختارا له..
ينبغي أن نشفق على الّذين رفضوا التّوبة. وأن نشفق على الّذين تارة هنا وتارة هناك ولا يعلمون أنّ هذا مرفوض من الله الّذي لا يقبل بالخطيّة عن معرفة وتصميم أبدا. لأنّ مصيرهم العذاب الأبديّ في الهاوية حيث لا ينفعهم صراخهم وطلبهم الرّحمة من هناك. لقد غدا واجبا علينا بحسب المشيئة الإلهيّة أن تأخذنا الشفقة على هؤلاء الّذين لم يستفيدوا من دم المسيح بل رفضوه مفضّلين البقاء في الخطيّة طيلة حياتهم على وجه الأرض لا يشبعون منها سواء يحملون اسم المؤمن أو لا يحملونه.
وهنا نسأل ! من الّذي ينبغي عليه أن يتوب ؟ لا سيّما إن كنت من الّذين يظنّون أنّ التّوبة ليست لهم وأنّهم ليسوا بحاجة إليها : كلمة الله تقول لك. الجّميع عليهم أن يتوبوا. أجل الجّميع وبدون استثناء : " فالله الآن يأمر جميع النّاس في كلّ مكان أن يتوبوا متغاضيا عن أزمنة الجهل " )أع 17 : 30 (.
كما أنّ الخطيّة تشمل الجّميع هكذا ينبغي أن تشمل التّوبة الجّميع أيضا. وأرجو أن تعلم أيضا أنّ التّوبة كالإيمان كلاهما عطيّة من الله. " بالنّعمة أنتم مخلّصون بالإيمان وذلك ليس منكم هو عطيّة الله " )أف 2 : 8 (. كذلك التّوبة يقول فيها " غير عالم أنّ لطف الله إنّما يقتادك إلى التّوبة " )رو 2 : 4 (. ويعلّمنا الكتاب أيضا " عسى أن يعطيكم الله توبة لمعرفة الحقّ ") 2تي 2 : 25 (. فان كنت تشعر بالضّعف والخوف من أنّك لا تستطيع التّوبة فاطلب من الرّبّ أن يهبك القوّة ليكون لك ذلك وبالتأكيد إن كنت تطلب من كلّ قلبك سيكون لك. قال النبيّ قديما " توّبني يا إلهي فأتوب إليك ") أر 31 : 18 (. وقال الكتاب أيضا. " اطلبوا الرّبّ ما دام يوجد ادعوه وهو قريب " )اش 5 : 6 (.
.. إنّ الله يدعوا جميع البشر كأفراد وجماعات قائلا : قد أخليت نفسي وأخذت صورة عبد وصرت في شبه النّاس لأموت فدية عنك أيّها الإنسان وأخلّصك من الجّحيم. فتب عن خطاياك وارجع إليّ تائبا فتخلص. إنّ الفرصة مهيّأة لك الآن لأنّ الله وعد أن يتغاضى عن ماضينا حاسبا إيّاه أزمنة جهل ( أع 17 : 30 ). وثق يا أخي أنّه في يوم الرّبّ المهيب لن ينفع عذر ولا اعتذار لأنّه سبق وأنذر قائلا : " إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون " )لو 13 : 3 (.
الحياة الّتي نحياها على الأرض قصيرة جدّا وهي فرصة لنا لكي نتوب ونرجع إلى الله. فإن لم نتب نكون كيهوذا الّذي قال عنه الكتاب : " كان خيرا لذلك الرّجل لو لم يولد " )مر 14 : 21 (. ولدنا على الأرض وذهبنا إلى جهنّم. بعد كلّ ما قاسيناه من الأمراض والأوجاع الجسديّة والنفسيّة وقسوة الحياة وشظفها ومتاعبها. هذه هي حال كلّ من لا يتوب. أما الإنسان التّائب المؤمن فينال الطوبى ويكون كبطرس وبولس وسواهما من القدّيسين الأبرار.
..ولمّا كان الشعب قديما قد أوغل في الفساد وفي شعائر وعادات وتقاليد كثيرة ناسيا أو متناسيا وجوب الطّاعة لله. انطلق الأنبياء ينادون بضرورة التّوبة.. ونحن في أيّامنا هذه لسنا بأفضل منهم إن لم نكن أسوأ. نحن الّذين ندّعي الحضارة والرقيّ والتقدّم. فالفساد منتشر في كل مكان أخلاقيّا وماديّا والابتعاد عن الله مظهر من مظاهر التقدّم ومقاومة كلمة الله هي لون باهر من ألوان الثقافة الحديثة. ناهيك عن تصديق الخرافات والسّعي وراء التقاليد مما لا يتّفق وكلمة الله حتّى غدت خدمة الله نوعا من الوظائف يطلبها بعضهم طمعا براتب يقبضه آخر كلّ شهر عدا عمّا يأتي من مال من هنا ومن هناك. مما ينبئ بالمجيء الثاني للمسيح قريبا جدّا. وغدت المناداة بضرورة التّوبة ضرورة ملحّة لكي يستعدّ من يشاء لهذا المجيء.
منذ ألفيّ سنة والمسيح ينادي إمّا بواسطة الكتاب المقدس أو خدّامه الأمناء أو المؤمنين الأتقياء أن نتوب. وهو يتأنّى علينا معطيا إيّانا الفرصة لنرجع إليه. فهل لبّينا النداء ؟ خاصة ونحن نعيش الأيّام الأخيرة وأصبح ملكوت السّموات قاب قوسين أو أدنى. وبملاحظة بسيطة مخلصة لما يجرى في العالم من فساد في الأخلاق إلى تفكّك في بعض الدّول وتلاحم في بعضها الآخر. ممّا ينذر بشرّ مستطير بدأت بوادره تلوح في الأفق شرقا وغربا شمالا وجنوبا. بالإضافة إلى المجاعات والأوبئة المنتشرة الّتي تهدّد بضررها الواسع العالم. إلى التفجّر السكّاني الرّهيب والتعصّب الدّيني والعرقي والقومي. إلى نبوّات الكتاب المقدّس الّتي تتحقّق الواحدة بعد الأخرى جميعها تكلّمنا عن ضرورة التّوبة الآن وليس غدا.
يعلّمنا الكتاب المقدّس أنّ الحياة قصيرة " أيّام سنينا هي سبعون سنة وإن كانت مع القوّة فثمانون وأفخرها تعب وبليّة لأنّها تقرض سريعا فنطير ". )مز 90 : 10 (. وهذا ما نعرفه ونختبره في كلّ يوم فهذا يموت شيخا وذاك شابا وآخر بين بين. ولا يستطيع أحد أن يضمن حياته ولو إلى لحظات. الموت أقرب إلى الإنسان من ظلّه فمن لم يمت بالسّيف مات بغيره. لذا لا يجوز تأجيل التّوبة.
وهنا لا بد من القول أنّ التّوبة تتمّ بإرادة الإنسان وليس بقوّته. أنا أريد أن أتوب ولكنّني لا أستطيع لأنّني مكبّل بقيود الخطيّة. لذلك عندما تصل البشارة إلى أيّ إنسان يتدخّل الله ويعطي العون والقدرة والشّجاعة بالرّوح القدس لمن يريد كي يتمكّن من التّوبة. ولهذا يقول الكتاب : " لا يقدر أحد أن يقبل إليّ إن لم يجتذبه الآب الّذي أرسلني وأنا أقيمه في اليوم الأخير " )يو 6 : 44 (. والله من جهته يريد : " أنّ جميع النّاس يخلصون وإلى معرفة الحقّ يقبلون ") 1تي 2 : 4 (.
علّمنا الكتاب : " ليس الله إنسانا فيكذب ولا ابن إنسان فيندم. هل يقول ولا يفعل ؟ أو بتكلّم ولا يفي ؟ " )عد 23 : 19 (. فعندما يقول ينبغي ان نتوب الآن يعني ( الآن ) وعندما يوضّح لنا أنّ الفرصة قد تفوت يعني ( قد تفوت ) وإنّها قد لا تعود ثانية.
عندما احتقر عيسو البركة أي احتقر التّوبة والإيمان باع بكوريّته. والبركة كانت تعطى للابن البكر في العهد القديم. باعها بأكلة عدس وبسبب رفضه الطّويل لها فاتته الفرصة فلم يجد للتّوبة مكانا مع أنّه طلبها بدموع وقد حذرنا الكتاب: " لئلاّ يكون أحد زانيا أو مستبيحا كعيسو الّذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريّته. فإنّكم تعلمون أنّه أيضا بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد للتّوبة مكانا مع أنه طلبها بدموع " )عب 12 : 16 – 17 (. وكلمة مستبيحا تعني هنا احتقار الأمور الروحية والهزء بها.
فالآن وقت مقبول وليس عليك إلاّ أن تصمّم على التّوبة وتطلب العون الإلهيّ لكي يسندك الرّبّ ويشدّد من عزيمتك. ولكن إن أجّلت فقد تضيع فرصة الحياة من يدك. فتعال إليه الآن قبل فوات الأوان فيمنحك الغفران والحياة الأبديّة بالمسيح يسوع ربنا. " إذ أقام الله فتاه يسوع أرسله يبارككم بردّ كلّ واحد منكم عن شروره " (أع 3 : 26 ).
..عندما نتوب راجعين إلى الله نحصل على غفران الخطايا والحياة الأبديّة. وهل من نتيجة أهمّ وأعظم من الحصول على الحياة الأبديّة ؟. والدّعوة من الله موجّهة لجميع النّاس على السّواء وهذا النّداء موجّه لكلّ حكيم وعاقل في الكون وفي كلّ أدوار التّاريخ للتّوبة وللإيمان. لأنّ الله ليس إلها عنصريّا للمسيحيّين أو لليهود فقط بل هو خالق الجّميع وينادي الجّميع " ارجعوا إليّ أرجع إليكم " (مل 3 : 7 ). فعندما رجع شعب نينوى الأمميّ إلى الله وقد رافق ذلك صوم لمدة ثلاثة أيّام أي انقطعوا عن الطّعام والشّراب مؤمنين بفداء المسيح كما يرمز اليه في بقاء يونان في بطن الحوت (ابن الانسان في بطن الارض) ثلاث ايام وثلاث ليال تائبين رحمهم. وكلّ من يرجع إليه مؤمنا بالصّليب تائبا يخلّصه إلهنا المحبّ مهما كانت خطاياه. الله من محبّته لنا جاء من السّماء لخلاصنا وعمل هو كلّ شيء عنا. وما علينا إلاّ أن نقبل ما عمله لأجلنا ونترك الخطيّة ونرجع إليه ليخلقنا ثانية.